حقق الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي رغبته في توجيه تحية إلى الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا من خلال معرض نظمه بالتعاون مع غاليري «ميم» أولاً في دبي، ثم في بيروت (صالة المعارض الكبرى التابعة لسوليدير- البيال) أقيم تحت عنوان «الفن في العراق اليوم». وهذا العنوان مستعار أصلاً من دراسة كتبها النـــاقد جــبرا إبراهيم جبرا، منذ نحو نصف قرن، أثناء مرحلة انطلاقة الموجات الفنية الحديثة في بغداد عام 1961.
يأتي هذا المعرض بخطابه التشكيلي مكملاً لمسيرة الحداثة وتجلياتها في أزمنة ما بعد الحداثة، عبر استعادة الذاكرة الفنية المهاجرة والمشتتة في أكثر من عاصمة عربية وأجنبية منذ مطلع الثمانينات. كما لو أن ضياء العزاوي يجمع في هذا المعرض ملامح الأحلام الفنية التي تفرعت في مدن الاغتراب، خلال سنوات الحروب والاحتلال، من شجرة الفنون العراقية المعاصرة، لا سيما بعد سرقة مقتنيات المتحف الوطني الحديث، وسلب المجموعات الفنية الموزعة في المنازل واغتيال الذاكرة الثقافية للفنون التشكيلية العراقية.
«كيف نموت طالما بإمكاننا أن نحلم» هذا القول للشاعر اللبناني جورج شحادة زاوله ضياء العزاوي في تصديه لحالات الموت والخراب والفساد والمآسي الكبيرة التي انتشرت على الأراضي العراقية خلال سنوات الاحتلال، من خلال جمع «شتات الأحلام الفنية الشـــابة المبعثرة في مدن الهجرات القسرية» في محاولة للتأكيد على استمرارية الإرث الثقافي ونمو ركائزه الإبداعية المستمدة من الوجدان الثقافي والوطني الحضاري.
مخاطبة المشهد الدولي
سعى ضياء العزاوي، في معرض «الفن في العراق اليوم»، إلى مخاطبة المشهد الفني الدولي، لتحقيق ما يمكن تسميته هوية الحضور الإبداعي العراقي مع طروحات ما بعد الحداثة.
مسار فريد في جماليته الشعرية يكشفها المعرض، حيث يجمع في حكايات سطوحة وتكاوينه وصوره، ما بين العشق واللوعة، والذكريات والغياب، بحلول منطق الترميز وتجليات اللغز القادم من قوة الاختبار والتجريب. وهذا ما نلمسه في حضور الرسم وتقنيات الطباعة، وكذلك في مظاهر التجميع والتداخل في جيولوجيا السطوح اللونية وجمالية الضربات العميقة الأثر والدلالة.
ثمة أسئلة يطرحها المعرض، هل حقائق الهجرات آتية من وهم الشتات (من الاحتجاج والتمرد الذاتي) تماماً كما هي حقائق الذاكرة اللونية الحاملة شعلة براكين المشاعر المستعادة من فضاء الوطن المصاب بلعنة الخراب؟. أم أن الحقائق الفنية الجديدة آتية من قراءات نابعة من اللامكان من شلالات العدم ومن الفراغ واللاشيء الذي يحتفي بالحدس الشعري الدافق والهارب من هاوية فجائع الحروب؟.
قد تشكل هذه الأسئلة مدخلاً لتحليل أعمال الفنانين العراقيين الشباب الموزعين في مدن الشتات، الذين صنفهم ضياء العزاوي وفق مجموعات. ضمت الأولى ثلاث تجارب شابة ذات مصادر فنية مختلفة مع تنوع واضح في استخدامات المواد ووسائطها التقنية وأشغال السطوح التشكيلية، بإشارات محلية وتجريدية في محاولة لصياغة نشيد رثائي ملحمي، كما يتضح في أعمال هناء مال الله، التي عملت على جمع لفائف من التمائم والأحجبة موضوعة على مسطح من بعد واحد، كمطويات من القماش المحروق، للمجاهرة بهويتها الفنية الجديدة الآتية من «مصطلح تقنيات الخراب».
أما مظهر أحمد فقد دمج بين الحركة الدائمة للكتل اللونية والحركة المسافرة لإيقاعات الخربشة والرسم التلقائي الذي يختزل مرايا الحياة كطيف لأجساد إنسانية هاربة، مستخدماً الإشارات والعلامات المستعادة من أبجدية ذكريات الطفولة التي لا تموت.
أما المجموعة الثانية من الفنانين فقد حملت أعمالهم توجهات من فنون ما بعد الحداثة وضمت كلاً من كريم رسن وغسان غائب ونزار يحي. استعاد الأول الدلالات الرمزية والعلامات الشكلية والكتابات العشوائية والشعارات التي ترسخت في ذاكرة جدران الحرب في بغداد، استعادها كما لو أنها جدران الكهوف البدائية التي تحكي حكايات الأهوال المتراكمة والاغتيالات وعمليات الصيد والقتل الجماعي في أزمنة الحروب المفتوحة. أما غسان غائب فقد دمج في لوحاته وأعماله التجهيزية، ما بين الوثائق وتجليات الحالات الشعرية الآتية من قوة الحقائق الجديدة، ومن نسغ فروع شجرة الاغتراب وأحلام المنافي القسرية الراهنة. فقد سعى لتجسيد غضبه حيال المشهد الذي حول دجلة إلى نهر كابوسي مغطى بالدم والأنقاض والمواد المشعة والملوثة.
هذا النهر الذي تغنى بجماله الشاعر الجواهري في منفاه واسماه «دجلة الخير» استعاده نزار يحيى في تقاسيم لوحاته في محاولة للاحتفاء بالنص الشعري الكامن في الحنين إلى العصر الذهبي، المبرر الذي دفعه إلى توظيف هذا الحنين عبر تكاوين أسطوانة غائرة تحمل في طياتها طيف الشاعر.
وتختلف المجموعة الثالثة التي ضمت كلاً من عمر سلمان داود، ودلير سعد شاكر وهيمت علي، عن المجموعتين السابقتين بمرجعيتها الفنية المعاصرة في استخدام التقنيات المفتوحة على جماليات الطباعة والرسم الحر واستخدام السطوح النافرة أو النابضة، في التعبير عن جماليات الدمج ما بين كولاج الأقمشة المستعارة من الأنسجة الشعبية وجيولوجيا الخرائط المستحدثة للأرض العراقية المنكوبة بفعل الحروب. ولعل أجمل ما قدمته هذه المجموعة هو عمل تجهيزي لدلير شاكر بعنوان: كتاب أخلاقيات الحروب.
أيقونة الحرب
أما المجموعة الرابعة فتكونت من محمود العبيدي وحليم الكريم وعلي جبار وأحمد البحراني. ويمكن اعتبار العبيدي من رسامي السنوات الحرجة، التي قضاها في المنفى وهو يسعى في محاولاته الدؤوبة لتوثيق كل ما حط به من ظروف اجتماعية وسياسية بروح غير محايدة، وهي ترتبط عناوينها بالحرية المطلقة في التعبير عن تأثيرات الحرب.
أما حليم الكريم فقد انطلق من صورة الرجل الملثم باعتباره أيقونة الحرب بامتياز، مستخدماً تقنيات الديجيتال. فكل صورة تتكون مما لا يقل عن ثلاث طبقات من الألواح الفوتوغرافية السلبية الممسوحة ضوئياً بالسكانر، حيث يتم التركيز على الطبقة الوسطى التي تكشف عيني الشخصية المصورة، بينما تُمحى المساحة الواقعة خارج البؤرة بمواد كيماوية، هكذا تظهر عينا الشخص من داخل ضبابية محيطة وكأنهما دليل على البعد الإنساني المصان الذي لا بد من حمايته.
بينما نرى لوحات علي جبار تتجه على عكس مظاهر منحوتاته التشييدية إلى إظهار ما اسماه بالدعوات الزائفة. أما منحوتات أحمد البحراني فهي تعكس جماليات تقـــطيع أوصال الشكل (على حد تعبير ضياء العزاوي) لكي يعيد توضيبه مرة أخرى من أجل خلق عوالم ذات لمحات مبهمة وخاطفة بالحرف العربي ومساراته الجمالية حيناً أو أشكال هندسية ذات أبعاد مستمدة من الطبيعة.
شكلت المجموعة الخامسة الركن الأساسي في المعرض وضمت كلاً من علي طالب ورافع الناصري وضياء العزاوي، الشخصيات الأكثر دلالة في فهم الهوية في الفن العراقي الحديث، ضمن هاجس كيفية إعادة بنائها على ضوء الإمساك بمستجدات المعاصرة على رغم العزلة والتشتت. فقد تميزت أعمالهم بملامح التجديد وفق رؤى تصاعدية تمثلت بعمليات الدمج الرمزي ما بين وديعة الماضي التشكيلي وبين مؤثرات الأزمنة الحرجة.
تستوقف أعمال العزاوي بما فيها من قوة الاندفاعات اللونية التي يقطفها في لوعتها وجحيمها وغرائزها المشرئبة، من خلال الاشتغال على شكل المسند التصويري حيث تبدو تكاوينه التجريدية مثل عمارات وصروح لونية تتقاطع في ما بينها للتعبير عن ميتولوجيا الأرض وصرخة الوجود. لكن جديد العزاوي هي أعمال التنصيب والكراسي المتموضعة أرضاً، المحمّلة بدلالات سياسية وجمالية على السواء.
ومن مقتربي الموسيقى والشعر تطل علينا أعمال رافع الناصري، المهداة لابن زيدون، التي تستعير رونق الأحمر مثل دم متخثر أو لون الآجر المحروق، في تجسيد حكاية عشق بين النغم والشعر، مليئة بالشغف الذي يتمظهر من خلال إيقاعات الضربات اللونية ومساحات النوتات الموسيقية المترابطة بالحواس وفن الأكشن وفن الأثر أو العلامة، فجديد الناصري الذي عرف عنه ولعه بتقنيات الطباعة والخط العربي، والدفاتر الصينية، يتطلع إلى حرية الارتماء في فضاء اللوحة بحثاً عن تجليات العشق للأرض التي أنتجت حضارة لا يمكن أن تزول.
ويعتبر علي طالب من المجددين للأساليب التي دمجت ما بين الرمزية والتجريدية والحروفية في الفن العراقي الحديث، غير أن مقتربه التجريدي بات أكثر لوعة كلما اندفع نحو إلصاق ما تمزق من أوصال بشرية كان لها ذكريات وحب. من غربته في لاهاي يكتب لنا: «لست ممن يترك مسافة بين اللوحة وبين حاجتي الشخصية لاختبار علاقتي بالفراغ الذي أتحرك فيه. بوابات لمدينة في الحلم. جدارياتها ملأى بما يراه اللاجئون في كوابيس ماضيهم البعيد. إنها لعبة مضنية، فقداسة الألوان الســابحة في طرق مليئة بالأحاجي، تفتح لي كتاب الأيام بأسرارها... في وحشة المنفى اللوحة كمن وجد سراً لا يضاهى بعد أرق طويل».
الحياة
السبت, 10 ديسيمبر 2011