(بيير ألشينسكي في نيويورك.) |
يكشف متحف الفن المعاصر في "مركز بومبيدو" للمرة الأولى الثروة الهائلة التي يملكها من الرسوم واللوحات الورقية والخاصة بتجارب الفنان البلجيكي الأصل "بيير ألشينسكي" (مولود في بروكسيل عام 1927), تصل هذه الكمية الى مئتين وخمسين, انتخب منها مئة لوحة يغلب عليها الرسم الحر, وقدمت في معرض شامل يعكس شريط تطور هذا الفنان الذي يملك موقعاً خاصاً اليوم.
من المعروف أن أهم خصائصه الفنية أنه لا يفصل اللوحة عن مفهوم الرسم أو الطباعة, وذلك لسبب تدربه على وسائطها الغرافيكية, بخاصة الرسوم التوضيحية والمشاريع المشتركة مع الكتابات الشعرية, بمعنى أن لوحاته يغلب عليها طابع الرسم والتخطيط والكتابة الحدسية, ورسومه بدورها هي لوحاته.
يتناقض العنوان مع واقع الحال, لأنه يتحدث عن "50 عاماً من الرسم", وبدليل أن اللوحتين العملاقتين اللتين احتواهما العرض, أنجزتا مثل بقية المعروضات بالورق وألصقتا على القماش وصورتا بأنواع الحبر واللافي والاكريليك, طوقتا بهوامش بانورامية من الرسم التلقائي الذي يقع بين التداعي السوريالي والكتابة الحدسية: الأولى أنجزت عام 1967 بعنوان "تحت النار" والثانية عام 1981 عنوانها "انسلال الذاكرة".
هي مادة العرض بعامة والتي تعتمد في تنوعاتها على الفروق بين الورق الصيني والياباني والتايواني, أو الخرائط والمصورات البحرية والبرية وسواها, يطلق عليها هو نفسه تصاوير من الكتابات الورقية, وكان أهداها خلال سنوات طويلة الى قسم "فن الغرافيك" الذي عرضتها صالاته شهر أيلول (سبتمبر) الماضي.
حتى نتحرى هذه الصبوة الكتابية علينا أن نرجع الى عام تأسيس "جماعة الكوبرى" (البلجيكية - الهولندية) 1949 من قبل ألشينسكي وكورني, أسجير وجورن وآبيل. اجتمع هؤلاء على محاولة البحث عن المناطق التعبيرية السحرية الوثنية أو البدائية في إشارات الذاكرة الانسانية (مثل فنون ما قبل التاريخ على جدران الكهوف, وفنون الألسكا وأستراليا), محاولين تجاوز حدود "التعبيرية" المألوفة ومساحة "الفن البكر" التي كان داعيتها في باريس جان دوبوفي.
كان ألشينسكي يتميز منذ تلك الفترة بميله الى الدمج بين الصورة والكتابة (بتأثير ميشو), وقد وصلت الرغبة في تعطيل رقابة العقل في لوحة هؤلاء أنهم أنجزوا بطريقة تجريبية لوحات مشتركة, وما إن تفرق شملهم بعد عام حتى استقر ألشينسكي في باريس متمسكاً بالروح الجماعية - الاجتماعية في الإنتاج الإبداعي, ونجده يعمل مع عدد من الكتاب والشعراء عاقداً توليفاً تزامنياً رهيفاً بين الصورة الكتابية أو الكتابة الصورية, ما يفسر اجتماع الكتابة لديه مع التخطيط, خصوصاً أنه كان متعلقاً بموسيقى "أريك ساتي" وروحه الجماعية في بعض "سوناتات" البيانو, هي التي تعزفها أربع أيدٍ (عازفان على الآلة نفسها).
الفن الصيني
لا يتظاهر التحول الكبير في فنه إلا مع بداية معاشرته الفنانين اليابانيين (مثل كيوتو) والصينيين (مثل تينغ) والتايوانيين في باريس. فقد عثر في فلسفتهم التشكيلية على ذلك اللقاح الذي يبحث عنه بين الصورة والكتابة, بين الشعر والاشارة المرسومة بعصف الفرشاة النزقة التي تحافظ على الطفرة الحدسية الأولى. وهكذا استعار أدواتهم كالفراشي المائية وموادهم من الحبر الصيني والغواش واللافي الى أنواع الورق الرحب, وأصبح يصوّر مثلهم مباشرة على الأرض, وترسخ التأثير "البوذي - الطاوي" في رسومه عندما زار اليابان عام 1955, موثقاً هذه الطقوس في فيلم بالغ الأهمية.
إذا تأملنا الحلزونيات الموجية في كتابات المعرض عثرنا على التأثيرات المباشرة لكبار معلمي "الاستامب" الياباني ابتداء من موجة "هوكوساي" وانتهاء بموجة "هيروشيج", فقد استطاع أن يستعير من تراثهم البصري ما هو أساس وحدسي في الكتابة التلقائية, هي التي تلبّي صبوة التداعي في تربيته السوريالية.
الانعطاف الثاني المكمل جاء عام 1965 عندما أصبح ناشطاً في نيويورك مكتشفاً خصائص التلوين ب"الاكريليك" بدلاً من الزيت, تلك المادة الحداثية التي تحافظ على سيولة اللون وقوامه الغرافيكي الحاسم, فأقام عدداً من المعارض بهذه المادة, ولن نعثر في المعرض على صباغة لونية خارج هذه المادة, خصوصاً أنه مثل اليابانيين يحاول الاقتصار في تلاوين الضوء على مشتقات الخط الأسود وتمديداته الشفافة.
يستعيد في كتاباته رعشة الفرشاة الواحدة المبللة بالحبر حتى الثمالة, باحثاً عن قوس قزح في الرئة القدسية للفراغ. ثم تأسلبت تكويناته, بحيث ثبتت حشود الهوامش لتُصبح أشد خصوبة من الرسم المركزي, وذلك ضمن حساسية سردية لا تنضب ولا تعرف حدوداً للفراغ خارج ساحة الورقة الرحبة.
تمثل تجربة ألشينسكي ذلك التلاحم واللقاح والتواشج والتزاوج من دون أدنى تهجين بين أقصى تراث الغرب وأقصاه في الشرق. بقي أن نخصص دراسة متمعنة تسبر تأثير منهجه في تيار "الحروفية" العربية, هو التيار الذي يسمح بالاستعارة والاستحواذ والاستباحة من دون مسؤولية الاعتراف بالآخر, خصوصاً أنه فن ذو خطاب قومي.
الحياة
2004/10/13