محمد غني حكمت، وفّق بين تقنيات الحداثة واستلهام التراث العراقي
كان رحيل الفنان العراقي محمد غني حكمت مفاجئاً، مع أن عمره الثمانيني من شأنه أن يلغي عنصر المفاجأة، لكني أستعير الدهشة نفسها التي كانت ترافقه منذ طفولته، لأقول إنني دُهشت عندما شاهدته العام الماضي في بيروت على قدر من الحيوية والنشاط النادرين في مثل عمره. كان حينها يحضّر مزاد «غاليري أيام»، وقد صودف حضوره في العاصمة اللبنانية لغرض التحضير لصب برونزية ضخمة كان يعمل على تجهيزها. بعدها علمنا أنه كلِّف رسمياً بإنجاز ثلاث منحوتات تنصب في بغداد، تمثل أولاها لص بغداد المعروف في العصر العباسي، وثانيتها علاء الدين والفانوس السحري ليذكّرنا بألف ليلة وليلة، وثالثتها تجسد فكرة السندباد البحري عائماً على نهر دجلة.
من هذه المشاريع التي كان يعمل على إنهائها ونصْبها في شوارع بغداد، يمكن أن نستشف علاقة محمد غني بالتراث، تلك التي رافقته طوال حياته الفنية، فهو الذي كان يعمل في عدد كبير من نتاجه النحتي على ملاحم التاريخ العراقي وكتبه التي لا تزال فاعلة في الذاكرة الرافدية، وعلى حضارات ما بين النهرين، لا سيما الأشورية والسومرية والبابلية، يضاف إليها الفولكلور العراقي الذي زيّن به الكثير من منحوتاته التي نقل بها الحس الشعبي وأكد فيها الهوية الوطنية. وقد بقيت مسيرته متأثرة بأستاذه العراقي جواد سليم الذي سبقه إلى إيطاليا وإلى الأفكار التي تؤسس لهوية وطنية للفن التشكيلي، كما كان يسمع نصائح أستاذه النحات الإيطالي مايكل كوريزي، الذي كان يدفعه بدوره لتوكيد هويته الوطنية، هو الذي كان مهيأً لذلك بعد انخراطه في جماعة بغداد للفن الحديث، التي تأسست العام 1951.
إن من يعود إلى طفولة محمد غني يعرف الأسس التي بنى عليها فنه، ليصبح واحداً من كبار نحاتي العراق، ومن مشاهير النحت في العالم العربي، فالطفل الذي كان يراقب الزخارف في واجهات الأبنية وفي الأبواب القديمة، والذي كان يتفاعل مع الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها، هو نفسه كبر مع تنفيذه لعدد كبير من الأعمال التي أعادته إلى ذاكرة قديمة، وقد حفر الكثير من الأبواب الخشبية بأسلوب ينتقل فيه برشاقة بين الزخرفات الشرقية القديمة ومشهد الكتابة في لغات العراق القديمة، من دون أن يكون الشكل أو الحرف واحداً، حتى في عدد من منحوتات كان يستعير حدة الحرف الأشوري ولين الحرف العربي في آن، وهو يصور بأسلوب تجريدي تعبيري شخصيات منحوتته. ومن يتجول بين منحوتاته ينتبه إلى ذلك الانتقال الحاد بين أسلوب وآخر، فمن الأنصاب التي اعتمد فيها بعض أساليب النحت اليوناني أو الروماني أو الموروث الإيطالي من عصر النهضة، أو اعتمد فيها الواقعية التشبيهية التي يؤديها بمهنية عالية ومهارة معروف بها، إلى الأنصاب التي اعتمد فيها تعبيرية ملحوظة يعالج فيها قضية اجتماعية أو إنسانية أو سواها من القضايا والعناوين التي كان يلاحقها في فنه، إلى التجريد الذي أدخل فيه الحرف العربي أو تجريدات تستلهم التجريد العربي وتعتمد بعضاً من هندسيته ورياضياته، ولا بأس أن نستشعر بحضور لوحات الواسطي في منحوتاته، لكن من دون أن يحتكم إلى صيغة جاهزة، أو أسلوب مكرر أو مطروق.
حب العراق
بقي الطفل الشغوف بالنوافر والغوائر والجماليات القديمة الموجودة أمام نواظر الجميع يتابع مواضيع، على تنوعها وتنوع أساليبه فيها، بعيداً عن أي تغريب، يتواصل مع الحس العام، في الوقت نفسه الذي نراه فيه يشتغل على إبراز فنية عالية وجماليات يلتقي فيها التراث بالحداثة والفنون المعاصرة. وبقي محمد غني أميناً لذلك الطفل الذي كانه، جالساً قرب أمه وهي تعجن، يقتطع بعض العجين ليشكل بواسطته أشكالاً كثيرة لناس وحيوانات وعناصر في الطبيعة حوله، وقد يكون العجين هذا أولى مواده النحتية التي بدأ به تجاربه، يضاف إليها الطين الذي كان يحمله من ضفاف دجلة. بل هو حفظ في ذاكرته أشكال الكتل التي كان يلاحظها في الأماكن القديمة وفي الأسواق وخلال حياته اليومية، ولا بد أنه كان يعيد تشكيلها في مخيلته. ولعل المخزون الكبير الذي حفظه في ذاكرة الطفولة، وما رآه في إيطاليا أثناء الدراسة، ثم في دول العالم التي زارها شكّل مادة دسمة لنتاجه، على أن الذاكرة البصرية الغنية التي جمعها في حياته اليومية، وأثناء دراسته، جعلته يتسابق مع يديه وإزميله منذ بداية مشواره الفني، ما جعله في شغل دائم، وما جعل النحت فنّه ومهنته وكل شيء في حياته، وقد رافقه حتى الرمق الأخير، بل أورث بعض مشاريعه، لا سيما المشاريع الثلاثة السابقة الذكر، ليستكملها رفاق الدرب، مثلما ورث هو من قبل نصب «الحرية» بعد رحيل أستاذه ورفيق دربه جواد سليم، ليكمل بعده هذا النصب الذي بات رمزاً ثابتاً للعاصمة العراقية، ثم بعد ذلك نفّذ بشكل كامل مشروع نصب «قوس النصر» الشهير، الذي فاز به زميله النحات خالد الرحال، قبل أن يغدره الموت، في مسابقة رسمية شارك فيها العديد من النحاتين العراقيين، وقد نُصب، خلال الحرب العراقية الإيرانية، في ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد، وهو مؤلف من قبضتي صدام حسين تمسكان سيفين ضخمين يتقاطعان. وقد أُخذ على محمد غني تنفيذ هذا النصب، من معارضي النظام البائد، لكنه كان يردد دائماً أن لا دخل له بالسياسة، وأنه يهوى العراق أولاً وآخراً.
كثيرة هي الأنصاب التي نفّذها الفنان الراحل، منها أبو جعفر المنصور، الملك حمورابي، شهريار وشهرزاد، كهرمانة، عشتار، المتنبي، الجنيّة والصياد، بساط الريح... وكلها أعمال برونزية، منها ما يقدم شخصية منفردة، ومنها ما يضم شخصيات متعددة، أو عائلة، أو مشهداً نحتياً يشمل الكثير من العناصر، مثل النصب البرونزي الضخم الذي نفذه العام 1961، وهو يضم 25 شخصية بالإضافة إلى ثور وحصان، وبطول 50 متراً.
تنوّع بارز
لا شك في أن حياته الصاخبة بالعمل المتواصل أنتجت عدداً ضخماً من المنحوتات، ففي وقت نعرف فيه أن ما ينجزه النحات أقل بكثير مما ينجزه الرسام، فإن محمد غني حكمت من الذين تخطوا الأرقام الصعبة في هذا المجال، فإذا كانت تجربته بدأت في أواخر أربعينيات القرن الماضي، فقد أحصيت له أكثر من ثمانمئة منحوتة حتى بداية التسعينيات أي منذ ما يقارب عشرين عاماً. بعدها لم يهدأ بالطبع، وعندما اشتدت الحرب وتعاظمت مآسي العراق بعد احتلالها العام 2003 وإسقاط صدام حسين، خرج ليكمل مشواره خارج الكويت، لا سيما في الأردن، وقد توفي الإثنين الماضي في أحد مستشفيات عمّان عن 82 عاماً. وإذا علمنا أن متحف صدام للفنون، الذي خربته الحرب ونهبه لصوصها، فإن 150 من أعمال محمد غني النحتية كانت فيه، وتعرضت للسرقة والتحطيم، من بين ستة آلاف عمل لفنانين عراقيين، بالإضافة إلى 300 وسام وميدالية لاقت المصير نفسه.
حصاد كبير لتجربة غنية ومكثفة، وصخب وصل صداه إلى مسافات أبعد من العراق والوطن العربي، فقد جال محمد غني على عواصم العالم، بمعارضه ومشاركاته في معارض دولية. باختصار، قد نتحدث عن تنوع واسع في نتاج محمد غني، نتاج لم يعرف حدود مدرسة أو تيار أو حتى هوية محددة، إلا أن ما أكده هذا النحات العراقي هو إيمانه بأن لديه مهمة واضحة هي استلهام تراث الأرض العراقية بمستوياته التاريخية المختلفة، من موروث الحضارات الرافدية القديمة، إلى موروث الحضارة الإسلامية، وصولاً إلى الموروث الشعبي الذي هو خليط شديد التركيب. ومع هذا التنوع في مصادر فنه، إلا أنه حاول أو يجمع في أعماله فكرة واحدة، وهي تداخل المفردة الفنية والرمز، فلا ضربة طائشة، ولا كتلة بعيدة عن النسق العام للمنحوتة. لذا نجده، وهو يحقق في المنحوتة التناسق والتناغم والإيقاعات البصرية، أو التراكيب الهندسية والزخرفية، أو التوريق والحفر الغائر والنافر، يستحضر في اللحظة نفسها الرموز التي تؤكد التزامه حب العراق، حتى أنه في اختيار محطاته التاريخية كثيراً ما يهتم بتلك التي تحولت إلى رمز... على أن محمد غني نفسه بات اليوم محطة بارزة من محطات الفن العراقي، ورمزاً من رموزه... لن تمحوه سكتة قلبه.
السفير- 14-9-2011
***
مات النحات محمد غني ... فصمتت شهرزاد بغداد
لو لم يكن هناك نصب «الحرية» لجواد سليم في بغداد، لكانت «قهرمانة» محمد غني حكمت أيقونة لهذه المدينة الصابرة. كنا نمر من تحت نصب الحرية في الباب الشرقي لنذهب مباشرة إلى تمثال الأم لخالد الرحال، الذي كان يتوسط حديقة الأمة. ولكن نصب قهرمانة وهي تعتلي الجرار الاربعين (المستلهمة من حكاية علي بابا) قد وهب المدينة ملمحاً تصويرياً مختلفاً، هو أشبه بالخرافة التي تذكر بتعددها. فجأة صارت حكايات شهرزاد في الليالي الألف ممكنة. كان النحات الذي فارقنا مؤخراً في عمان/ الاردن عن عمر ناهز الثانية والثمانين شغوفاً بالنصوص الأدبية، فكان يرى من خلال الأصوات التي تصل إليه، مخترقة عصوراً من اللذة البلاغية الصور التي تجسد خياله.
عاش محمد غني زمن النحت العراقي كله. بدأ تلميذاً لجواد سليم في خمسينات القرن الماضي وزميلاً له في جماعة بغداد للفن الحديث (عام 1952) ومساعداً له في انجاز نصب الحرية (حين كان يدرس النحت في روما نهاية الخمسينات - بداية الستينات) ليكون في ما بعد معلماً لحشد من نحاتي العراق. ولكن محمد غني كان آشورياً بضراوة، بما يؤهله لكي يكون واحداً من صانعي الثيران المجنحة. كان النحت بالنسبة إليه مكابدة جسدية، صراعاً مع المادة الصلبة لاستخراج أرق ما فيها: روحها المتمردة. ولا أبالغ أذا ما قلت أن محمد غني كان الأكثر إخلاصاً لمبادئ جماعة بغداد للفن الحديث، حين ذهب برؤاه الشكلية بعيداً من رسوم يحيى الواسطي (القرن الثالث عشر) ليستلهم مفردات النحت الآشوري، فكان يفكر في التحليق بكائناته بغض النظر عن مادتها. لم يتعارض ثناؤه على المادة الثقيلة مع تفكيره العميق بخفة الكائنات التي كان يستخرجها من تلك المادة. لذلك كان تمثاله ابو الطيب المتنبي مدعاة لقلق الكثيرين. «كأن الريح تحتي» كان جوابه. لم تكن كتلة الشاعر مجرد صخرة نحتت لتكون شكلاً. لقد أبهجه النص الشعري فتخيل المتنبي محلقاً. «مثل علاء الدين على بساطه السحري تماماً. لمَ لا؟» كان يقول.
كانت الحكاية تصيبه بالأرق. حتى في تجريدياته (الأبواب ومطارقها وأسوار الحدائق والبيوت والحدائق) كانت هناك دائماً حكايات تنسل ما بين الزخارف، لتشكل مشهداً مستقلاً، يشير إلى مخترعه. كان محمد غني قد عثر على أسلوبه الفني في تلك الدائرة التي لا تنتهي من الأقواس. يشير إلى جسد الأنثى ولكنه في الحقيقة يشير إلى متواليات الحكاية التي لا تنتهي. لقد كان بارعاً في اقتناص لحظة النظر وهي في حالة تماه مع إيقاع يتكرر من غير أن يذكر بما سبقه. ربما كانت قطعه النحتية تتشابه (الصغيرة منها بالذات) غير أن كل قطعة من تلك القطع كانت تنطوي على خيال موسيقي خاص بها. كانت سيمفونيته تثري حركاتها بإيقاعات متجددة. وكانت المادة تثير خياله.
لقد تعلم محمد غني من الطبيعة الشيء الكثير، غير أن العمارة لقتنه هي الأخرى الكثير من أسرارها. فكانت عينه التي تقع على الخشب لا تنسى الايقاعات الظلية التي يطلقها رواق أندلسي. كانت الزخرفة تسعده. ولم يكن مأسوياً (كما هي حال اسماعيل فتاح) حين يكون الحدث متعلقاً بالإنسان. بالنسبة له لم يكن الفن إلا مناسبة للعدوى بما يحقق للروح إشراقاً مبهجاً. كل ثماثيله تقول «كنا هنا». ما من هنا أبداً. كما لو أن الماضي المطلق بسعادته هو كل الزمن. لذلك لم يتعرض فن حكمت للاحباط أو الانكسار. كان فناً مقيماً خارج الزمن. وكان نصب «شهرزاد وشهريار» الذي احتل مكاناً بارزاً في شارع أبو نؤاس على نهر دجلة ببغداد هو قمة المنحى التخيلي الذي اختطه محمد غني لمسيرته الفنية. كانت شهرزاد تتلو آياتها المتجددة واقفة فيما تسمر شهريار في مكانه مستلقياً، كما لو أنه كان الجزء الثابت من الأرض. كان الغزل بالأنثى جزءاً محيراً من حياة محمد غني النحتية. وكما أتوقع فإنه اختار لشهرزاد وجه واحدة من البغداديات اللواتي أعجب بهن. كان محمد غني مولعاً بالعيون السومرية، لذلك لم يكن غريباً أن تشرق شهرزاد بعيون سومرية.
لم يقلده أحد من النحاتين العراقيين. ذلك لانه لم يعش عصر الآخرين. كان لديه عصره الخاص، الذي هو مزيج من آنفة النحات الآشوري المتعالي ومن رقة شعراء بني العباس المتأنقين. كانت الجمل الشعرية تحرك الماء في رخامه الصامت. فكان نحاتاً فريداً من نوعه، غرف من الموسيقى أكثر مما تعلم من العقائد.
سيكون علينا دائماً أن نتخيل أن شهرزاد أغمضت عينيها على محمد غني حكمت.
الحياة- 14-9-2011