الشارقة - عثمان حسن:
أن تكون مصطلحات ما بعد الحداثة كالمفاهيمية، هي الأقرب إلى وجدان الناس، والأكثر ملامسة لحياتهم ومشكلاتهم، فهذه وجهة نظر تستحق الوقوف عندها، ذلك أن الإيحاء الذي تعكسه مفردة “الحداثة” وما بعدها، في لدن شريحة كبيرة من المتلقين، حتى شريحة كبيرة من الفنانين أنفسهم، لا تنسجم مع هذا الطرح، بل هي تتناقض معه تماماً، إلى درجة تقديم مسوغات منفرة من قبيل التخريب وإفساد الذائقة، والتماهي مع الشكل على حساب المضمون، لكن، في المقابل، هناك قراءات نقدية وفنية واعية ومعاصرة، تنصف كثيراً من الاتجاهات والتجارب الحديثة في الفن، في المستويين العربي والعالمي، سيما في القرن الحادي والعشرين، التي بدأت فيه محاولات جادة لتقريب الفن من هاجس الواقع وروحه ونبضه .
في الإمارات يتبنى كثير من الفنانين المحدثين والمعاصرين مثل هذا الرأي، ومنهم الفنان محمد كاظم، الذي يتفق مع الطرح الذي يؤكد أن الأعمال ما بعد عصر الفنان العالمي مارسيل ديوشان، في ستينات القرن الفائت، هي أعمال تتسم بطبيعة مفاهيمية، وهي وجهة نظر مثّلها ولو بشكل فردي الفنان جوزف كوزوث، وليس باستطاعة النقاد إدعاء ما يغاير ذلك .
يؤكد محمد كاظم أهمية التقييم في الفن التشكيلي، الذي يتصدى له فريق عمل متكامل من القيمين والمصممين والمحررين والكتّاب والمراجعين، كما يشرك قائمة من الطلاب والمؤسسات الأكاديمية والمدنية، فضلاً عن المؤسسات الثقافية الأهلية والرسمية .
ويتحدث كاظم عن مشاريعه الفنية الحالية والمستقبلية، كما يقدم هو بنفسه قراءة في أحد تجاربه الفنية، ليكون على صلة أوسع بجمهور المتلقين ومتذوقي الفن، وهو بهذه القراءة إنما يمارس دور الناقد، والمقيم لأعماله هو، فهو يتبنى وجهة نظر فنية يدافع عنها بقوة، في الوقت الذي يعمق ثقافته بكثير من الاطلاع والمشاركة والتجربة الحثيثة داخل حدود بلده الإمارات وخارجها .
عن تجربة التقييم التي مارسها خلال السنوات القليلة الماضية يشير كاظم إلى جمعية الإمارات للفنون التشكيلية حيث تبلورت الفكرة هناك حين استلم ادارة الجمعية مع التشكيلي محمد أحمد إبراهيم، فطرحا فكرة “تقييم عام” للمشاركة في المعرض السنوي للجمعية ضمن مواصفات واشتراطات فنية تتيح فرصة المشاركة للأعضاء وغيرهم من الفنانين الأجانب والعرب المقيمين على أرض الإمارات، مع إتاحة الفرصة للشباب الجدد للمشاركة في المعرض أيضا، وهكذا أصبح التقييم فكرة مقبولة من الجمعية وهدفاً استراتيجياً يساعد على تبادل االحوار الفني ويمنح التشكيليين المحليين فرصة الاطلاع على التجارب المختلفة، كما يمنح الآخرين فرصة استيعاب الملامح العامة للتشكيل الإماراتي، أما عن أول تقييم مارسه محمد كاظم فكان المعرض الموازي لبينالي الشارقة في دورته السابعة .
يعتقد كاظم أن المقيم يجب أن يكون على دراية واسعة في الفن من حيث الناحيتين النظرية والعملية، وأن تكون اختياراته للأعمال المشاركة في المعارض مبنية على أسس ومعايير دقيقة، وهذا يستتبع اختياراته لكافة الاستكتابات والتعليقات والتراكيب والرسوم والبناءات المعمارية والتخطيطية التي ترافق المعرض، وكل ذلك بهدف تقديم العمل الفني بشكل جيد والتعريف به من دون التدخل في الفكرة التي يعمل عليها الفنان .
في السياق ذاته، يشير محمد كاظم الى المعرض السنوي التاسع والعشرين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية الذي تضمن مشاركات لطلبة الفنون في جامعة فيلادلفيا الأمريكية التي كانت لافتة بكل المقاييس، وخلقت حالة حوار حقيقية مع بقية الفنانين المشاركين في المعرض، والأمر نفسه ينسحب على بينالي الشارقة للفنون حين تم اختيار كاظم مقيماً لإحدى دوراته، فقام بعد اختيارت لفنانين من دول مجلس التعاون الخليجي، وانطلقوا بعد ذلك ليشاركوا في بيناليات عالمية جنباً إلى جنب مع فنانين ذوي خبرة في منطقة الشرق الأوسط .
من جانب آخر، وفي معرض توصيفه لكثير من المصطلحات، مثل (الفن المعاصر) يرى كاظم أن الفنون اليوم تتجه نحو الفهم المعاصر، الذي انطلق في نهاية فترة السبعينات، وهو فن متشعب ومأخوذ من تيارات متعددة، ويفرق كاظم بينه وبين (الفن المفاهيمي) الذي يحكمه اتجاه فكري وفلسفي في الغالب الأعم، وهنا يشير إلى تجربة الفنانين العالميين دانيال برو، جوزف كوزوث ولورنس وينر الذين عرضت أعمالهم في إحدى دورات بينالي الشارقة للفنون وهؤلاء يعتبرون من أبرز الفنانين المفاهيميين اليوم .
ولأن كثيراً من المشاركات التي تعرض اليوم تحت باب (الفن المعاصر) وتسبب بعض اللبس لدى المتلقي، هي من القضايا االتي تستثير محمد كاظم، الذي يؤكد من جديد وجاهة فكرة المقيم فيقول “هذه الأعمال يغلب عليها استخدام التقنية وحسب من دون هدف واضح، فالطرح المعاصر ليس رهناً بالتقنية وحدها، ويمكن لأي فنان استخدام وسائل فنية تقليدية ضمن طرح معاصر، فالشرط أولاً وأخيراً منوط بتحديد الفكرة والرؤية المبتكرة التي يجب أن تلامس هماً معاصراً، أما الأسلوب فهو آخر ما يمكن التفكير به في هذا المجال” . ويضرب كاظم مثلا على ذلك بتجربة الفنان المبدع عبد الله السعدي الذي سبق له استخدام تقنية تقليدية ضمن طرح معاصر، وواءم بين الهم الذاتي والعام، وكان عمله جريئاً في اثارة مجموعة من القضايا دفعة واحدة، وبناء عليه يؤكد كاظم أن كثيراً من الفنانين سبق وقدموا أعمالاً على هيئة معاصرة بمعنى أنها كانت تحمل جانباً تزيينياً ليس إلا، ولكنها في حقيقة الأمر بعيدة أو ليس لها علاقة بمفهوم الفن المعاصر، حيث يؤكد كاظم هنا مرة أخرى، على خطورة التقييم، وضرورة مراعاته لأسس ومعايير واضحة .
في التجربة الجديدة لمحمد كاظم التي تندرج تحت برنامج الفنان المقيم يوضح أنه تلقى في العام الماضي دعوة من مسرح دبي الاجتماعي وهي الثانية لكاظم الذي سبق ونظم للمسرح المذكور معرض تجارب وأشياء للفنان حسن شريف في عام ،2009 فقام كاظم باختيار قائمة من الفنانين الإماراتيين والأجانب وهم: حسن شريف، ليلى جمعة، عبد الرحمن المعيني، ومحمد أحمد إبراهيم، والكوري لوجين يون، والأمريكية كورينا ميل، إضافة إلى فنانين مقيمين في الإمارات والشرق االأوسط وهم: المقيمة والناقدة والشاعرة الإيطالية كريستيانا ديمارتي، والبرازيلية جيسيكا من، والأستاذ في جامعة فيلادلفيا الأكاديمي جو جيراندولا، أما الفنانون الأجانب فسيعملون من وجهة نظر محمد كاظم بحرية مطلقة خلال إقامتهم لمدة شهرين في الدولة ليتفاعلوا مع البيئة كما يشاؤون، مع إمكانية توفير فرص الممارسة التطبيقية لهؤلاء، سواء داخل الصالات أو خارجها، ومن ثم ليقوموا بتقديم طروحاتهم والمشاركة في معرض (دبي المعاصرة) وهو الاسم الذي تم اختياره بالتشاور مع مسرح دبي الاجتماعي، وسوف يقام في مطلع مارس/ آذار المقبل، ومن المتوقع أن يكون له صدى طيب في تقديم قراءة فنية معاصرة بكل المقاييس .
وسوف تجمع الأعمال المشاركة في المعرض بين التصوير الفوتوغرافي والمواد التركيبية وأعمال الفيديو آرت وغيرها، حيث يؤكد كاظم أن الفلسفة من وراء هذا المعرض، ستعكس مما لا شك فيه، جملة من الطروحات التي يكتسبها الفنان من عمق المكان أو بعبارة أخرى تلامس روح المكان وتستشف رؤيتها الفنية من خلاله .
في التجربة الفنية الممتدة من عام 1999 ومن خلال معرضه (اتجاهات) يصف محمد كاظم بداياته الأولى، بأنها كانت الأقرب تأثرا بالفن الحداثي، وبعد هذا التاريخ أصبح كاظم قريباً من روح الفن المعاصر، سيما بعد مشاركاته الكثيرة في معارض عالمية وبيناليات شهيرة، سواء في بينالي الشارقة أو الإسكندرية، هافانا، متحف “لودفيغ” في أخن في ألمانيا مع حسن شريف وعبدالرحيم شريف ومحمد إبراهيم وعبدالله السعدي .
في عام 2003 شارك كاظم في (غاليري فون كولن) بعد أن تلقى دعوة من المقيمة دوريثيا، وكانت فرصة ليعرض مع نخبة من المفاهيميين العالميين، فقدم تجربة تحت عنوان (الأرقام ودلالات الزمن) وفي العام 2009 تلقى دعوة من المقيمة نفسها بمناسبة الاحتفال بمرور ثلاثين عاماً على تأسيس الغاليري، فقدم تجربة باسم (عندما تتقولب الأشكال) مع فنانين من أمريكا وأوروبا، وهو الآن بصدد التحضير لمشاركتين عالميتين في كل من إسبانيا واليابان .
يقدم محمد كاظم فهمه الخاص للفن، بتعليقه هو على أحد معارضه وهو بعنوان (اتجاهات 06 99) بقوله “الأرقام، الحروف، الأشكال والألوان هي من الرموز القديمة جداً، استخدمها الإنسان الأول في جميع العصور ك “لغة” من خلالها يستطيع الفنان أن يوصل مفاهيمه، عواطفه، ويعبر عن معتقداته، ويعمل وفقها، ويعلن عن آرائه علناً من غير تحفظ” .
ويضيف “في عملي بعنوان (اتجاهات 06 99) جعلت الأرقام تتواجد في أزمنه وأمكنة مختلفة وغير متوقعة، هذه الأرقام تتحرك وتتشابك مع التواريخ والجغرافيات والثقافات المختلفة والمختلطة، وهي أثناء مرورها بهذه الفضاءات، تحصد وبطريقة متواصلة معاني جديدة، وتقوم بتعديل وإعادة النظر في المعاني القديمة (إعادة المدونة) .
ويقول “للحصول على هذه الأرقام استخدمت جهاز سذا وتنقلت من نقطة إلى نقطة أخرى، في أماكن مختلفة، وعلى هيئة وأشكال هندسية في مدينة دبي، وذلك لرصد الإحداثيات الجغرافية للأمكنة وهي تشبه مدينة عتيقة ذات ممرات ضيقة، على جانبي الطريق نشاهد بيوتا قديمة أخرى جديدة . هذه الأرقام تتحول إلى مشاهد جديدة ومستقبلية، شوارع منظمة ومنسقة الزوايا والأطراف، إنها شذى متناغم يمتلك التأمل المبهم، ويبتعد تماماً عن العقلنة العلمية، للاقتراب والانتماء إلى وجدان المدينة الحديثة وحياة الإنسان المعاصر التي تحولت إلى أرقام” .
الاثنين ,20/02/2012