تحت عنوان المعرض العالمي رقم 1 افتتح في باريس الأسبوع الماضي بقصر طوكيو، وهو من أحد أكبر مراكز الفن المعاصر في فرنسا، معرض لافت للفنان خوتا كاسترو الذي يعتبر من الفنانين الأكثر التزاما واشتغالا علي البعد السياسي والأكثر حضورا في ساحة الفن المعاصر العالمية. ولد خوتا كاسترو بليما عاصمة البيرو عام 1964 وبعد فوزه بمنحة دراسية بفضل ديوان شعر هاجر إلى فرنسا وبلجيكا لاستكمال دراسته وللعمل كدبلوماسـي مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وابتداء من التسعينيات هجر ماسترو عمله الدبلوماسي للتفرغ للفن. وفي غضون سنوات قليلة تمكن هذا الفنان الحيوي من فرض أعماله في مراكز الفن المعاصر الدولية وفي البينالات الفنية المعروفة من باريس إلى نيويورك مرورا بلندن وبروكسيل والبندقية.
الفن الذي يمارسه كاسترو يجمع بين النحت والتركيب والفيديو ويتنـــاول الإشكالات المرتبطة بالإعلام والسياسة والظواهر الاجتماعية. لكن كاسترو لا يمكن أن نختزله في البعد السياسي الذي يسكن أعماله. فالرهان الذي يسعي إليه في أعماله يتعلق بإبراز سلطة الخطاب سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا وذلك عبر وضع اللغة والعلامات البصرية في قلب العمل بشكل يململ المشاهد ويستفزه. ويلعب الإعلام، بالمفهوم العام، دورا حاسما في أعماله وفي عملية تنفيذها وهذا ما عبر عنه مؤخرا بقوله: أعمالي تهدف إلى إعطاء المتلقي معلومات دقيقة للجمهور حول مواضيع تهمه هكذا مثلا قام عام 2003 في إطار بينالي البندقية للفن المعاصر بتقديم دليل المتظاهر وهو بمثابة صحيفة تحتوي علي معلومات شتي حول حقوقهم والقوانين المرتبطة بحالات الاعتقال. كما أنه فاجأ الكثيرين بإقامته لقطعة هي عبارة عن غرفة سماها Love hotel واشتملت علي كل مستلزمات ولوازم ليلة حب. أو تنظيمه لقراءات قصصية في شوارع مدينة رين قام بها أبناء المهاجرين. كما أنه فاز بجائزة بينالي كوريا عن عمله أنجزه قبل خمس سنوات يتناول موضوع الألغام الأرضية الموجهة للأشخاص. ويقارن بعض النقاد أعمال كاسترو بأفلام المخرج الأمريكي مايكل مور لتشابههما في التناول الفني للظواهر السياسية وانتقادهما العنيف لخطابات الهيمنة السياسية والاقتصادية.
جرب ان تكون عربيا أو زنجيا لساعة واحدة؟
وكعادته اختار كاسترو يوم افتتاح المعرض ليحوله إلى حدث فني بحد ذاته وسماه يوم التمييز العنصري . فبالاتفاق مع المسئولين عن المركز تم وضع مدخلين لاستقبال الجمهور: الأول مخصص للزوار البيض فقط، والثاني مخصص للملونين عربا وسودا وآسيويين. والفكرة هي أن يجرب البيض ولو لبضع ساعات المعاناة التي يرزح تحتها الملونون بسبب العنصرية. هكذا تساهل حراس المعرض مع الملونين ورحبوا بهم بحفاوة في حين أخضعوا البيض لعملية تفتيش دقيقة وبعض المضايقات فيما يخص هندامهم جعلتهم ينتظرون طويلا قبل أن يلجوا أروقة المعرض. ولم تخل الفكرة من مجازفة ذلك أن بعض الزوار اعتبروها فكرة مصطنعة ودفعت بعضهم إلى العدول عن الدخول. لكن الزوار علي العموم تجاوبوا مع الفكرة أما العرب، وكاتب هذه السطور من بينهم، فقد استحسنوا الفكرة وهنئوا الفنان عليها. وبدا واضحا أن الفنان قام بهذا الافتتاح ليعكس داخل المعرض ما يروج خارجه من حيف عنصري يتعرض له العرب والزنوج وليجعل من هذه الظاهرة عنصرا أساسيا في معرضه. كما أن حدث الافتتاح جعل من الزوار طرفا أساسيا ساهم في العمل بحيوية.
هذا عن الافتتاح والآن لنمر إلى الأعمال المعروضة ذاتها. العمل الأول الذي يصادفه الزائر في المعرض عبارة عن تركيب يدعوه إلى تجاوز عتبة ستارة من السلاسل والأغلال الحديدية وبعد ذلك الجلوس علي كنبة مريحة والتفرج علي شريط فيديو يَظهر فيه خوتا كاسترو يعبر عن ألمه لفقدان أحد أصدقائه الذي انتحر شنقا والطريقة التي يعبر فيها الفنان عن ألمه وحداده تمثلت في قيامه بتهشيم قطعة ضخمة من الزجاج يبلغ حجمها 400 متر مربع بواسطة مطرقة ضخمة.
ومن أجل التعبير عن سخطه علي العنصرية السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وعلي غطرستها الامبريالية في حربها علي الإرهاب أقام كاسترو وسط المعرض زنزانة حديدية عبارة عن قفص يشبه إلى حد كبير أقفاص معتقل غوانتانامو. وقبالة القفـــص تدلت من السقف حبال كأنها مخصصة للشنق تحيل إلى ما سمته عازفة الجاز الأمريكية الراحلة بيلي هاليداي في احدي أغانيها أشجار بثمار غريبة في إشارة إلى عنصريي الجنوب الأمريكي في بداية القرن العشرين الذين كانوا يقومون بحملات تأديبية ضد السود ويشنقون بعضهم ثم يتركونهم يتدلون عبرة للآخرين.
وعلي جدران مساحة تفوق المئة متر علق الفـــــنان 200 صورة بالأبيض والأسود لمشاهير من مختلف أنحاء العالم وأناس عاديين من محيطه العائــــــلي أثروا في مختلف فترات حياته من بينهم بعض العرب أمثال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أو جمال عبد الناصر مع تفصيل لافت يتمثل في أن إطارات اللوحات الزجاجية مهشمة فجاءت كما عنوان العمل أيقونات مهشمة .
الفنان خوتا كاسترو:
هدفي أن أحث علي التفكير
*كيـــــف جئتَ إلى الــــفن أنت القادم من العـمل الدبلوماسي والقانون الدولي؟
قد يبدو ذلك معقدا للوهلة الأولي. لكني أعتبر أن تكويني الأكاديمي في القانون الدولي والعلوم السياسية وتجربتي المهنية هما بمثابة تكوين فني. أعتقد بأن الفنان الذي يطمح لتحليل وتأويل معطيات عصره عليه أن يستوعب الأدوات والمعارف والمفاهيم التي تتيح له مقارعة الواقع. المفارقة هي أنني رفضت منذ البداية أن انتسب إلى معهد فني وحتى الآن مازلت أعتقد بأن مدارس ومعاهد تدريس الفن مضيعة للوقت ولا يتخرج منها في الغالب سوي المستنسخين والمقلدين. ان حبي الأول هو الأدب ومنه عبرت إلى الفن. وبفضل جائزة شعرية في البيرو توفرت لي منحة لدراسة الأدب في أوروبا. وذات يوم شرح لي الشاعر الكبير أوكتافيو باز بأنني أتوفر في دواخلي علي المهم والأساسي فيما يخص الفن وأن الباقي يتلخص في العثور علي المواضيع وأشكال التعبير. آنذاك لم أع جيدا ما كان يقصده لأنني كنت أعتبره عجوزا محافظا لكنني أدركت فيما بعد أنه التقط الحقيقة فيما يخصني.
*ما هي طبيعة العمل الذي كنتَ تقوم به في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة؟
عندما تخرجت من المعهد الأوروبي في مدينة بروج البلجيكية حيث درست علم إدارة شؤون الأقليات اشتغلت في مقر الاتحاد الأوروبي. والواقع أنني كنت دائما مقتنعا ومتحمسا لفكرة الاتحاد الأوروبي رغم كوني أول طالب غير أوروبي يتخرج من المعهد الأوروبي. بعد ذلك اشتغلت في الأمم المتحدة وضمن منظمة الدول الأمريكية في ميدان حقوق الإنسان والمساعدة التقنية علي تنظيم الانتخابات في بلدان العالم الثالث. أهم شيء في هذه التجربة المهنية هي أنك تشتغل مع أناس من عرقيات وبلدان مختلفة الأمر الذي يتيح للمرء توسيع مداركه.
*كيف تُعَرِّفُ منطلقك الفني؟
منطلقي الفني أحدده علي مرحلتين. أولاهما أنني أسعي إلى ملاحظة أشياء وأحداث العصر الذي نعيش فيه لأنتقل في المرحلة الثانية إلى تأويله انطلاقا من تلك الملاحظات. إنني أحاول جاهدا أن أغرس عملي ضمن اليومي بشكل بسيط وفي متناول شرائح عريضة من الناس.
*وما هو هدفك من كل هذا؟
هدفي أن أحث علي التفكير. ان حفّز عملي المتلقي علي طرح بعض الأسئلة وذهب أبعد مما أقترحه عليه فأنا أعتبر أنني أديت مهمتي. وان هو كون فكرته الخاصة حول موضوع ما انطلاقا من عملي عندئذ أعتبر أنني نجحت في مهمتي كفنان. وهذا ما أسميه بـ مكتسب الفنان وهذا المكتسب هو بالتحديد ما يدفع الفنان إلى الأمام لتطوير نفسه وأدائه بحثا عن جديد يقدمه للجمهور.
*لماذا تحرص علي وضع أعمالك الفنية في صلب النسيج الاجتماعي؟
لأن المواضيع المرتبطة بالمجتمع تثيرني وتلهمني في الوقت الراهن. المجتمعات تتحرك وهذا ما يبعث خوف السلطات السائدة. ان الناس يبحثون عن مرجعيات جديدة لقراءة الأحداث مثلا ولتبادل هذه القراءات. ان مجتمعاتنا مادة يجب عجنها وإعادة دلكها باستمرار. انها أرض بحاجة إلى تعريف جديد من دون غموض مفتعل. ان المجتمع هدية من السماء بالنسبة للفنان ولا أحد يستطيع منعكَ من الاشتغال عليه وتأويله. ويبقي الأساسي والأصعب هو التوصل إلى طرق مناسبة للاتصال وتبسيط الخطاب. هذه هواجس في غاية الإثارة بالنسبة اليَّ.
*انك تطور نوعا من الاحتجاج عبر مشاهد ولقطات فنية. لماذا اخترت الفن كوسيلة بدل التحرك علي أرض الواقع للدفاع عن أفكارك؟
هل تظن يا عزيزي أنني بهذا الوجه الذي تراه أمامك وهذه اللكنة اللاتينية سيصوت الناس لصالحي ان أنا تقدمت للانتخابات ! لكن ان نحن وضعنا هذا الاعتبار العرقي جانبا فأفكاري تصبو إلى تغييرات جذرية في المجتمع والسياسية ما قد تدفع الناس، أقصد الإنسان العادي، إلى الحذر منها. الفنان بالنسبة لي إنسان يعيش في صلب الواقع وهو باختياره للفن اختار التواصل مع الناس وليس الترفع عنهم تحت ذريعة الاعتبارات الجمالية. أنا لست أصما أبكما اجتماعيا. كما أنني كمثقف أعتبر نفسي مُجبرا علي القيام برد فعل فني اتجاه ما يحدث حولي خاصة إذا تعلق الأمر بأحداث أو حالات تحدث خللا اجتماعيا.
*أعمالك لها أحيانا منحي تربوي أو تعليمي رغم أنها تحتفظ بشحنة صادمة وعنيفة. كيف تتوصل إلى إقامة توازن بين هذين البعدين في أعمالك؟
قد تكون أغلب المواضيع التي أتناولها مشوبة بنوع من الصعوبة. لهذا فأنا أبحث دائما عن وسيلة فعالة لتمرير رسائلي وتوصيلها. لهذا قد تبدو منطلقاتي أحيانا تربوية لكنني أتفادي التعامل مع المتلقي كطفل أو كغبي مما يدفعني إلى الحفاظ علي نوع من العنف والقوة في العمل. لدي الفرنسيين تعبير شائع يعجبني ادخل في الشيء وهذا ما أفعله مع المتلقي أحيانا أدخل فيه أو استفزه. وأنا لا أجد صعوبة في إقامة التوازن بين المنحيين التربوي والاستفزازي. أنا أمارس فنا راشدا موجها للبالغين لذا فأنا لا أتعامل مع المتلقي كقاصر. وهذا موقف شخصي من اتجاه معين في ساحة الفن المعاصر السائد حاليا. فبعض الفنانين يتعاملون مع المتلقي فيما يشبه اللعب الطفولي الأمر الذي يفسر شيوع قطع فنية ترتكز علي المحاكاة واللعب. إنني أغتاظ من هذا النزوع إلى العودة إلى عوالم الطفولة من أجل الإحساس ببعض السعادة.
*لكن هذا النزوع لا يوجد في الساحة الفنية فقط نجده في المسرح والرواية والسينما...؟
نعم هذا موجود في شتي المجالات وأعتقد أن الأمر يتعلق بخاصية جيل بأكمله لا يريد أن يخرج من عوالم الطفولة ويفعل المستحيل لكي لا يري الواقع بعين البالغ والراشد وأن يتحمل مسؤوليته تجاه الواقع. بل أن هناك نوعاً من الإجبار على أن نبقي شبابا إلى الأبد في طريقة اللباس والاستهلاك والثقافة ملوثة أيضا بهذه الظاهرة. فيما يتعلق بي فقد حاولت منذ بداياتي أن أصالح بين نزوع نحو التفسير بطريقة تربوية وبين الحفاظ علي غضب داخلي تثيره فيَّ بعض المواضيع.
*كيف تري دور الفنان في السياق الحالي؟
دور الفنان صار واضحا بالنسبة لي عندما أدركتُ أن الفنان إنسان مثل الآخرين وأن لديه أشياء يجب أن يقولها ويفعلها. الفنان ابن زمنه وعصره وعليه أن يساهم في فهمه وتأويله وليس فقط في التفرج عليه بحياد. الفنان ملزم أيضا بضرورة إبداع أشكال جديدة من أجل توصيل رسائله وإقامة حوار بينه وبين المتلقي وعليه أن يفعل ذلك من دون الاستسلام للأشكال السائدة وكأنها أشكال أبدية.
*أي علاقة تبنيها أو تطورها أعمالك الفنية اتجاه السلطة؟
العلاقة بسيطة. فالسلطة بالنسبة لي هي معرفة تأويل الأخبار التي تحيط بنا. أحاول عبر الالتجاء إلى بعض انجازات العلوم الإنسانية إلى إظهار بعض الأخبار التي تهمني وإبراز كيف أنها أحيانا دعاية مغرضة أو إعلانات مقنعة. وهذا ما نلمسه مثلا أحيا في السلطة التي يمثلها الاتحاد الأوروبي. أعطيك مثالا لتوضيح فكرتي عبر قطعتين فنيتين عرضتهما قبل ثلاث سنوات The Flag وThe Sleeping Commiion. ففي الأولي وضعت علما أوروبيا علي قضيب منتصب لمهاجر مغاربي في حالة عري وجنبها كتبتُ بخط عريض العبارة المستهلكة والمجرورة: الرغبة في الاندماج باللغات الأوروبية الإحدى عشر. هذه القطعة جواب علي الإعلان الذي قام به الاتحاد الأوروبي في إطار حملته ضد الميز العنصري ونري فيه رجالا سود يركضون في اتجاه أوروبا ومجموعة من الغجر يرقصون ويشطحون. ان الجانب الاستفزازي المتعمد في هذه القطعة هو لتوضيح أن مهاجري الجنوب لن يتوقفوا عن الهجرة نحو أوروبا وأن رغبتهم في الاندماج شيء طبيعي من دون المرور عبر كليشيهات تحض الأوروبيين علي قبول الأجنبي . المثال الثاني لتوضيح العلاقة بين العمل الفني والسلطة هو مخدة بيضاء موضوعة علي قطعة من الصلب نقشت عليها رؤوس المفوضين الأوروبيين وتلك كانت طريقتي للتعبير عن عدم اقتناع المواطن الأوروبي بهرمية السلطة في الاتحاد الأوروبي وبضعف هذه المؤسسة وهشاشتها خاصة في السياق الذي نعيش فيه حاليا. ان السلطة تستحق أن تؤَوَّلَ من طرف الفنانين، ذلك أننا لسنا ممثلين لهذه السلطة.
*هل تقصد بهذا أن وضعية الفنان كغريب وضعية مثالية أو وضعية تتيح له إمكانية الانفتاح علي عوالم أكثر رحابة؟
سؤالك هذا لا يمكنني الإجابة عنه سوي بشكل شخصي. لقد أحسست دوما بأنني غريب حتى في موطني الأصلي البيرو. في اعتباري يبقي الغريب شخصا يذهب نحو البعيد بدافع الفضول. شخص يهضم الخارج بالضرورة كي يتمكن من فهم دواخله.
*ما هي مشاريعك القادمة؟
أشتغل علي عدة مشاريع في ذات الوقت حاليا. أشتغل علي معرض أسميته ليل الدواليب وهو عمل حميمي يدور حول أسراري ومشاعر الخوف التي تنتابني. لكن المشروع الأهم الذي أنوي تحقيقه قريبا هو معرض في العاصمة الشيشانية غروزني أريده ردا علي بينالي موسكو الأخير الذي قاطعته بسبب عدم تحمل بعض الفنانين الروس مسؤولياتهم إزاء جرائم الجيش الروسي في الشيشان.
القدس العربي
19 فبراير 2005