أيقونة "العذراء الحنان" المعروفة في روسيا ب"عذراء دونيتسك" للفنان ثيوفان اليوناني (أواخر القرن الرابع عشر)، محفوظة اليوم في غاليري ترتياكوف، موسكو.
|
منذ أزمنة موغلة في القِدَم يختبر الإنسان في أعماقه حياة تتسامى في كمالها وجمالها وتجدّدها على عيشه اليومي تسامي الدفاع الروحي فيه على دوافعه الحيوية الدنيا. فهذه تستهدف بقاءه على قيد الحياة، واستمراره كنوع، وتحقيق كل ممكنات بشريّته أو ناسيته، بينما يرمي ذاك إلى الارتقاء به إلى ما فوق بشريته، أي إلى صيرورته إنسانا حقاً، مرآة تنعكس على صفحاتها الممكنات الموجودة "بالقوة" في العلم الإلهي اوالكلي، بما يحقق الغاية من الخلق: معرفة المطلق نفسه في النسبي، ومحبة اللانهائي نفسه في المنتهي!
هذه الخبرة التي تعتبر أساس كل حضارة حقيقية وجوهرها العميق كان لا بد للإنسان من أن يعبِّر عنها وينقلها، فكان الفن - فضلاً عن حياة الإنسان المختبر نفسها، بكل أوجهها وأدق تفصيلاتها - أكثر النشاطات الإنسانية قدرة على التعبير عن روح الخبرة المذكورة وأبلغها ترجمة لجمالها. وب"الفن" نعني هنا الفن بما هو التعبير الخارجي المحسوس عن أعمق ما تنطوي عليه حضارة روحية في أسسها ومنطلقاتها وتطلعاتها.
إنما جوهر الفن هو الجمال، ولما كان الجمال من صفات الحقيقة، يتعذر من وجهة نظر الحقيقة فصل الشكل عن الفن، من حيث أن الفن تجسيد للشكل المحسوس والأقرب إلى التعبير عن الحقيقة ايماءً ورمزاً، وهذه الخاصية - خاصية تعبير الفن عن الحقيقة - تتأتى من وجود مقايسة analogy معكوسة بين الصعيدين المركزي أو اللامرئي من جهة، والمحيطي أو المرئي من جهة ثانية. بمقتضى هذه المقايسة تتجلّى أسمى الحقائق على أوضح ما يكون عليه التجلّي في أبعد انعكاساته عن المركز، أي على الصعيد المحسوس أو المادي. "الأطراف في تماس" كما يقال. أي أن بلوغ أقصى كثافة ممكنة للمادة يجعلها محل تجلٍّ بامتياز لأسمى تحقّق روحي.
تأسيساً على ما تقدم يمكننا أن نفهم سر التجسُّد، أي كيف "صار الكلمة جسداً" (يوحنا :1 14) وكيف يتيسر للفن المقدس أن يحتكم إلى قواعد تطبِّق في عالم الصور المحسوسة القوانين الكونية والمبادئ الكلية، قواعد تشي في مظهرها الخارجي الأعمّ بخصوصية حضارة معينة وبنهجها العام الذي يفسِّر بدوره نمط عقليّتها الفريد. لذا يمسي الفن، متى نُزعت عنه قدسيته وصار بشرياً "شخصياً" وبالتالي اعتباطياً، علامة وسبب تدنٍّ عقلي وانحطاط حضاري إذ يكف عندئذ عن أن يكون حاملاً للكشوف العقلية والروحية الرفيعة التي ترفع طرف النقاب عن الحقيقة المستترة أبدا، يتحول إلى مجرد استجابة للأشواق النفسية الجماعية الدنيا.
أن الصلة القياسية بين الكشف الروحي والصورة المادية تفسِّر لنا كيف كان للخبرة الروحية أن تنزرع على ممارسة المهن والفنون اليدوية. وهذا وجه مهم من وجوه المسألة التي نحن في صددها، أي فعل علم الباطن في عالم الظاهر من خلال الصور المحسوسة بما هي أوعية حقيقية للعقيدة الروحية، تنقل هذه العقيدة، بفضل رمزيتها، بلغة مباشرة وعالمية، وبذلك يبثُّ علم الباطن في الوجه الظاهر من الحضارة حصراً، خاصية روحية وتوازناً داخلياً يؤدي غيابهما اخيراً إلى انحلال هذه الحضارة برمِّتها. أن التخلي اليوم عن الفن المقدس حرم علم الباطن من وسيلة تأثيره المباشرة، وأدى إلى تكاثف الصور المحسوسة والى موتها.
وهي مناسبة للقول أن جمال الله يشير إلى حقيقة أعمق، أو بالحري أبطن، من خيره. قد نستغرب هذا القول للوهلة الأولى، لكن فلنعد إلى القانون الإلهي الذي بمقتضاه تكون المقايسة بين الصعيدين المركزي والمحيطي معكوسة، بمعنى أن الكبير في المركز صغير في المحيط، والباطن في المبدأ يبدو ظاهراً في التجلّى، والعكس بالعكس. تأسيساً على هذه المقايسة، يكون الجمال في الإنسان ظاهراً والخير باطناً، على عكس ما يحصل على الصعيد الإلهي حيث الخير هو مجرد "تعبير" عن الجمال ليس إلا. يفسِّر لنا هذا كرَّة أخرى كيف يمكن الجمال الإلهي، الأبطن في الألوهة، أن ينعكس في الصور المحسوسة.
الفن المقدس، بما هو تطبيق لقوانين إلهية وكونية، يبدع الجمال حتماً. أما الجمال في الفن "الواقعي" فليس في العمل الفني بما هو كذلك، بل في الغرض الذي ينسخه هذا العمل، بينما يكون العمل بحد ذاته جميلاً في الفن الرمزي المقدس، مهما بلغ تجريده أو استعارته للجمال من نموذج طبيعي. الفن الفرعوني مثال على ذلك، من حيث إن جماله ليس في الغرض الممثل له فحسب، بل في العمل الفني بحد ذاته أيضا، أي في الحقيقة الداخلية التي يُظهّرها العمل.
الأيقونة
تفصيل من أيقونة المخلص المعروفة بمجموعة زفينيغورود، لأندريه روبليف (أوائل القرن الخامس عشر)، محفوظة اليوم في غاليري ترتياكوف، موسكو.
|
ينطبق مصلحة "أيقونة" (من كلمة يونانية تعني "صورة") في المعنى الواسع على كل الصور المقدسة التي يكرِّمها المسيحيون في أوروبا الشرقية والشرق الأدنى، بصرف النظر عن حامل الصورة. بذا يمكن أن تكون الأيقونات من حيث المبدأ عبارة عن فسيفساء، أو جدرانيات، أو محفورات على الرخام أو المعدن، أو مطبوعات على الورق. أما في المعنى السائد حالياً فينطبق المصطلح على الصورة المقدسة المحمولة والمرسومة على الخشب، أو المعدن، أو حتى على الزجاج.
نشأة تكريم الأيقونات وانتشاره
ظهرت أولى الأيقونات في مصر في القرن الثالث الميلادي، وأقدم ما وصلنا سليماً من الأعمال يشبه إلى حد كبير صور الفيوم الشخصية الجنائزية التي حلت محل الأقنعة على التوابيت البشرية الشبه في العصر الهلنستي. ووجه التقليد اليهودي الذي تقيّد بالنهي التوراتي عن استخدام الصورة في العبادة الدينية بالتقليد اليوناني المؤيِّد نظرياً بالعقيدة الأفلاطونية الجديدة التي يعبِّر الرمز المادي في نظرها عن حقيقة روحية، وتكون للصورة، في هذا المعنى، وظيفة تعليمية. ولاقى هذا التقليد قبولاً في بعض الجماعات اليهودية. مثال ذلك الجداريات المستوحاة من موضوعات توراتية المنفَّذة على جدران كنيس دورا اوروبوس (الصالحية اليوم) على الفرات في القرن الثالث. بيد أن التقليد اليوناني هو الذي بعث في القرنين الثاني والثالث ظهور الصور المقدسة في الكنيسة المسيحية التي لم تستعمل أصلاً إلا رموزاً مجرَّدة (من نحو الصليب والحَمَل والسمكة والحمامة). ورحَّب العالم المسيحي بالوظيفة التعليمية للصور، لكن تكريمها لم ينتشر في المنطاق كافة، بل ظل محل عبادة في المنقول اليوناني البيزنطي.
كانت للأيقونات الأولى، شأنها شأن الصور الشخصية الجنائزية، قيمة تذكارية أصلاً، فكانت تمثّل للشهداء والرسل والعذراء ويسوع. ومع مستهل القرن الرابع بدأت شخوص نمطية تتشكل وصارت هالة النور تشير إلى قداستها. كانت صحة هذه الصور الشخصية ترتكز على اعتبار جوهري. كان يُعتقَد أن صور المسيح والعذراء عجائبية الأصل و"مصنوعة بغير أيد"، أما صور القديسين فنُفِّذت بحسب الأوصاف المنقولة حفظاً - شفهية أو مدوَّنة - بالمصادر المنقولة. وأقدم أيقونة تمثل للعذراء ظهرت في فلسطين ونُسبت إلى القديس لوقا، باستثناء الوجه الذي قيل انه رُسِم عجائبياً من دون أن تمسسه يد بشرية. وبحسب المأثور، يعتمد التمثيل لشخص المسيح على صورة شخصية بعث بها يسوع إلى ملك الرها (إذسا أو أورفه) أبجر أكّاما، "الأسود" (مات عام 50م)، وعلى نقاب فيرونيكا الذي يقال أن صورة المخلّص انطبعت عليه (لعل اسم فيرونيكا تحوير للكلمتين اللاتينيتين vera icona، أي "الوجه الحقيقي").
ومع تطور رسم الأيقونات بعد القرن الرابع، اندرجت فيها موضوعات تتناول الفصول التاريخية لرسالة المسيح (العجائب، مشاهد من سيرته)، ومن بعدُ فصولاً من حياة القديسين وتاريخ الكنيسة. وفي القرن السادس انتشر تكريم الأيقونات عبر الإمبراطورية البيزنطية، فكانت الأيقونات تُعرَض على المؤمنين في الكنائس أو أثناء المواكب الاحتفالية، كما يُحتفظ بها في المنازل الخاصة. وكانت عبارة إما عن قطعة واحدة أو مركّبة من قطعتين أو ثلاث. وقوة انتشار تكريم الأيقونات والقدرات العجائبية المنسوبة إلى بعضها، وتواحد الأيقونات في أذهان المؤمنين مع الشخصية التي تمثّل، خلقت منذ البداية معارضة ومناوءة من بعض آباء الكنيسة، مما أدى في القرن الثامن إلى أزمة تحطيم الصور Iconoclasm التي نجم عنها إتلاف عدد كبير من الأيقونات، ولا سيما في المناطق الواقعة تحت سلطان أباطرة بيزنطة المباشر. ورغم ذلك، عجز تحطيم الصور عن الحيلولة دون الانتشار اللاحق لتكريم الأيقونات في المناطق الواقعة على محيط الإمبراطورية، ومن هنا المحافظة على أقدم الأيقونات العائدة إلى القرنين الخامس والسادس في جورجيا (عبر القفقاس) وعلى جبل سيناء وفي قبرص. ومع إعادة الاعتبار الرسمية لتكريم الأيقونات عام ،843 تعمّمت ممارسة التكريم ليس في الإمبراطورية البيزنطية وحدها بل في مناطق سيطرت عليها الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية كشبه جزيرة البلقان وروسيا.
وفي أعقاب انتصار العقيدة الآخذة بتحليل التكريم عُرضت الأيقونات أكثر بكثير في الهياكل وظهر الايقونوسطاس ("حامل الأيقونات")، وهو عبارة عن شاشة من الأيقونات تفصل المذبح عن صحن الكنيسة. ويبدو أن الايقونوسطاس تطور عن الtemplon، وهو حاجز حجري أو رخامي أو عاجي يحوِّط الهيكل حيث المائدة المقدسة.
لاهوت الأيقونة ومعناها: التجسُّد و"التألُّه"
كان من شأن النزاعات التي أثارها تحطيم الصور، والقواعد التي وضعها مجمع نيقية الثاني (عام 787) أن عرف لاهوت الأيقونة في مباحثه الأساسية صوغه النهائي. كانت العناصر الأولى للعقيدة تبلورت في الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والرابع، إذ انبرى بعض المفكرين الافلاطونيين الجدد مثل كلسوس (النصف الثاني من القرن الثاني) وفرفيريوس (234-305م) والإمبراطور يوليانوس المرتد (مات عام 363م)، يجادلون المنافحين المسيحيين الذين أدانوا الأوثان بوصفها "شيطانية" لمحاولة تقديم تسويغ "لاهوتي" للصور المقدسة والتماثيل، بما هي رموز رمادية تعبِّر عن حقائق خارجية وروحية وتؤدي في الوقت نفسه وظيفة تعليمية لا يستهان بها. فبحسب الافلاطونيين الجدد، ليست العلاقة بين الصور ونموذجها البدئي ("العين الثابتة"، على حد اصطلاح ابن عربي) علاقة تماثُل: فالصور في نظرهم لا تفيد الا كمركبات يقارب بها النموذج البدئي الإلهي المستتر عن البشر بسبب جسدانيتهم. وهذه الحجج التي أدلى بها الأفلاطونيون الجدد يمكن الوقوع عليها في التطورات اللاحقة للاهوت. فالمفهوم القائل "إن الصورة المحسوسة مركبات نبلغ بها، قدر الإمكان، إلى المشاهد الإلهية" صرَّح به في وضوح لا لبس فيه ذيونيسوس الأريوباغي (مات عام 500م) في مقالته "مراتب السماء" (،1 2)، والعلاقة بين الصورة ونموذجها البدئي اتضحت بالنَفَس عينه في كتابات يوحنا الدمشقي (679-749) وسواها من لاهوتيي الكنيسة الشرقية.
وهكذا برّر المجمع المسكوني (787) تكريم الصور المساعدة وصاغه، مؤكداً على أن هذا التكريم ليس العبادة لكنه وسيلتها، من حيث أن الأيقونة التي تشفُّ عن نموذجها البدئي تيسِّر معرفة الله بالجمال.
اعتمد المصنِّفون المسيحيون من القرنين الثامن والتاسع ممن صاغوا لاهوت الأيقونة على معتقد مفاده أن التكريم يجد تبريره في تجسُّد أبن الله وينجم عنه تلقائياً. فبحسب جرمانوس الأول، رئيس أساقفة القسطنطينية (715-730)، يجوز رسم صورة الإبن لأنه "قبل أن يصير بشراً". بذا فان الأيقونة الممثلة للمسيح ليست صورة عن "الألوهة العصيّة على الفهم التي لا تموت"، بل الأخرى أنها صورة عن "الطبيعة البشرية" للكلمة المتجسِّد، تفيد برهاناً عن أنه "امتحن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة" (الرسالة إلى العبرانيين :4 15).
إن الهيكل كلّه، بهندسته وجدرانياته وفسيفسائه، أيقونة ضخمة هي من المكان اللثتورجيا من الزمن: "السماء على الأرض"، رمز البشرية المتألّه بالإبن، محلّ الروح، حيث يتحول الجسد الصائر إلى الفناء إلى جسد روحاني.
بيد أن الإله الحيّ لا يرقى إليه العقل. فلقد منع المجمع المسكوني السابع ومجمع موسكو الكبير (1666- 1667) التمثيل للأب، "منبع" الألوهية. لكن هذه تصبح مرئية - "من رآني فقد رأى ألآب" (يوحنا 9:14) - بتجسُّد ذاك الذي ليس كلمة الله فحسب بل صورته الحية، أساس الأيقونة مسيحيّاتي Christologique اذن، فيوحنا الدمشقي الذي كتب ثلاث مقالات منافحاً عن "الأيقونات المقدسة" قدَّم التعريف التالي بصورة الألوهة المرسومة: "أمثل لله غير المرئي، ليس بوصفه غير مرئي، بل بمقدار ما صار مرئياً لنا باتخاذه اللحم والدم". لا يمكن إذن التمثيل للمسيح إلا في "صورته البشرية، في تجلّيه المرئي". ونقرأ له في المعنى نفسه: "بما أن اللامرئي، وقد لبس الجسد، ظهر مرئياً، يمكنك أن تشخِّص شَبَه ذاك الذي جعل نفسه ظهوراً إلهياً".
وبيّن يوحنا الدمشقي، ومن بعده بصفة خاصة ثيوذوروس الستوذيوسي (759-826) ونيقفوروس، رئيس أساقفة القسطنطينية، العلاقة بين الصورة المقدسة أو الأيقونة ونموذجها الأصلي الإلهي. فالصورة لدى هؤلاء مميزة عن الأصل بما هي محل "تكريم نسبي". فمن خلال وساطة الأيقونة يتوجه المؤمنون إلى النموذج المبدئي الذي تمثِّل له، وبذلك يصبح التكريم النسبي للصورة فعل "عبادة" ويُقرَّب للألوهة حصراً. وهذا التمييز بين عبادة النموذج والتكريم النسبي لصورته التي ترمز إليه أزال خطر تحويل الأيقونات إلى أوثان، وهو خطر كان ملازماً لتكريمها. شدد ثيوذوروس الستوذيوسي على "أن التكريم لا يعود إلى جوهر الصورة بل بالحري إلى مظهر النموذج الأولي الذي تمثّل له الصورة [...] بما أن المادة [بحد ذاتها] لا يمكن أن تكون موضع تكريم".
هذه الإيضاحات أكدت على الصلة الوثيقة بين لاهوت الأيقونة والمسألة المسيحياتية التي طرحتها الهرطقة الدوكيتية التي شكّكت في ناسوت المسيح الحقيقي، زاعمة أن جسد المسيح لم يكن الا مجرد "مظهر". ففي تمييز مضاد أشيرَ إلى أن الأيقونة تمثِّل لصورة تجسِّد ابن الله، وبذلك، على حد قول جرمانوس، "تبرهن انه استعمل طبيعتنا بسبل غير الخيال". فالمسيح، على كونه غير موصوف في طبيعته الإلهية، موصوف بالحقيقة الكاملة لناسوته. وبحسب ثيوذوروس الستوذيوسي "يبيِّن كون الله قد صنع الإنسان على صورته ومثاله أن رسم الأيقونات فعل من الله".
من هنا فإن الأيقونة روحيّاتية pneumatologique أيضاً، من حيث أنها تستبق التحوّل النهائي للناسوت. ففي جسد المسيح، بما هو محلّ فصح متجدد دائما، يستطيع الإنسان، بوصفه مخلوقاً على صورة الله، أن يجد في الروح وجهه الحق. وهذا الوجه هو الذي تومئ إليه الأيقونة بتجسيد التعليم الصوفي والرياضي للمسيحية الشرقية في التألّه theosis: الاختزال الاستبطاني للأذنين والفم، الجبهة المتمددة والنورية، العنق المنتبج بالنَفَس الحي والمحيي، الوجه الذي "كله عينين" corpus makarianum، أي شفافية محضة، والتمثيل الجبهي الأمامي دوماً (التمثيل الجانبي مَوْضَعَة تضيع فيها الرموز). كل ذلك يشير إلى كائن أصبح في آن واحد "صلاة محضة" وقبولاً خالصاً.
النهار - السبت 26 نيسان 2003
بقلم
ديمتري افييرينوس
"الصلب"، أيقونة تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر، محفوظة في غاليري ترتياكوف في موسكو. |
الأيقونة ليست "مساوية في الجوهر" لنموذجها الأصلي، وفيما هي تستعمل الرمزية فإنها ليست رمزا بالمفهوم السوريالي مثلا. إنها تبتعث حضورا "شخصيا" والرمزية هنا تجلو هذا الحضور وتؤجّجه، وكل الجوّ الكوني المحيط به مشبع بالسلام والنور الإلهيين. الأجسام والملابس منارة بفراض رقيقة مذهّبة، والحيوانات والنباتات والصخور تتسم بضرب من الجوهرية الفردوسية، وهندسة المساحة تصبح لعبة هي التحدي الروحي لثقافة هذا العالم.
أن أورشليم الثانية - أورشليم السموية - أي الكون المتروحن الذي تفصح عنه الأيقونة، "بها غنى عن ضياء الشمس والقمر لأن مجد الله أضاءها، والحمل قام مقام مشعلها" (رؤيا 21:23)، ففي الأيقونة لا يصدر النور عن بؤرة محددة، انه في كل مكان، من دون أن يلقي ظلا (عمق الصورة نفسه هو الذي يدعوه الايقونيون "نوراً") وكل الحقائق تبدو مضاءة بنورها الداخلي. والمنظور الذي غالبا ما يكون معكوسا يفتح الفضاء على هذا الامتلاء الذي يختفي فيه كل استظهار للأشياء.
ليس للأيقونة قيمة تربوية فحسب، بل قيمة "أسرارية" Sacramental، ولاهوتها يخلع عليها دورا يكاد يكون اسرارياً لا تتم المصادقة على صحته الا بحلول بركة روحية تؤيد بخاتمها هذه الصحة. والأيقونة، بما هي "اسم" (في المعنى الكتابي) مدوّن دائما على جانبي الوجه، تفصح عن كل شخص متقدِّسا بسر النور والجمال الإلهيين. كل حضور حقيقي يفصح بالفعل عن وجه جديد للبشرية المتألّهة، ويصبح لكل من يلج سرّه جسرا يعبر منه إلى اللقاء بحالة القداسة.
من هنا لم ينتم فن تصوير الأيقونة، كما فهمه المصوّرون الأولون، إلى الجماليات esthetics، بل إلى الليتورجيا. وكمال الصورة لم يكن أكثر من تعبير ملائم عن جوهر الخبرة الروحية. لم يكن الرسام فنانا في المعنى الحديث للكلمة، بل كاهنا: كانت موهبته وفنّه الشخصي شرطا لازما للعمل لكنه غير كاف. كان يقع عليه اختيار مرشد وتوجيهه الروحي، ولا يحق له أن يباشر العمل من دون إجازة هذا المرشد وإذن منه. وبدء تعليمه كان يتسم بطقس (صلاة ومباركة) مماثل تماما لطقس الأسرار.
أحجم مصوّرو الأيقونات الأوائل عن توقيع أعمالهم لاعتقادهم أن شخصيتهم لا أهمية لها قياسا بالمعنى الذي يرسمونه. ومن اللافت للانتباه أن تتزامن أولى الأيقونات الموقعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مع بدء انحطاط فن تصوير الأيقونة. والمصوّرون الاقدمون، بما هم مؤولو hermہneutes الحقيقة وناقلوها، يتبعون قواعد صارمة، فموضوعات لوحاتهم لا يصح الا أن تكون نماذج موضوعة سابقا: مشاهد من الأسفار المقدسة، أو - وهذا أندر - رؤى معترف بها. وكانوا ينفّذون عملهم بعد فترة صوم محددة واقتبال القربان المقدس، وبعضهم كان أيضا يمزج إصباغه بالماء المقدس وغبار اثر القديسين.