تحت عنوان "الرسم في أرض لا أحد" أُفتتح في غاليري "Rooiperd" في مدينة إنكهاوزن الهولندية المعرض الشخصي الجديد للفنان ستار كاووش للفترة من 5 نيسان (أبريل) 2003 ولغاية السابع والعشرين منه. وقد ضم المعرض 26 عملاً فنياً بأحجام مختلفة.
تميز هذا المعرض بقواسم مشتركة يمكن إجمالها بعدد من المحاور التي تؤسس البنى الداخلية لكل الأعمال المشاركة التي رُسمت في أرض لا أحد! ففي أغلب اللوحات ذات المنحى التعبيري- التجريدي ثمة نوافذ تنفتح إلى أفق واسع، جميل، يحدّق من خلالها كاووش إلى الفضاء الخارجي الذي صنعته مخيلته المتأججة التي تتطلع إلى معطيات الجمال في أقصى لحظات عنفه، وإثارته، ورعبه، أليس الجمال هو الرعب؟ وثمة مساقط ضوئية مائلة تعري الوجوه المشتعلة بالرغبات السريّة، والشهوات المجنونة التي تتقلب على جمرات الوجد، والاشتياق، واللهفة في التنافذ، والتجاسد مع الحبيب المدنّف الذي ضاع في مدارات الهُيام اللجوج الذي لا يكتفي بغير التماهي في جسد الحبيبة الملتهب، والتوحد بروحها الملتاعة.
ومن خلال ثنائية الداخل والخارج، يضعنا كاووش أمام العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع ليستجلي الأواصر المتشابكة التي تربط بين الذكورة والأنوثة في أعلى درجات تألقها ضمن أطر لا تخلو من بعض الأبعاد واللمسات الإيروسية التي يمكن أن تستشفها العين الخبيرة بلحظات الوجد، أو يمكن أن تصوغها المخيلة الرومانسية التي تستجيب إلى الانفعالات الشهوانية المتسامية بوصفها خصلة إنسانية تستحق الاهتمام. ولا يمكن لمتأمل لوحة كاووش أن يغض النظر عن الفيكرات التي تتحرك في المشاهد الخلفية من أعماله الفنية التي تلتقط حركة بعض الأشخاص الهائمين في الفضاء الخارجي ليعكس لنا طبيعة التراسل الداخلي بين حياته الجوّانية والبرّانية في آنٍ معا. في لوحات المعرض كلها من دون استثناء ثمة موسيقى لونية مميزة تفضي إلى مناخات جمالية معبّرة نكاد نسمع إيقاعها، ورنينها المدوزن بهارمونية عالية سواء في الألوان الصريحة الصارخة، أو في الدرجات اللونية المشغولة برهافة إخراجية ناعمة، جذّابة تأخذ المشاهد إلى شفافية الإنثيال اللوني الذي يبعث على الدهشة والانبهار. ويمكننا التدقيق في لون الأعين الرمادية التي تميل إلى الأزرق أو البنفسجي أو النيلي المموّه بغلالة غامضة لا تمنح نفسها أول الأمر، ولكنها تتكشف بعد التأمل، والتمعن، وتدقيق النظر.
ومن بيت العلامات الفارقة لهذا المعرض هي هيمنة الفضاءات الحلمية كثيمة راسخة في مخيلة الفنان ستار كاووش، بل هو يسعى لأن يعيش في الحلم دائماً، ولذلك فإن مفردة الحلم تتكرر في الكثير من أعماله سواء على صعيد العنوان أو الثيمة المحورية للوحة. ويكفي أن نشير إلى أن معرضه الأخير يتضمن ثلاث لوحات تتكئ على مفردة الحلم شكلاً ومضموناً، وهي التوالي "حلم ضبابي، الحلم الضوئي، وحلم إلى بغداد" آخذين بنظر الاعتبار أن "حلم إلى بغداد" هي ثلاثية، وليست عملاً واحداً، كما أن بقية الأعمال لا تخرج عن إطار الحلم، أو تتحرك في مداراته في الأقل مثل لوحة "فتاة بعيدة المنال" ألا توحي هذه الفتاة العصية إلى "الحلم المستحيل" ؟ وألا تفصح لوحة "اعطني شمس الصباح" إلى التوق لملامسة حلم الحرية، وما ينطوي عليه المعنى المجازي لانبلاج الشمس في أول الفجر، وما إلى ذلك من مضامين مباشرة أو رمزية؟ ناهيك عن اللوحات الثلاث عشرة الصغيرة المسماة بـ"لحظات حب" التي لا تخرج عن إطار العلاقات الحلمية، ولا تشذ عن قاعدة التحليق في المدارات العاطفية، أو التهويم في مدارج الحلول الصوفي. ومن المؤكد أن ثلاثية "حلم إلى بغداد" قد رُسمت في خضّم حالات الانفعال المستمرة التي يعيشها الفنان ستار كاووش وهو يرى بغداد تتقوض أمام أنظار العالم الذي لا يحرك ساكناً. أنه الحلم الشفيف لأمكنة بغداد الحميمة التي يعرفها الفنان عن كثب كما يعرف تفاصيل وجهه، ويعرف دقات قلبها كلما تسارع وجيب قلبه. في بعض لوحات هذا المعرض "الرسم في أرض لا أحد" يستخدم كاووش تقنية "التعتيق اللوني" الذي يوحي للمشاهد بإيقاعات، وتدرجات لونية تنطوي على التضاد مع الألوان المتوهجة، الصافية، الشفافة لكي يجسد نظرية "الضد يُظهر حُسنهُ الضدُ". وفي لوحاته الخشبية، ذات الكثافة اللونية العالية يستخدم الفنان أسلوب الحفر لكي يهشّم رتابة الإيقاع اللوني المستوي الذي ينساب بوتيرة هارمونية واحدة، بينما لا يحفل ملمس الكانفاس بهذه التقنية المراوغة التي تنتشل العمل الفني من السقوط في فخ القولبة، أو الدوران في فلك الجمود.
ترويض المخيلة الشرسة
إن مقاطعة الفنان ستار كاووش للطبيعة، وإحجامه عن رسم معطياتها، أو حتى الانشغال العابر بها هو دليل على جزعه من الخطابات البصرية الثابتة، ونزوعه الحاد إلى الإحالات البصرية المتحركة. فأعماله الفنية لا تحفل بالوردة أو الشجرة أو النهر أو الجبل بوصفها معطيات أو نماذج بصرية "واقعية" مألوفة تتكرر منذ آلاف السنين حسب قناعته الراسخة في هذا الموضوع. ومخيلته البصرية لا تستدير إلى الماضي مطلقاً، ولكنها تنبش في الحاضر، وتتشوّف إلى المستقبل بشراسة كبيرة. هو لا يرسم الصحراء أبداً، ولكنه يمشي عليها حافياً لكي يرى آثار قدميه، ويستمتع بهذه الصورة المغايرة التي انطبعت فوق أفق، متماثل، رتيب. ثيمة ستار كاووش ليست نمطية على الرغم من انبثاقها من قلب الواقع اليومي الذي لا نستطع أن نفلت منه إلا لُماما، ولكنه يشتغل على فكرة "المعادل الموضوعي" ليولّد مرادفات كثيرة، وتنويعات لا حصر لها. ففي لوحاته الصغيرة الثلاث عشرة المعنونة كلها بـ"لحظات حُب" والتي ينبغي أن تُشاهد مجتمعة وكأنها أجزاء صغيرة من لوحة كبيرة هي تنويع لا متناهٍ لفكرة الحب الراسخة في الذهن البشري، لكن هذه الفكرة تتشظى في ذهن الفنان لتصبح منجماً لا متناهياً من الأفكار المدهشة التي لا تنضب. في لوحة "أغنية لها حكاية" يتماهى العاشقان في روح واحدة، وتلتحم أعضاؤهما في جسد واحد، كي يسردا حكاية حبهما للناس، أو ربما للمستمع الوحيد الهائم على وجهة خارج خلفية اللوحة المنفتحة على الأفق البعيد، من خلال أغنية حب لم تُنشد من قبل. في هذه اللوحة، كما في لوحات أخر، تتداخل تقنياته الفنية إلى الدرجة التي تتعارض مع توجهه المنهجي الذي يقول " بعدم ميله إلى السطوح الملساء " لكن في هذه اللوحة، وسواها من لوحات هذا المعرض بالذات، يجمع الفنان بين السطوح الصقيلة الملساء، وبين السطوح الخشنة، المعتّقة التي يخبئ خلفها انفعالاته النفسية، وتوتراته الداخلية العنيفة التي لا تستكين إلا ما ندر. في "القبلة المائلة" ثمة تأمل طويل يمارسه العاشقان قد يصل إلى حد الاستغراق، والفناء في الآخر.
فكل واحد منهما يحدق إلى وجه الآخر، وكأنه يحدق إلى نصفه المفقود، لكي يحل فيه، ويتماهى في تفاصيله، من أجل الوصول إلى ذروة الذوبان أو الاتحاد أو الحلول الوجداني. هذه القبلة المائلة قد تكون قراءة مستقيمة للواقع المعوّج الذي لا ينسجم مع رؤية الفنان العنيدة التي لا تروّض. في عمله المميز "إيقاع" يشتبك العاشقان، ويحضن أحدهما الآخر في لحظة صمت أخرس، تتحدث فيه الأعين والشفاه، وتستفيق فيه لغة الأنامل من قنوطها الطويل، وتتفجر لغة المسامات البشرية المعطلة التي تنبض تحتها ملايين الشرايين المحمومة التي استيقظت على حين غفلة لتمارس جنونها اللامألوف في هذا العالم الذي لم يُدرك بعد نداءات الجسد السريّة. في خلفية اللوحة الشاردة إلى المدى البعيد ثمة شخص يسترق السمع لإيقاع العواطف اللجوجة الثاوية في قلب الكائن البشري الذي يسعى للتوحد مع ثنية روحه. في عمله الفني المتميز "فتاة بعيدة المنال" ثمة فكرة شخصية تنتسب إلى روح الفنان، وتعود إلى أسراره الذاتية، لكنه لا يستطع أن يكبح جماح هذا السر الفردي الملّفع بعاطفة إنسانية نبيلة. فهو يسعى إلى ملامسة "المستحيل" والوصول إليها حتى بأفدح الخسائر، لكنه لم يستطع مواجهة العناد في أعنف لحظات جنونه، وفي الوقت ذاته لا يستسيغ تحمّل فكرة الحب المردود على نفسه، فيكابر هو الآخر من أجل أن يكتم مرجل أحاسيسه المنتفضة. وعندما يكتشف أن فيضان مشاعره الداخلية أقوى من أن تُلجم يلوذ "بالفرشاة والباليت" لكي يجسّد عاطفته الإنسانية في ذروة تأججها واشتعالها. فالرسم هو كوّة الخلاص الوحيدة التي يستطيع من خلالها أن يلج إلى عالم الطمأنينة والسكون والاسترخاء الروحي. في هذا العمل الفني ثمة نزعة إيروسية تعكسها جغرافية الجسد بكل تمعجاته الإفعوانية المغرية التي تنتفض من خلف غلالة الثوب الشفاف الذي لا يحجب مكامن الإثارة والفتنة والشبق، ولكنها "أي الفتاة البعيدة المنال" في ذروة ترفها المحفوف بالعزلة لابد أن تنتبه إلى كُم القميص المُلقى إلى جانبها بعد أن تستفيق من قيلولتها، أو إغفاءتها القصيرة لتجد أثراً لعاطفة ما تنشد التشبث بها، أو الاعتناق معها، أو التوحّد بكل تفاصيلها الجسدية المحمومة التي ملّت من خرافة الصمت التي صنعتها المخيلات المريضة؟
في لوحة "حروف ضوئية" ينشطر الواحد إلى اثنين، وهو دائماً كذلك، أي أن الفنان موزّع بين هاجسي الذات والموضوع، وفكرتي الداخل والخارج، فنصف الشخصية تقرأ في كتاب، منغمسة في تفاصيله الدقيقة، والنصف الأخر يتطلع إلى الفضاء الخارجي متأملاً ذلك الإنسان الذي يتجول بدراجته الهوائية في المدى المفتوح وراء النافذة. هذا التوزّع هو قراءة للمنحى النفسي لشخصية الفنان المنشطرة، أو الإزدواجية، أو التي تخرج عن حدود الواحد، المنزوي، المنقطع إلى نفسه، المتوحد مع ذاته، إلى الإنسان ذي الذوات المتعددة، التي تتشظى وفق معطيات الواقع المحيطة به. أما لوحة "الحلم الضوئي" فهي تضعنا في مواجهة امرأة حسناء تتطلع إلى السماء وهي تبدو في كامل أناقتها على الرغم من تداخل أعضائها الجسمانية بطريقة سريالية - تكعيبية تحطم الشيء لتخلق منه شيئاً آخر يستفز المخيلة ليخلق خطاباً بصرياً يشاكس المألوف، ويتجاوزه إلى فضاءات جديدة. ربما تكون لوحة "حوار بالأزرق" هي أكثر لوحات المعرض مشاكسة لأنها تنطوي على فكرة الاتصال والانفصال في آنٍ معاً، فالبرغم من أن يد العشيق الحانية تلامس خد الحبيبة إلا أن حاجز القماشة يفصل فم الحبيب عن فم حبيبته تحديداً. في هذا العمل ثمة اشتغال تجريبي على خروج اللوحة عن الإطار، وتمردها عليه. فثيمة الموضوع تتركز في قلب اللوحة، لكن الاشتغال التجريبي يتجلى في إطار اللوحة، ويتجسد في حوارها باللغة الزرقاء التي افترضها الفنان، أو هكذا أراد لها ستار كاووش أن تكون لغة لونية تعتمد على استجابة المتلقي، واستمتاعه بها، ودرجة اتصاله الفني بها. إن مفردة الحلم لدى كاووش هي مفردة أثيرة لدرجة أنها تلازمه ليل نهار، وهو لا يستطع منها فكاكاً على الإطلاق، لأنه يعيش الحلم في الواقع، وأن الواقع قد انشطر في ذهنه إلى صور مرئية، وأخرى لا مرئية. من هنا جاء رصده للحلم، وتعلقه به، بحيث أن العديد من أعماله صار يحمل اسم الحلم، وأن عناوين اللوحات هي تنويع لفكرة الحلم التي تتشظى إلى عشرات الأفكار الثانوية التي تعتمد على قوة هذه المفردة اللامتناهية.
لوحة "الحلم الضبابي" هي استرسال في فكرة الضياع المستحب الذي ينقطع فيه الإنسان عن الواقع الزاخر بالأحداث اليومية المعيشة التي تندرج في حدود المألوف، والمكرور، ليفتح بقوة المخيلة أفقاً مغايراً يتفجّر بالمفاجآت التي تكسر أطر الرتابة، وتحرّك السكون الذي يهيمن على بعض جوانب الحياة على الصعيد الفردي. من هنا انطلقت مخيلة "المرأة النموذجية" التي وجدها الفنان في أرض الواقع، وأضفى من عندياته الإبداعية بعض لمساته الفنية التي يراها مكملة للصورة الأنموذج لتلك الفتاة العصية، القصية، البعيدة المنال، التي تمضي ثلاثة أرباع حياتها في خضّم أحلام لا تنتهي، تلفها أطياف الضباب، وتخترقها المساقط الضوئية، وهي ترفل في ثراء أناقتها، ونعومة مظهرها الخارجي الذي يتلألأ من سمت الرأس إلى أنامل القدمين. ملامح هذه الفتاة العنيدة، المُكابرة التي تسعى دائماً لأن تروّض الحلم، وتجعل منه فضاءها المفضل لن تغادر ذاكرة كاووش أبداً، لأنها أصبحت جزءاً محفوراً في تلافيف الذاكرة الثابتة والمخيلة المتغيرة على حد سواء. واللافت للنظر أن كاووشاً قد رحّل بعض "محاسن" هذه الفتاة المتمنعة إلى "رولين" المرأة الهولندية المتمردة التي تخب على أعشاب صدره مثل فرس جامحة ليخلق منهما أنموذجاً ثالثاً، مغايراً، لكنه ملامح الاثنتين معاً. وهذا ما سنتوقف عنده في الدراسة القادمة.
المصدر : ايلاف
الاثنين 14 أبريل 2003 16:10