كان جمهور "مركز SD" في بيروت، أوّل من أمس على موعد مع معرض فوتوغرافي لجيلبير حاج، ومحاضرة خاصة جداً لعبّاس بيضون من وحي الصور، للاحتفال بمناسبة على قدر من الأهميّة، ليس فقط على مستوى لبنان، بل على نطاق العالم العربي. المناسبة هي افتتاح المقرّ الجديد لـ"مؤسسة هينرخ بُل" الألمانية، المعروفة بنشاطاتها الفكرية والسياسية من أجل الحوار بين الشمال والجنوب، والتنمية الطويلة الأمد، وقضايا اجتماعيّة وثقافيّة وحضاريّة كثيرة تدور حول مجتمع الاتصالات والعولمة والديمقراطية وحقوق المرأة وقضايا السلام العادل...
على جدران فضاء "مركز داغر الفنّي" انتشرت وجوه شاردة، أو بالأحرى مبحرة ترصد نقطة ما في الغيب، أو تغوص في أعماق الذات الدفينة. عيون محدّقة في الفراغ، أو في مكان غير محدد، من خلال عدسة الكاميرا. ما سرّ هذا القلق الذي ينتابنا؟ حالة انزعاج غامض ترشح من مكان ما في الصورة. وجوه عابسة ترمقنا ربما، كأنّها تتهمنا أو تلومنا أو تكتم كلاماً، تحجب عنّا حكايات لن نعرفها أبداً، ولعل المناخ العام يختزن قدراً من العنف والمشاعر المكبوتة: قسوة؟حيرة؟لا مبالاة؟...
الوجوه كأنّها أخذت في لحظة خاصة، عند ذروة الجدية أو المأسوية. مع أنها لقطات مدروسة، معد لها سلفاً، لا علاقة لها بعنصر المباغتة، ولا تترك للعفويّة أو الارتجال مكاناً. أنها وجوه عادية لشباب وصبايا يخيل إلينا أننا التقيناهم اليوم أو البارحة، وجوه عابرة، عارية، اقتنصتها كاميرا جيلبير حاج بأكبر قدر ممكن من الحياد، بلا ديكور أو تنميق أو تفنن في الوضعيات... الخلفية الغامقة نفسها دائماً، والإضاءة عينها تغمر الوجه بوشاح خاص، والوضعيّة "المتأهبة" إياها... لقطات تظهر الثلث الأعلى من الشخص. كما السجناء عند اعتقالهم (لكن من دون اللقطة الجانبية)، إذ يبهرهم الفلاش، ويخرجهم من ذهولهم وضياعهم...
إنّها وجوه جيلبير حاج، أحد أبرز المصوّرين الفنيين في لبنان. بورتريهات تندرج ضمن مشروع قيد التشكّل ما زال عند مرحلته الأولى، بعنوان "الآن وهنا"... يستدرج حاج "موديلاته" الى هذه اللعبة الغريبة التي على كثرة تكرارها تأخذنا الى شيء من الأسلبة والتجريد الميتافيزيقي... إنّه، كما يوضح المصوّر بنفسه، يسبر "خفايا الروح وخبايا الإنسان"... ويرصد المتحوّل في الطبيعة البشرية، انطلاقاً من جدليّة الحضور والغياب، الثبات والحركة....
ويمكننا أن نتصوّر كم يشكل هذا الشغل مادة خصبة لشاعر مثل عبّاس بيضون الذي سينشغل لأكثر من نصف ساعة، في "مركز داغر" وسط صور المعرض، في رصد تلك المسافة الشاسعة (والواهية في آن) بين الوهم (الايديولوجي أحياناً) والواقع السافر، بفجاجته وحيويته التي تستعصي على كلّ القوالب. منطلقاً من صور جيلبير حاج، استسلم بيضون - بلغة تبلغ ذروة الفصاحة - لشتّى أنواع الاستطرادات الفلسفيّة والقراءات التفكيكية والتأملات الشعرية، الهاذية أحياناً، كما يمكن لشاعر كبير، ومثقف متعدد المناهل والتجارب، وحده أن يهذي... تلك "الدردشة" مع صور جيلبير حاج التي كان يفترض، (بحسب دعوة "مؤسسة هينرخ بُل") أن ترصد إشكاليات الهوية الثقافيّة في لبنان ما بعد الحرب، أوصلته الى "الشموليّة" بكل أشكالها، بدءاً بتوحيد الصور وتجريدها من كل ألوانها وفروقاتها... مروراً باستعادة كلّ الأوهام الإيديولوجية: من "اللبنانويّة" الى "العروبويّة" وفشلهمــا في مصـــادرة وطـــن بقي للجميع، ولغة لا مفرّ من أن تواكب الحياة.
وسسأل بيضون: "هل يمكن أن تربح فكرة مجرّدة، أو صورة مصطنعة، على الواقع؟ هذا ما يحدث كثيراً حين يكون الواقع مؤذياً أو مخجلاً أو حتّى متضايقاً. لكن هل يعني ذلك أن الحاجة الى صورة أخرى وهم بحت؟ وهل يمكن أن نسمي وهماً ما قد يغدو محركاً لحروب وعواصف دولية؟ أليست مثالاتنا وأوهامنا هي جزء من واقعنا؟".
وكانت كيرستن ماس مديرة "مؤسسة هينرخ بُل"، رحبت بالحاضرين ومهدت لمحاضرة بيضون معتبرة أنّه بغنى عن التعريف، ومشيرة الى أنّه صار معروفاً جداً في ألمانيا. ثم انتقل الجميع لتدشين المقرّ الجديد للمكتب الإقليمي (مصر، الأردن، لبنان، فلسطين...)، في حيّ الجميزة، وتحديداً في العمارة التي تشغل طابقها الأرضي "قهوة القزاز"!
والمعروف أن المؤسسة التي تحمل اسم الكاتب الألماني المعروف صاحب "شرف كاترينا بلوم الضائع" (نوبل للآداب - 1973)، كانت ناشطة في رام الله لسنوات، وأنها مقربة من حزب الخضر الألماني، وتنشط في مجالات عدّة منها الحفاظ على البيئة، وديموقراطية الجندر، وقضايا الديموقراطية والمجتمع المدني، ومد جسور الحوار والتواصل بين الشعوب بغض النظر عن الاختلافات الاتنية والعرقية والدينية، وقد نشطت في قمة جوهانسبورغ وبورتو اليغري وملتقى المجتمع المدني في كنكون. ومن برامجها:
"المواطنة"، "العولمة الثقافية"، "التنمية المستديمة"، "العولمة والمعلومات"، "الثقافة والتنمية".
الحياة
2004/11/5