الفنّان والشاعر المتصوّف في ضيافة صالح بركات
المبدع اللبناني «المنشغل بالمطلق» هدفه الوصول إلى «حروف لا تُقرأ ولا تُلفَظ بل تُرى وتُشاهَد». ومعرضه الجديد «في مديح الحروف» يذهب إلى مزيد من التكثيف والتصفّي. لوحته اتخذت من الخط العربي مادةً وموضوعاً، وها هو يفرد مساحتها لحرف واحد، يطوّبه وليّاً أو قديساً. وقفة عند كتابة بصريّة باتت غاية في حدّ ذاتها.
حين نقول عن عمل إنّه «زخرفيّ»، نقصد غالباً أنّه لم يتجاوز التقنيّة البحتة والجمال الظاهري إلى الإبداع. ترِدُ كلمة «زخرفة» في كثير من الكتابات النقديّة الراهنة، محمّلة بشحنة سلبيّة، للإشارة إلى التزيين السطحي، والتنميق الخارجي. لكنّ المعادلة تنقلب، مع سمير الصايغ. أو بالأحرى لنقل إن الفنّان الذي يطلّ حاليّاً على جمهوره البيروتي بمعرض جديد، عاد بالمفهوم إلى أصله، إلى معناه العضوي القديم المستقى من فكر العصور الذهبيّة للفنّ الإسلامي.
هذا المبدع والناقد اللبناني الذي ينظر إلى العالم بعيون المتصوّفة، يمارس فنّ الخطّ تعبيراً فلسفيّاً عن انفلاتات الرؤيا، وصدى جماليّاً لموسيقى الروح في سعيها الدائم إلى التناغم والارتقاء، إلى التوازن والتكثيف، إلى الجوهري والشمولي، إلى الصفاء والكمال. في لوحته التي اتخذت من الخط العربي مادةً وموضوعاً، يبدو الشكل طريقاً إلى المعنى. لا المعنى الذي يسخّر في خدمته الحروف والكلمات... بل المعنى الآخر الذي يستمدّ نسغه من الحروف، وقد حقّقت حضورها المستقلّ، وباتت «كائنات حيّة لها مصيرها الخاص»، تجرّ وراءها ذاكرة خصبة، وتختزن تاريخاً من المعاني والإحالات والرموز.
الحرف لا كوجود بل كإمكانيّة، في تعدّد التجليات... وفي تعدد الولادات
في لوحة سمير الصايغ، نحن إزاء كتابة بصريّة باتت غاية في حدّ ذاتها، تجمع بين الهندسة والشعر والموسيقى والتلوين، بين الحركة والتشكيل... «كتابة» تصفّت من أعبائها اللفظيّة وغائيتها المباشرة، لتصبح حقلاً من التعبيرات والتشكيلات، من الاحتمالات والرؤى. معرضه الأوّل في بيروت السبعينيات، كان بعنوان «ما لا يكتب ولا يقال». وبعد كلّ هذه السنوات، لم تتغيّر كثيراً الإشكاليّة الرئيسيّة التي تغذّي تجربته. فمنذ الصفحات الأولى للمانيفستو الشخصي الذي يرافق معرضه الحالي «في مديح الحروف» («غاليري أجيال») ـ وهو نصّ جدير بالاهتمام يطرح الفن من خلال الفلسفة، ويقول الفلسفة بلغة الشعر ــ يعلن أنّ هدفه هو الوصول إلى «حروف لا تُقرأ ولا تُلفَظ بل تُرى وتُشاهَد».
تلك هي علاقة سمير الصايغ بالخطّ، منذ اعتنقه فنّاناً حداثيّاً، وكان عهده الأوّل به على مقاعد الدراسة في «دير المخلّص»، حيث أراد أن يصير قدّيساً. اشتغل عقوداً على الخطّ ــ وعلى التراث الصوفي والفنون الإسلاميّة ــ ليعيد إليه الاعتبار فنّاً مستقلاً لا علاقة له بممارسات الخطاطين «الحرفيّين» ورثة الانحطاط العثماني. وقف على الطرف النقيض من المدرسة «الحروفيّة» التي أدخلت إلى اللوحة ـ غالباً بدوافع أيديولوجيّة، وتأثّرات غربيّة لم تُهضم تماماً ـ «عنصراً فنيّاً ضعيفاً» لا ترتقي إلى ما يقتضيه الإبداع من تماسك في الرؤيا، وصدق في التجربة، ونضج في الأدوات والأسلوب.
في المعرض الحالي، نقع على تيمة مستعادة لدى الصايغ. كلمة «الله»، تتكرّر في متواليات هندسيّة، ثم تتصفّى فلا يبقى منها إلا الألف «أمّ الحروف»، ثم تتحوّل الألف خطّاً مشرئبّاً، كالسيف فرداً، كالرقم واحد. أما الـ«هو» فيلتقي صنوه، أي الـ«هي»، كما يتعانق الـYin والـYang، في الفلسفة الشرقيّة القديمة، ليؤلّفا دائرة الكمال. لكنّ زميل ابن مقلة وياقوت وابن البوّاب، وخليل الحلاج ومار سمعان العمودي وجلال الدين الرومي، يمضي في أعماله الجديدة (٢٠٠٨ و٢٠٠٩ ــ أكريليك، مع وريقات ذهب أحياناً، على كانفاس أو على خشب)، إلى مزيد من التكثيف والتصفّي، الأسلبة والتجريد. يفرد مساحة اللوحة غالباً لحرف واحد، يطوّبه وليّاً أو قديساً، هو الروحاني غير المتديّن كما يحلو له أن يردّد.
ينطلق الصايغ من الخط الكوفي بصفته حالة الذروة في التراث العربي الإسلامي، تاركاً للحرف أن يتماهى مع اللوحة، في تركيبته الهندسيّة وخروجه على القوالب، في حركته وتحوّلاته وانحناءاته وتكوّراته، في امتداداته واستقامته وتقاطعاته، في النسب والتوازيات، في التوازنات اللونيّة بين فراغ وامتلاء. بين برود الحكمة وصخب الصمت. مربعات ومستطيلات، ومثلثات ودوائر... يغمرها الأخضر والأزرق، الأحمر والأصفر، والبنفسجي والزهري أيضاً. أحياناً توحي الـ«قاف» بعناق بلغ تمامه، والـ«ضاد» بكائن متوحّد، والـ«دال» بشعلة زرقاء، والـ«نون» برجل عملاق يقف لك في الباب... حروف «يقرأها الخيال»، أطلقها خطّاطنا تاركاً لها أن تعيش حياتها. «ملائكة تنزل لتأخذنا ثم تعود إلى السماء» كما يختم المانيفستو. نستعيد هنا ديواناً شعريّاً نشره الصايغ بخطّه، بعنوان «مذكرات الحروف»، وتزامن مع معرضه السابق في «غاليري أجيال» (٢٠٠٣). فيه يكتب على لسان الهمزة مثلاً: «أقف على رأس الألف كتنهيدة الصباح، وأمرّ فوق الواو كالرنين، وحين يشتدّ الشوق أجلس على كرسي الياء كالامتلاء».
سمير الصايغ ليس بعيداً عن نموذج الفنّان «المنشغل بالمطلق... شاهداً على وحدة الوجود إزاء وحدة الغيب» الذي يشير إليه في نصّه. لنترك له الكلمة الأخيرة: «في السعي إلى الخط كفنّ، لا بدّ من أن تقف أمام الحرف لا كوجود بل كإمكان وجود، كإمكانيّة في تعدّد التجليات وفي تعدد الولادات».
الاخبار- 12 -11-2009