حين كانت باريس عيداً تواصلاً في المونبارناس وحين تجمع فيها الفنانون الشباب من كل انحاء العالم تحديداً في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، تشكلت المرحلة الذهبية في الفن التشكيلي في العاصمة الفرننسية... وهذه الحقبة تحتفل بها "بيناكوتيك" على طريقتها فتعرض اكثر من 120 لوحة زيتية تجمعها صفة مشتركة وهي انها تمثل تلك المنطقة من مونبارناس الى ما حول لاروش، مروراً بشوارع سكنها موديلياني وسوتين وغيرهما ورسموها في كل حالاتها.
"موديلياني وسوتين ومغامرة مونبارناس" عنوان المعرض الذي بدأ في "البيناكوتيك" ويستمر حتى التاسع من ايلول 2012 في اطار احتفالي يعيد الى الاذهان جمالية تلك الحقبة المزهوة بألف لون في مونبارناس كان لقاء الحضارات واللغات فتسمع الكل يتحدث بالفرنسية والروسية والايطالية والاسبانية والانكليزية والبولونية... واخيراً حين قدم فوجيتا الى باريس عام 1913أضيفت اليابانية إلى باقي اللغات. وثمة قاسم مشترك بين كل تلك الاحاديث وهو الرسم، فذكرت تلك المغامرة الفنية المثمرة باخرى سبقتها زمنيا وتحديدا في منطقة "مونمارتر" مع جماعة الانطباعيين ومن جاء بعدهم...
فمونمارتر كان لها وقعها وكذلك مونبارناس. والعودة الى سيرة معظم كبار الفنانين تشير الى تفاصيل تتعلق بأمكنة سكنهم: بيكاسو ترك "بولفار كليشي" وانتقل لى "راسباي"، اوثن فريز وفرنان ليجيه كان لهما محترف في شارع "نوتردام دي شان"، شاغال وزادكين يجلسون كل يوم في "الدوم" او في "لاروتوند". كذلك يمكن ان تلتقي هناك بليز سندرارز... عدد كبير من الرسامين المغمورين يسكنون او يعملون في محترفات فقيرة وبائسة في شارع "دانتزيغ". موديلياني يتناول طعامه دائما عند "شي روزالي" وديونه تتكدس... "وهكذا اصبح هذا الشارع يعني للرسامين والشعراء ما كانت تعنيه لهم منطقة مونمارتر قبل 15 سنة (... "فقد صار شارع مونبارناس بمثابة المأوى لحياة سهلة جميلة وموحية..." كتب الشاعر ابولينير يوم اصبح هو ايضاً "أسير مونبارناس"). كذلك حين وقعت الهدنة بعد الحرب العالمية الثانية، زار مونبارناس كبار كتاب وشعراء اميركا: جيرترود ستاين وارنست همنغواي، ودوس باسوس ومان راي وفيتزجيرالد وكالدر وجيمس جويس وغيرهم...
كلهم يتناقشون، يتجادلون في السياسة والادب والفن، كلهم يمرحون ويلهون ويرقصون في مونبارناس... كل اسبوع احتفال او مناسبة في شارع "بلوميه" حيث جاء يوما روبير دسنوس مع اصدقائه من جماعة السرياليين، كذلك جاء كوكتو وبول موران وكيسلينغ وباسكات وفوجيتا وتزارا... ومن حول طاولات المقاهي كانوا يتجادلون وتدور احاديث فنية وفلسفية ناضجة وواعية لكل المرحلة التي ترتسم امام عيونهم: هذه المرحلة يضيء عليها معرض "البيناكوتيك"، غير انه اختار اثنان من هذه الجماعة وهما موديلياني مع اكثر من أربعين زيتية رائعة ومن بينهما لوحته الشاعرية الشهيرة "الفير بالياقة البيضاء" رسمها في العام 1918 هي من بين نحو عشر لوحات غير معروفة والبعض منها غير معروض سابقاً، وهي كلها من مجموعة جامع اللوحات الشهير جوناس نيتر الذي كان شغوفاً بأعمال موديلياني. وكان كلما اشترى احدهما يسمع تعليقات من نوع: "هذه اللوحات مخيفة او غريبة وستدمرك لأنها ستبقى لديك ولن يشتريها احد!!". واليوم تعتبر هذه الاعمال من التحف التي لا تقدر بثمن. كذلك يعرض في البيناكوتيك عشرات اللوحات من اعمال سوتين، الرسام الذي عايش موديلياني وكان الاثنان يتشاركان فقرهما وبؤسهما. وسوتين القادم من فقر في طفولته لم يخرج من تلك الدائرة وكل اعماله تذكر بالحياة التي عاشها وقد حمل لقب "حطاب الرسم"، حتى حين اشترى الملياردير الشهير الاميركي بارنس مجموعة كبيرة من اعماله وبسعر خيالي، لم يخرج سوتين من عزلته وفقره واستمر في محترفه في مونبارناس كذلك لم تتغير اعماله "الفجة" والمؤثرة بتفاصيلها والتي كانت تنذر برؤية جديدة وثورة تتحضر مع اسماء اخرى... ومن ثورة الالوان التي شهدتها تلك المرحلة تشكلت ثورة اخرى طالت الشكل والافكار... غير ان مونبارناس بقيت وفية الى تلك الحقبة، على الاقل في تلك المعارض الدائمة التي تستعيد المرحلة بشفافية وجمالية دائمة.
المستقبل
25-5-2012