جان رطل

تقاسم الملح«تقاسم الملح» عنوان لتجربة خلابة تحمل أكثر من بعد. إنها حصيلة شراكة بين مصور فوتوغرافي فرنسي هو «جان- لو دو سوفرزاك» وخطاط أردني هو «محمد أبو عزيز». وقد دامت هذه الشراكة واستطالت لمرحلتين: المرحلة الأول امتدّت من 1999 حتى 2000، والمرحلة الثانية خلال 2002، وأنتجت معارض وتظاهرات جالت في أكثر من مكان، من محافظة عمان إلى معهد العالم العربي بباريس مرورا بالمركز الثقافي الفرنسي في رام الله في فلسطين وصولا إلى قاعة الزاخم في جامعة البلمند.

مسار طويل موضوعه الملح على شواطئ البحر الميت. وقد أنجزه المصور الفرنسي على رغم العديد من الصعوبات والمعوقات التي حالت بينه وبين شريكه الخطاط الأردني. إنها مغامرة للتواصل، من دون لغة مشتركة، ووجود نظرات فنية متعارضة في البداية، وتنافر التقنيات المستخدمة، يضاف إلى كل هذا سحر الطبيعة وما تقدمه من أمور غير مرتقبة وغبر معروفة.

وأين كلّ ذلك؟ في «البحر الميت»، وما يحمله الاسم والموقع من خلفية «أسرارية» قد تصل عند البعض إلى حد الأسطورة أو الموقع القدسي. والنتيجة أننا ندخل عالم المشاهدة عبر صور تكاد لا تدعنا نتعرف على معالم هذا «البحر الميت» بقدر ما نفاجأ بهذا الكم من التشكيل الذي جمع خبرات مصّور وتقنيات خطاط. مع الإشارة إلى صورة واحدة يتيمة يفتتح بها المعرض ومأخوذة عبر تشقق صخري اكتسى بتكاوينه زمن الملح المتراكم عليه. وكأني بالصورة تأخذ وجهة نظر متلصص تظهر، عبر هذا «الكادر»، صفحة مياه «الميت» على زرقة واضحة.

«تقاسم الملح»، كعنوان لهذه الصور المجتمعة باشتغال واضح على صعيد الشكل وما أضيف إليه من ألوان الكلمات المنمّقة بخطوط ومعان، يذكرنا بالملح واقتسامه، وكأن في الأمر ما يشبه المثل الشعبي « ليصير بيناتنا خبز وملح»، بما يعني الرغبة في الاجتماع واللقاء وبالتالي التحلّق حول موضوع موحّد يشي ويوازي علاقة استجابة بين مصوّر وخطاط .

ماذا نرى؟ أو ماذا سمحا لنا هذان الشريكان أن نرى من خلال ما قطعاه في هذا المسار الصعب بطول أناة؟ متابعة تفصيلية لما يكوّنه الملح من صور وطبقات متراكمة على الرمل وعلى تجاويف الصخور، مع الأخذ بعين الاعتبار - بحسب ما يروّج ويُعرف عنه - أن الملح في البحر الميت كثيف وسريع التراكم. وذلك بخلاف ما يحصل عندنا في بحرنا الأبيض المتوسط وفي ملاّحات الشواطئ المنثورة بين صخوره بشكل عام. هذا ما يجعلنا نعتقد بصحّة الفكرة التي تقول إن المصوّر قد اختار تشكيلات الرمل والملح وتراكمهما في صورة خطوط ومساحات وأحجام. ولكن يظهر للمتأمل، في النتيجة، وجود احتمالية واضحة تؤكد تدخلاً ما وبشكل من الأشكال. وكمثال على ذلك، القدم التي غاصت في الرمل وطبع شكلها ثم تابعت مسارها لتصبح صفحة «سلويت» من الملح الأبيض النقي. وهكذا نحن أمام عمل فوق عمل فوق عمل يتطور ويتكرر.

لم تؤخذ الصور، إلا في القلائل منها، بطريقة اللقطة الواقعية العفوية المباشرة. وأبرز ما يؤكد ذلك يتضح حين يتدخّل الخطّاط في الكادر! إذ يجري تحضير اللقطة بالاستعانة بالخط على تمازج هائل واختلاف في التقنيات. فمن الرسم على صفحة الملح أو الملح الممتزج بالرمل، إلى الطباعة المقلوبة، أي بإنجاز السالب وضغطه على صفحة الرمل أو الملح، كما يحصل في «الغرافور»، أو باستخدام أسلوب التفريغ على الكرتون أو ما يشابه ذلك، وصولاً إلى النتيجة التي تصبح كتابة نافرة. ومع الحصول على امتزاج الظلال بما يؤلف الفكرة حيث يتكوّن حجم خاص ومتطاول قد يعود إلى موقع البحر الميت الفريد الواقع على 366 مترًا تحت سطح البحر. كل هذه أمثلة فردية أو مجتمعة تجنح إلى الفرادة بحيث بالإمكان القول إنها ساهمت في تبرير ذريعة استخدام الخط كفن عربي فريد. هذا، من دون التوقّف عند تفاصيل اللعب في اختيار نوع الخط ومدى تصويره، والتفنن في حركاته والتواءاته، مع الاعتراف بأن هذا الأمر قد شكل بالنسبة إلينا سراً فوق سرّ. فأين لنا أن نفقه ما أتى في خطوط «أبو عزيز» على محمل الجد؟ في وقت نعرف أن للفارسي ثلاثة أنماط كتابية وأن للكوفي أنماطاً متعددة وأغراضاً للاستعمال مختلفة يعددها لنا الخطاط «أحمد الذهب» بالآتي: البسيط، المضفور، المزهّر، المورّق، المقعّد، التربيعي، المربّع والمظفور وغيرها مما يجعلنا نخطو خطوات في بحر عميق اللجّة ومتعدد مصادر الموج تأتينا أخبارها من حيث لا ندري.

إنما هذا الخط، الذي هو بلا مواربة أيضاً حامل لمعاني الكلمات ومتدخّل فيها من خلال تحويله أسلوب تقابلها أو تحلّقها دوائر كما اصطفافها أسطرًا بعد أسطر في ما يشبه التراصف، يجمع جيشًا في كتائبه. «ربما أعطاك فمنحك وربما منحك فأعطاك»، بالخط القريب من المغربي الذي كتب به على الرقع الباقية من صدر الإسلام بعض المعاهدات. وهنا تزاوج كل المعاهدات بين القدسي والصوفي والحكم الشعبية .»قل كلمتك وتحطم / وما أهميتك أنت / ما أنت / إلا معبر للآتي، لنترك ظلنا ونحلم، المرئي يفتح عيوننا / على اللامرئي»، «الإصبع الجاف لايمكنه الالتقاط»، «التماثل هوالموت / التنوع هو الحياة»، «ما من حب للحياة/ دون اليأس منها»، «المرئي / يفتح عيوننا / على اللامرئي». كل هذه العبارات والجمل القصيرة، تتنوع بأنواع الخط وأسلوب تنفيذه.

يبقى أن نلاحظ أن الصورة المكوّنة من كتابات وملامح أشكال، منها ما يحاكي الفتلة المولوية، تختصر كلها حكاية تراكم الملح صفحات فوق الزبد والرمل. تغيب عن البال تاريخية واقعة احتكار الملح من قبل بريطانيا العظمى في الهند وإطلاق «غاندي» بالتالي ثورته اللاعنفية التي حقّقت الاستقلال، كما يغيب ما وصلنا من المؤمنين الفقراء الذين كانوا يقدّدون الأسماك الرخيصة بالملح، فاعتبرت هذه الوجبة مأكل الصائمين. هذه أخبار، وغيرها كثير، تتحدث عن أحوال الملح والحاجة إليه، وما تزخر به التجربة الإنسانية على مر العصور. غير أن واحدة ، يوردها «مارك كيرلانسكي» في تاريخ الملح ، تقول إن «لوط»، ابن أخي إبراهيم، عاش في «سادوم» الواقعة في منطقة جنوب البحر الميت، قد نجّاه الله من دمارها. ولكن زوجته نظرت خلفها أثناء مغادرتهما المدينة، مخالفة بذلك ما أمرها الله به، فتحولت عمودا من الملح. وهذه من القصص الواردة في التوراة، سفر التكوين.

هذا المعرض الفوتوغرافي، الذي هو حصيلة تعاون مصور فرنسي مخضرم وخطاط أردني شاب، قد تحقّق من خلال تعاون جامعة البلمند مع المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس ومن ضمن الاحتفالية التي تؤرخ للذكرى الخمسين لتأسيس هذا المركز. تقابل وتناظر وانعكاسات لصفحات البراويز على وجوهنا «لنتمرّى» فيها. صور معلقة تأخذك في سفر نحو المكان البعيد، نحو المعنى البسيط الذي ينزلق، كما مياه البحر الميت، على الجلد كأنها الزيت، فتخاطبك اللوحات المعلّقة بما تحويه من أعمال تغوي من دون أن تضطر للنظر إلى الخلف فتتحول جبلاً من ملح.

المستقبل
الاحد 31 كانون الثاني 2010