(1)
"الجمال ماهو إلا بداية الرعب الذي مازلنا
بالكاد قادرين على تحمله مبهوتين"
(ريلكه)
أولا: الآلة المتوحشة وعزلة الفنان
اذا كان الإنسان في زمن العولمة يشعر بعزلته من جراء تطور عالمه تكنولوجيا، فان الفنان المعاصر يعاني من اغتراب وعزلة مضاعفة:
* عزلة أمام عدم تكاملية منجزه الفني و تكامل مفردات لغته الفنية لعدم امتلاكه قدرة الخيال المطلق والحاسة الخارقة للتعبير عن أسرار الحياة والوجود. /
* وعزلة أخرى تحاصره كفنان من خلال اغترابه الذي تخلقه الآلة والثورة التكنولوجية.
وبالتأكيد فان هذا يعمق الهوة بينه والعالم الآخر وينسحب هذا الاغتراب ايضا على مجالات ثقافية أخرى، مما يضع المثقف والعالم الذي يعيش فيه في زمن العولمة، أمام أزمة فكرية ومعرفية تثير الكثير من الالتباس والغموض. ومما يعمق هذا الاغتراب والعزلة وهستيريا الروح المعاصرة هو: وجود الفوضى الكونية المنظمة التي تبدو حضارتنا من خلالها وكأنها تنحدر نحو هاوية النهاية الجحيمية وليس غريبا ان يفنى كل شئ ويعود الإنسان الى الكهوف الحجرية. وبالرغم من ان العولمة ومكتشفات الفكر منحتنا حق تفحص كل اليقينيات من جديد، فالعقل والخيال البشري المتنور قد أنجز الكثير من مراحل التطور مما منحنا الآن القدرة على الشك في كل شئ، بما فيه الشك في التاريخ و الفكر ومرتكزات الإبداع والوعي الجمالي وكذلك الشك في المفاهيم جميعها سواء الكونية أو البيولوجية منها أو علاقة الذات بالأنا الأخرى…الخ. لكن الشئ المهم هو أن الخطوات الأولى لمرحلة الشك في الوعي الإنساني ذاته قد أنجزت أيضا عندما بدأ كل من ماركس ونيتشه وفرويد، الشك في المفاهيم السابقة ووضعوا تأويلهم الجديد لها وصاغوا مفاهيم جديدة، وبهذا فأنهم اعتبروا فلاسفة للشك الذي من خلاله فرضوا الحداثة في الفلسفة والفكر ووضعوا البذور الأولى لما بعد الحداثة مما مهد الطريق أمام هيدجر وبارت وفوكو ودريدا وغيرهم لاكتشاف بصرية الشك والتأويل.
لكن ما يزيد عمق الأزمة المعاصرة هو، العمل وبقصدية، على استلاب الإنسان الثقافي ومحو أي اختلاف فكري عن طريق سلطة العنف والقمع، وعكس هذا فان الأنظمة والقوى المسيطرة ستضع الإنسان في زاوية التمرد من اجل السيطرة عليه. مما يخلق اتجاها استغلاليا (استهلاك فكري) يجعل من العولمة انقلاب يتسم بالهيمنة على المراكز الحضارية الصغيرة فيؤدي الى بروز سمة مميزة في الثقافة الإقليمية هي:
الحنين الى الماضي الذي يبدو وكأنه يوتوبيا متخلفة لأنه ماض يشكله النهب الامبريالي والاستعماري فيصبح وكأنه حنين الى صور الفقر والبدائية كما يؤكد رايموند وليامز في كتابه طرائق الحداثة.(عالم المعرفة ـ الكويت).
والحنين الى الماضي سببه التمسك والبحث عن الهوية والخصوصية، وهو سلوك لمواجهة غزو الاغتراب السيكولوجي الذي يفرضه التبادل السلعي العابر للقارات في المجال الثقافي أي الغزو الثقافي الذي يحرص على ان يتحول الى اشكال ثقافية وفنية ووسائل إعلام تفرضها الأقمار الاصطناعية على الثقافة الإقليمية.وبالتأكيد فان هذا يفرضه واقع جديد هو ان مراكز الإنتاج الثقافي والإعلامي والفني العالمي حُددت بأماكن حضرية قليلة فرضت مايسمى بالقرية العالمية في محاولة لفرض ثقافة متجانسة تفرضها شركات الاحتكارات التي تعمل على إشاعة التجانس والتهميش الثقافي وكذلك وجود نخبة من المثقفين الذين ينظرون لأديولوجيا التجانس، وبالتأكيد فان هذه الآديولوجيا تجد ضالتها في التطور التكنولوجي الاستغلالي لفرض غزو ثقافي يخلق الاغتراب. ومثل هذه الآديولوجيا ضيعت فرص التبادل الثقافي الأصيل والمتنوع بين الشعوب والأمم (انظر المصدر السابق) وبالتأكيد فان هذا يخلق سوء التفاهم بين البشر ويعمم العنف التكنولوجي ـ الحضاري ضد الإنسان بما فيها الحروب المعتمدة على آلات تكنولوجية للدمار.
ومن اجل خلق الحصانة الداخلية إزاء هيمنة السطو الثقافي في زمن العولمة تتحول المجتمعات الإقليمية الى مايشبه الكيانات المعزولة مما يؤدي الى العودة الى كل ماهو ماضوي و فطري وبدائي وسلفي مما يحتم نبذ ميراث الفكر الحديث، وانحسار النظرة الكوسموبولوتية ـ الكونية للعالم وإبداعات الإنسان العلمية والتكنولوجية.
ولكن اذا نظرنا الى التطور التكنولوجي، على أساس تكاملية التكنولوجيا ولخدمة تطور جميع الثقافات في عالمنا، فان العولمة تصبح ضرورة عالمية، وهذا يعني التبادل والتكامل الثقافي بعيدا عن الهيمنة من طرف واحد لمراكز القوى، فيصبح فتح الحدود أمام هذا التطور الهائل هو تحقيق النزعة التفائلية التي دعى لها فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر، بمواجهة فلسفة نهاية التاريخ والإنسان المتشائمة.
ومن جانب آخر فان الثقافة والفن والفكر بأبعادها الكوسموبولوتية و بعيدا عن مركزية الهيمنة لثقافة ما، ستحقق طرفي المعادلة، وسيكون هدف الثقافة والفن الإقليميتان بخلفيتهما التكاملية لتحقيق شمولية الوعي الإنساني.هذا النزوع التكاملي هو الذي يعطي لخصوصية الهوية تمايزها، وفي ذات الوقت يمنح الفكر والفن الكسموبولوتي غناه وتنوعه وتفرده نتيجة لاختلاف مصادره هذه الخصوصية وتنوعها.
وإذا كانت هنالك خطورة نتيجة لهيمنة الآلة و تعميم آلية العقل التجريدي المعاصر وإشاعة التجانس والتشابه الفكري والفني مما يخلق ثقافة اغترابية وإنسان معزول، فان الخطورة تكون مضاعفة في الإبداع الفني، لان كل هذا سيحول نتاج الحواس الى آلية وعقلانية تؤدي الى تشيئ الذات والفكر وتحويله الى فكر استهلاكي، وتخلق نوعا من انتفاء القدرات الحسية في الفن وتحتم قاحلية اللغة الفنية وتهميش الفن وفقر الخيال وقدرته على التأويل الجمالي.
وبالرغم من هذا التطور التكنولوجي الهائل وما انعكس على تطور في الفنون البصرية وبالذات في الفن العالمي الا ان السؤال الجوهري يبقى ملحا وهو: هل يتحول الفن الحسي الى فن تتحكم به الكابلات والأقمار والفضائيات؟ وهل تتكيف الثقافة والفن نتيجة لتقنية العقل التكنولوجي الجديد؟
أم ان الفن مازال يمتلك خطابه ولغته وتأثيره الذي سيشمل تطور الإنسان والآلة معا من خلال اكتشاف الفنان لتلك الوسائل التي تكيف التكنولوجيا لخدمة اللغة الفنية والجمالية التي ستستغل العلم لتطوير مفردات خطاب الإبداع الفني وهدفيته. وهل سيتولى الكمبيوتر أمرنا أم ان القلب النابض ومشاعر الإنسان تحت قيادة عقل متنور حاضن ومبدع للتطور التكنولوجي هي التي ستخلق اللغة الفنية والإبداعية الجديدة.؟
إذن ماهي الحصانة الداخلية التي يجب ان نمتلكها في مواجهة هذه الخطورة؟
بداً ان المشكلة الجوهرية هي ان حواضرنا العربية المعاصرة لا تمتلك أساسا الحصانة الداخلية في مواجهة الغزو الفكري والتكنولوجي الأوربي، لأنها مدن متلقية، وبهذا فليس أمامنا إلا إذا آمنا بضرورة معرفة الكيفية التي يمكن ان تتحول بها هذه التكنولوجيا (الغازية؟؟) الى جزء من حياتنا اليومية وتدخل ضمن ثقافتنا ومفردات لغتنا الفنية. لكن هذا غير مسموح به لأسباب كثيرة منها سياسية واجتماعية ودينية، لأن العرب عادة يربطون بين التطور التكنولوجي والإباحية سواء كان ذلك في إشاعة الحرية والديمقراطية و ماتتطلبه الحياة المتطورة من الدعوة الى منح المرأة حقوقها وحريتها في ممارسة العمل الميداني جنبا الى جنب مع الرجل كمنافس له. أو الدعوات التي يطلقها الفكر السلفي الذي يحارب الحياة الحديثة عادة عندما يدعو الى أن الكمبيوتر هو آلة شيطانية تؤدي الى الفساد وتخريب الأخلاق، متنا سين بان شيطان هذه الآلة (العقل العلمي) هو الذي يمنح هذه الثورة العلمية والفكرية والتكنولوجية التي تمنح الشك في كل شئ وإثارة الأسئلة المسكوت عنها التي هي ضرورية لتطور المجتمع والإنسان.
أما من الجانب الجمالي والفني فأن الالتباس الذي يعيق تطور الفن العربي الآن ويخلق جوهر أزمته هو سكونية لغته الفنية بالنسبة الى المشاهد. لذا فان ديناميكية الفن لايمكن ان توجد الا في قدرته على إثارة الأسئلة و هذا يدفعنا الى التفكير بالفن التشكيلي العربي المعاصر من جديد مع تشخيص الخطورة التي تواجهه والتي تكمن في أن هذا الفن سيفني ذاته كفن…..لأسباب ثلاثة:
- أما كونه فنا واقعيا فوتوغرافيا يخدعنا برؤية الواقع والطبيعة مرة ثانية في اللوحة.
- أو لأنه فنا استهلاكيا يلتزم بسوق العرض والطلب التجاري، مبتعدا عن معالجة القيم الإنسانية
- والمعرفية العميقة وقلق الإنسان بسبب الخوف من انهيار حضارته.
ـ أو باعتباره فن لايعالج أسئلته اعتماد على لغة الفن البصرية والتي تؤثر على البصر والبصيرة، وهذا يمنع الفنان من القدرة على التفكير بصريا لأنه مازال يفكر بحدود إطار اللوحة فقط.
ومن اجل ان يؤثر الفن التشكيلي العربي في الوعي الفكري والجمالي للفنان والمتلقي يكون من الضروري التفكير بجوهر وماهية الفن باعتباره بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه وبصرية ـ
وهذا يتطلب تغيرا في المفاهيم الأساسية للغة الفن البصري بحيث يشمل التغيير:
- الوعي البصري للفنان
- السرد البصري التأويلي لمكونات فضاء اللوحة.
- علاقة فضاء اللوحة بالفضاء الملتبس الذي يكون خارج إطارها، وكذلك علاقة فضائها بالمشاهد ـ المتلقي البصري ـ أي المتفاعل وذلك عن طريق ماندعوه بالتفاعلية في الفن. ولا يمكن ان يتحول الفن الى رؤيا بصرية إبداعية و صورة فنية متشبعة بالدلالات مالم يوجد حيز للبعد الرمزي والتأويلي. ففي الفن البصري يتحول الزمن الواقعي الى زمن فني يشكل بعدا ميتافيزيقيا، أي زمن الرؤيا والحلم والواقع اللامرئي في حركته الديناميكية. ان مثل هذا المفهوم للفن يخلق رؤيا بصرية تجعل من الفنان راء متفرد نتيجة لرؤيته الإبداعية الخاصة التي تبحث في الزمن الإبداعي. إذن الرؤيا الإبداعية تبنى من خلال تحقيق معمارية السرد البصري للفضاء في اللوحة،وهذا الفضاء البصري الديناميكي سيبقى حجابا غير مكشوفا وسيتحول الى لغز غامض بالنسبة الى المشاهد اذا لم يكون قريبا من روحه و اذا لم يعالج ماض وحاضر الإنسان و يتنبأ بمستقبله ويمنحه القدرة على ان يفكر بصريا حتى يقترب من ان يكون بصيرا.
اللغة البصرية لمكونات فضاء اللوحة ضمن مفهوم البعد الرابع
الزمن الميتافيزيقي والبعد الرابع لفضاء اللوحة.
تنجز العملية الفنية في فضاء اللوحة في زمنين هما الماضي والحاضر أي 1) ذلك المحفز الذي تشكلت صورته في ذاكرة الفنان 2) والزمن الآخر هو حاضر تحقيق اللوحة، والحاضر هنا هو آنية وعي وذاكرة الفنان مضافا إليه التداعيات التي يفرضها انجاز فضاء اللوحة. وهذا ينتج بل يشكل زمن واحد هو الزمن الإبداعي الآني، بمعنى ان الحاضر يحتوى ايضا على الماضي المتكدس والمتوهج في ذاكرة الفنان وليس الماضي كمفهوم زال وانتهى. وهذا يعني حسب (هايدجر) آنية لحظوية (أي حضور آني). أما المستقبل فهو ذلك السؤال الذي يطرحه الفنان على المشاهد المتفاعل وهذا هو احد الجوانب الفكرية لتحقيق البعد الرابع.إذن فالمستقبل الغامض الذي يطمح الفنان من خلال فضاء اللوحة في الكشف عنه يعني ذلك السؤال المصيري الوجودي الذي يقلق الفنان والمشاهد المتفاعل في ذات الوقت. وباختصار هو جوهر العملية الفنية.
ولهذا فان الرؤيا البصرية تعني سرد الفضاء الذي يشكله مكونات فضاء وديناميكية اللون وذاكرة الأشياء غير المتناهية وحركية الإيقاع وهي في زمنها وفضاءها الإبداعي، وعلاقة كل هذا بالتلقي من قبل المشاهد وقارئ اللوحة، والبعد الرابع لزمن وفضاء اللوحة يعني ايضا إدراك المشاهد المتفاعل للبعد البصري لفضاء اللوحة المبني على تلامسية الأزمنة الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل، وهنا يبدأ تأثير التفاعلية في وعيه وحواسه. وبما ان البعد البصري يساعد على تحقيق الامتداد اللامرئي لمكونات عالم اللوحة خارج إطارها أي خارج عالمها، وفي ذات الوقت الامتداد داخل العالم الخارجي (عالم الفنان والواقع).ان هذه العلاقة بين بصريات اللوحة امتدادها خارج إطارها، وبين الدخول بل التأثير في العالم الخارجي: هو نزوع لتشكيل لغة جديدة تنشئ كشف اللامحدود واللامرئي الذي يخلقه فضاء الفن البصري في علاقته بالعالم الخارجي و بالمشاهد. لان اللوحة بالرغم من انتمائها الى العالم المتناهي إلا ان طبيعة الرؤيا البصرية لذلك الفنان الذي يبحث في المجهول هي التي تغني مكونات فضاء اللوحة ليتعمق امتدادها في اللا متناهي. وبالتأكيد فا ن هذه الرؤيا تتجاوز من الإدراك العقلاني الذي يقوم العقل فيه بتجريد الأشياء وتصويرها، الى الإدراك الحسي، الذي يلعب دوره الأساسي في كشف الرؤى الفنية التي تمتد في الزمكان(هو نسبية الزمان والمكان ـ الفضاء)الذي تنتمي فيه مكونات فضاء اللوحة الى فضاء ديناميكي آخر غير واقعي، لاينتمي الى الزمان المألوف وإنما الى الزمان البصري أي الى حركية الوجود الديناميكية لمكونات فضاء اللوحة.
الزمان والحركة
وبالتأكيد فان هذا الفهم لمعمارية السرد البصري في فضاء اللوحة يعتمد على الزمان المتحول الى حركة، وبالرغم من ان جميع المفاهيم الفلسفية والعلمية لتفسير الزمان التي أكدت على انه جوهر غامض وغير محسوس إلا من خلال علاقته بمظهر مادي آخر، غير ان الزمان يبقى هو ذات الزمان بسريانه الأزلي. ولتحقيق هذا يمكن ان يقترن الزمان بالحركة المادية (كحركة الشئ وإيقاعه) من اجل ان يصبح محسوسا وتكون له بداية ونهاية ويمكن السيطرة عليه.
ولكن عندما نتكلم عن البعد الرابع لفضاء وزمن اللوحة يعني بالضرورة الحديث عن الزمان الإبداعي البصري المرتبط بحركية مكونات فضاء اللوحة (موضوعها). و يلعب الإيقاع أهمية خاصة لتأكيد حركة الزمن في اللوحة كما هو الحال في فن الأوب آرت Op Art. وبالتأكيد فان معالجة فضاء اللوحة ضمن مفهوم البعد الرابع والتأكيد على الزمان البصري فان هذا سيعالج إمكانية خلق أسطورية " الواقع الواقعي " حسب شوبنهاور أو حسب فاسيلي كاندنسكي الذي يعتبر الفن " كإرادة تمثيل الأساسي الجواني " دون غيره مع حذف كل مصادفة بّرانية. ومن هذا المنطلق يمكن ربط الزمان البصري بأسطورية الواقع الذي يعالجه الفنان في فضاء اللوحة وهنا يرتبط الزمان الإبداعي بالزمان الأسطوري، وهو كيان له مكوناته المادية الممتدة من الماضي ليمتزج في الحاضر ويستشرف المستقبل، فاستعادة الأسطورة ضمن مفهومنا للبعد الرابع لمكونات فضاء اللوحة يعني كشف حجب الأسرار و وضبابية السديم بواسطة اكتشاف الرمز والتأويل عن طريق البصيرة والكشف الباطني للفنان وهنا تعني أسطورية الواقع الواقعي في فضاء اللوحة (هي استعادة مجسدة للزمان بكل مكوناته المحسوسة والملموسة) (حسب د. ملك احمد أبو النصر) وهذا الزمن الخاص هو الزمن الأسطوري الذي يعبر من خلاله الفنان عن أسطورية الواقع الواقعي، كما هو الحال مع الرؤيا الأسطورية التي شخصها فاسيلي كاندنسكي في تجريداته الأسطورية عن الواقع الواقعي اعتمادا على مفهومه عن الزمان الخارجي للعناصر والزمان الداخلي للكائنات. وبهذا فان التعبير عن أسطورية الواقع تخرج الزمان الأسطوري في فضاء موضوع اللوحة، من ظلام البرزخ الى نور الأنوار، من العدم الى الوجود (أي تأكيده) من اجل سمو الإدراك العقلي والحسي. وكما نؤكد من خلال مفهومنا للبعد الرابع لفضاء اللوحة على ديناميكية الزمان البصري فانه في ذات الوقت يتم التأكيد على ذاكرة اللون وبصرية الإيقاع الذي يكون أكثر وضوحا ماديا في فنون بصرية أخرى.
***
البعد الرابع لغة فن التشكيل البصري في زمن العولمة
(2)
(ان الجمال ماهو إلا بداية الرعب الذي مازلنا
بالكاد قادرين على تحمله مبهوتين.)
ريلكه
ثانيا: ذاكرة اللون وأسرار لغة النار المتوحشة
يؤَول فضاء اللوحة البصري كشفرة تؤسس بصرية الفن المستقبلي. وهذا التأويل الشفري يتحقق نتيجة للقرآن التأويلية الكثيرة لأنساق الفضاء البصرية من قبل المشاهد المتفاعل مما يؤدي الى تكامل الصورة البصرية. وبتكامل استقلالية اللوحة يتحقق زمنها وكينونتها البصرية (الزمن الإبداعي). ومكونات الفضاء هذه هي (بصرية الذاكرة المطلقة لتحولات اللون، حركية إلايقاع، ذاكرة الأشياء التي عوضت عن موت الجسد في فضاء اللوحة، علاقات الضوء والظل، اللون، التداعي أي الهذيان البصري لمكونات فضاء اللوحة) ولا يمكن ان يكون مثل هذا الفضاء بصريا مالم يتخلص من قصديات مبدعه (الفنان). إن موت الفن المعاصر يكمن في حيثيات سوق العرض والطلب التجاري والمباشرة وهامشية معالجاته لمشاكل الذات والمجتمع، و كذلك سذاجته عندما يتحول الى خدمات إعلامية و تسيطر عليه لغة الإعلان التجارية عن طريق تحوله الى لغة البوسترات. أما مستقبله فيكمن في لغة السرد البصرية وأسرار هذياناتها الرائية، والتي تبنى عن طريق تحقيق البعد الرابع لفضاء وزمن اللوحة ومساهمتها في إغناء الوعي الجمالي للمشاهد المتفاعل.
ولكن أية لغة فنية هذه التي من المفترض أن تؤثر على البصر والبصيرة؟؟
يرتكز الفن التشكيلي البصري المستقبلي على ركيزتين:
ـ الوعي البصري للفنان (البعد البصري للوعي الفني وإمكانية الغنى التأويلي)
ـ تداعي وغنى لغة الفضاء الإبداعي (أي الحوار بين تداعيات فضاء اللوحة التي يخلقها الفنان البصري وبين المشاهد أو قارئ اللوحة).
ان التداعي البصري لفضاء اللوحة هو الذي يخلق اللغة الفنية، فمن خلالها يمكن أن نمنح مكونات الفضاء أي اللون والظل و الضوء وحركة الإيقاع والكتل وذاكرة والأشياء وغيرها، كينونتها التأويلية والدلالية والبصرية في زمن جديد هو الفضاء البصري، أي خلق تداعياتها البصرية، منذ البذرة الأولى التي تكونت في وعي الفنان البصري وتطورت بعد ذلك لتتعمق أبعادها الميتافيزيقية نتيجة لإمكانات التأويل والتي تؤدي الى تغير زمن المشاهدة من واقعي الى زمن بصر ي إبداعي فيصبح المشاهد المتفاعل جزء من اللغة الفنية عندما يكتشف أسرارها عن طريق وعيه التفاعلي (التفاعلية) وبالتأكيد فان هذا يعتمد على بصرية الفنان وتفاعلية المتلقي. لأنه لايمكن فهم الأسرار الفنية من قبل المشاهد عندما لا تكون اللوحة ذات بعد بصري وعندما لا يكون المشاهد متفاعلا ومستعدا لتقبل وتأويل فضاء اللوحة البصري، وإذا حدث هذا فتكون العلاقة بين المشاهد وفضاء اللوحة معتمدة على البصر فقط الذي يتحدد بإطار اللوحة وعالم المتناهي، أي ان المشاهدة لاتعتمد على البصيرة للوصول الى لغة الفضاء البصري من هنا تأتي أهمية التفاعلية في العلاقة بين المشاهد وفضاء اللوحة
التفاعلية والفضاء البصري
لقد حدد تاريخ الفن العلاقة بين الفنان أو فضاء اللوحة وبين المشاهد على الشكل التالي: (واللوحة هنا ليس فقط الفضاء المحصور بين الإطار وإنما تمتد الى فضاء العالم الخارجي) ان تكون اللوحة خطابا (سياسيا وايدولوجيا في الكثير من الأحيان) ووسيلة توصيل أفكار الفنان القسرية أحيانا للمتفرج بدون إعطاء مساحة للتأويل لعقل وأحاسيس المشاهد ضمن قراءته وفهمه لعالم اللوحة، أي ان مكونات فضاء اللوحة هي وسيط بين الفنان وبين المشاهد.ولكن اذا اعتمدنا مفاهيم ومفردات الهرمنوطيقيا الفنيومينولوجية (التأويل الظاهراتي) لاكتشفنا علائق ودلالات أخرى لها علاقة بأنساق بصرية تمنح اللوحة إمكانيات جديدة للتأويل البصري، فتكون المعادلة أكثر تكثيفا حيث تتحول من علاقة الفنان باللوحة باعتبارها خطابا لبث أفكاره (اللوحة كوسيط) الى علاقة جديدة بين اللوحة البصرية وبين المشاهد (الذي يجب ان يمتلك القدرة على ان يكون متفاعلا حتى يفهم بصريات فضاء اللوحة) ونستنتج بان:
فنان بصري + رؤية فنية و تداعي بصري = فضاء بصري (اللوحة)
مشاهد + فضاء بصري = مشاهد متفاعل (التفاعلية)
إذن من خلال وعي الفنان البصري يتم إنتاج فضاء اللوحة البصري (أي في الزمن الإبداعي الأسطوري)، وهذا يحتم مشاهد متفاعل لفهمه. بدلا من فنان غير بصري وبدلا من فضاء اللوحة التقليدي وبدلا من مشاهد هامشي غير متفاعل.
والمشاهد المتفاعل هو الذي يبحث عن لذة بصريا ت فضاء اللوحة من خلال منهج التفاعلية ويتحقق هذا عندما يكون المشاهد متفاعلا ديناميكيا ليس لأجل الحصول على الأجوبة مما يراه وإنما من خلال البحث في الأسئلة المصيرية التي تمنحها بصريات فضاء اللوحة التي تعالج ماورائية الأشياء وذاكرتها، إذن هذا الفضاء البصري هو الذي يحفز على خلق مشاهد متفاعل. ولهذا فإننا يمكن ان ندعو الفضاء غير البصري، بالفضاء المغلق لأنه الفضاء الذي يتم إنتاجه بوسائل غير بصرية ويسهب للتعبير عن كل شئ حد الثرثرة، و يقدم الأجوبة والحلول والنتائج الشافية و الجاهزة لمختلف المشاكل التي يعالجها فتبدو كغبش السديم وبعيدا عن الأسرار التي تتفتح أمام البصيرة. ان في هذا الفضاء المغلق غير البصري لا يحتوي على مساحات للتأويل ليحفز بصيرة المشاهد المتفاعل ولا على فضاء التداعي البصري. ومثل هذا الفضاء المغلق على ذاته وغير المفهوم والثرثار بالخطوط والألوان والكتل التي ليس لها علاقة بالفضاء البصري وواقع الواقع، ولايعني إطلاقا بميتافيزيقيا الخيال البصري بالتأكيد سيمنع أي تأويل وغنى لمستقبل لغة اللوحة في علاقتها بالمشاهدة.
الفضاء غير البصري والاغتراب
ان الفضاء غير البصري المغلق للوحة يعمق الاغتراب بينها وبين المشاهد المتفاعل فلا يتم الحوار بينهما، وبذلك يفقدان الاتصال مما يعمق الاغتراب في وعي وروح المشاهد وبهذا فان عالم اللوحة البصرية يفقد أهم خصوصية يتميز بها وهي التواصل مع المشاهد المتفاعل من خلال وضعه أمام الأسئلة المصيرية المعاصرة،أي وضعه في وجود العالم.. لان ما عولج فقد عولج بوعي غير بصري في فضاء غير بصري، وعلى هذا الأساس فان صداه لايثير الدهشة ولا يتردد في روح المتفاعل، أي إن مثل هذا الفضاء يساهم في اغتراب آنية اللوحة ايضا.
لكن تداعي الرؤيا البصرية للفنان تخلق إلامكانات التأويلية لفضاء اللوحة البصرية، وبالتأكيد فان هذا يشكل لغة تجسيدية ودل، فتختلفلق التأثير والاتصال بين خيالين، خيال المشاهد المتفاعل من جانب وخيال الفنان من جانب آخر.لذلك فان المعادلة في اللوحة البصرية المعاصرة ذات الفضاء المفتوح، تفرض أدوات ووسائل ومفردات لغة فضاء بصرية جديدة نفسه، فتختلفف جوهريا عن فضاء اللوحة المغلق وتمهد لتفاعلية المشاهد القارئ للوحة مثل:
فنان بصري + رؤيا بصرية = فضاء اللوحة
مكونات الفضاء البصري (الأنساق) + ميتافيزيقيا الخيال البصري= فضاء بصري جديد (الزمن البصري الجديد للوحة)
الفضاء البصري + الزمن البصري الجديد (الإبداعي) = التفاعلية
فالفنان وتداعياته البصرية (خالق الفضاء البصري في اللوحة) يبرز الجسد وكينونة الأشياء والكتل في الفضاء البصريـ الإبداعي للوحة كذاكرة مستقلة تعمق تأويل اللون والظل والنور وموسيقية الإيقاع وغيرها من المفردات الأخرى، مما يعمق إيقاعياً استقلال وجود ها الجديد الذي يظهر في زمن غير واقعي، أي يتكامل في الزمن البصري وميتافيزيقيا الخيال لفضاء اللوحة. لان التأويل والإيحاء والدلالة هي التي تكثف هذا الوجود. وهذا الوضوح البصري في فضاء اللوحة سيساعد المشاهد على ان يكون متفاعلا في لحظة المشاهدة.
ومن خلال هذا نفهم بان المفردات التي تكّون بصرية الفضاء اختلفت عن المفردات غير البصرية للفضاء التقليدي الملتبس والغامض والثرثار، لان بصرية اللوحة متأتية نتيجة لديناميكية الأنساق ومفرداتها في الفضاء البصري وذاكرة الأنساق (اللون ن الظلال...الخ) التي حلت محل الإنسان (الفيكر) إضافة الى ميتافيزيقيا ذاكرة الأشياء التي تمنح الوضوح في تأويل الفضاء، وهذه تكون زمن الرؤيا البصرية الإبداعي. وبصرية مكونات الفضاء هنا لا يكون كوسيط لنقل أفكار الفنان بقشرية وإنما امتلكت استقلاليتها الفضائية التأويلية.إذن تداعيات الفضاء و الذاكرة المطلقة للون والظل والضوء والإيقاع وميتافيزيقيا ذاكرة الأشياء كلها توحي بالبعد الرابع لفضاء اللوحة.
ويكشف الفضاء البصري تلك الصور وأسرار اللون المتحول الى نور (الذي طمح فان كوخ الى تحقيقه) وحركية الإيقاع ولغة الخط المستترة في غبش الفضاء أحيانا، وتلك الرؤى المحجوبة في الزمان الواقعي للمشاهد. وانطلاقا من هذا تصبح كل موجودات ومفردات فضاء اللوحة خاضعة للزمن الإبداعي البصري الذي يعتمد على ميتافيزيقيا الخيال، فتنبثق الأفكار والصور في اللوحة مشعة ومثيرة ببراءتها وأصيلة ومبتكرة Original لتبهرنا وكأنها تنبثق من السديم النائي في البرزخ الكوني.
ومن الضروري ألا يفهم هذا بطريقة توحي بان دلالات الصورة والرمز والتأويل يكون هدفها تفسير الواقع أو خلق تطابق مع هدفية الخطاب السياسي. وإنما الخيال الديناميكي هنا هو الذي يشكل كينونة اللغة البصرية لدرجة ان هذه الرؤى البصرية في فضاء اللوحة تبدو أمام وعي وبصيرة المشاهد المتفاعل كأنها برق أبدي يتراءى في برزخ يخلق زمن متوتر بين الواقع والخيال بين الظل والضوء بين الامتلاء والخواء بين الحلم والواقع بين الإمكانية ولا إمكانية بين المرئي واللامرئي، انه برزخ زماني تعبره هذه الرؤى من الموات الى الخلق والانبعاث لدرجة يكون فيها الخيال والحلم وما ينتجه الفنان البصري من صور شعرية بصرية في فضاء اللوحة، كأنها نور متوهج يستحي أمامه نور الشمس لأنه نتاج مباشر للقلب والروح وهذا بالتأكيد سيخلق لفضاء اللوحة البصري وجودا في الزمان.
المواءمة وقصديات الفنان
إن تداعيات الفضاء البصري بما فيها ذاكرة الجسد وديناميكية ذاكرة الأشياء،هو توريط المشاهد بزمن الرؤيا البصرية الجديدة التي يخلقها الفنان البصري وتداعياته البصرية. وهدف ديناميكية الذاكرة الإبداعية البصرية المطلقة لمكونات فضاء اللوحة وتقنيتها، هو أولا خلق الاندهاش والانبهار الذي ينشأ في روح المشاهد وأمام بصره وبصيرته، ومن ثم توريطه للانغمار في زمن الرؤيا الإبداعية البصرية، وبهذا فقط يتخلى عن التاريخ الطويل من عادته في المشاهدة الواقعية الهامشية الخاطئة.
ولذلك فا ن التداعي البصري للأنساق الذي يمنحه خيال الفنان البصري هو زمن يؤثر بصريا على المشاهد ويؤدي به الى امتلاك لذة التفكير في جوهر زمني ـ بصري يشكل فضاء اللوحة أي يضعه في زمن الإبداع والحلم وميتافيزيقيا الخيال. ولا يمكن أن يتم هذا إلا إذا كانت الرؤى الفنية عالية القيمة من ناحية التأويل الفلسفي والجمالي والشعري.وهنا يستطيع الفنان صاحب الرؤيا البصرية ان يخّلص فضاء اللوحة من عدوى الاغتراب Alienation من خلال التعامل بوعي بصري لإغناء بصيرة المشاهد المتفاعل، فيصبح هو جزءا من هذا الفضاء بل يمتلكه بصريا. ويتم تجاوز الاغتراب بتكييف accommodation الفضاء البصري لمعاصرة المشاهد وجوهر مشكلته (وهو ما يطلق عليه هانس جادامر بالمواءمة appropriation /Aneigung و التي تدفعنا أهميتها الى تطبيقها في الفن) أي ان فضاء اللوحة البصري يتواءم مع المشاهد المتفاعل ويصبح ملكا له وهذا يعني (ان يجعل المرء ما كان غريبا عليه ملكا له، ودلالة هذا المصطلح في سياق تفسير اللوحة سوف تعني ان يجعل المفسر(المشاهد) الفضاء البصري منتميا الى وجوده، وعملية المواءمة هذه لا يمكن ان تتم إلا من خلال الفهم)
(سعيد توفيق. مصدر سابق) أي فهم ما تقوله لنا اللوحة في وجودها في الزمان الإبداعي الديناميكي.ويستطيع المشاهد المتفاعل من خلال تأويله وتفسيره الخاص لمكونات فضاء اللوحة التي يمكن عن طريق التكيف (المواءمة الجادامرية)ان يخلق من خلال تفاعليته ذلك الحوار الذي يهدف الى فهم العالم البصري للوحة ويجعله ملكا له.
ولذلك فان الفضاء والأنساق البصرية التي تشكل المضمون مرتبطة بآنية اللحظة الإبداعية (ألان)، وهذا يسهل عملية خلق الحوار بين اللوحة البصرية والمتفاعل. ومن خلال هذا يبنى الفهم الذي يتم فيه تجاوز اغتراب اللوحة (كعالم وكيان) عن بصيرة المتفاعل واغترابه هو المشاهد) ذاتيا عن فضاء اللوحة، بحيث يصبح ملكه وجزءا من زمنه المعاصر، وهذا يجعل من الفضاء البصري كينونة إبداعية مستقلة عن الفنان. وسيبنى تكامله الإبداعي اعتمادا على بصيرة المشاهد المتفاعل وقدرته على فهم التأويل البصري، بعيدا عن قصديات الفنان. ان الفضاء البصري للوحة يعبر عن كينونته الإبداعية في الحاضر الذي هو زمن تداعي الرؤيا الفنية، فيمتلك استقلاليته (الآن وهنا) ويؤثر على بصيرة المشاهد المتفاعل بعيدا عن سلطة الفنان بعد ان أنجز رؤيته. لان مكونات الفضاء البصري للوحة ما ان يبدعها الفنان وينتهي من انجازها حتى تنتهي علاقته بها أي في (اللحظة التي يصبح فيها الفضاء منجزا يكون المعنى والمضمون قد انفصل عن قصديات الفنان، ويلقي كل منهما قدره بمنأى عن الآخر) (ببعض التصرف لما جاء به سعيد توفيق في ـ هرمنوطيقيا النص الأدبي)
ان قصديات الفنان وما رغب في ان يطرحه في لوحته البصرية تختلف بشكل جذري عن تأويل ذات اللوحة من قبل المشاهد المتفاعل. ومن هذا المنطلق يمكننا ان نتوائم مع مفهوم هانس جادامر حول قصدية الفنان في أن معنى العمل (بالنسبة الى المفسر) بعد ان يكتمل لا يتطابق مع ما قصده الفنان، لأن قصدياته السايكولوجية تخصه وحده، أما قصديات فضاء اللوحة فيجب النظر إليها باعتبارها جزءا من خبرة المشاهد المتفاعل وتصبح جزءا من تأويله للوحة (انظر سعيد توفيق ـ مصدر سابق). لذلك فان غنى تأويل الفضاء البصري في اللوحة يمتلك إمكانية تهيئة ظروف استيقاظ الفنان البصري والمشاهد المتفاعل عن طريق التفاعلية والبعد الرابع، معا عند عتبة الوجود البصري الإبداعي الذي يوحي بمستقبل الفن وديمومته.
ولهذا فان هذا الفضاء هو ليس وسيط لنقل الخطاب المنجز للفنان، وإنما يشكل حوارا بصريا مباشرا بين (المشاهد واللوحة) مادام المشاهد قد أصبح مستعدا للانغمار في ملكوت اللغة البصرية الجديدة للرؤيا الإبداعية، وعلى أساس هذه اللغة يبنى التأويل باعتباره حوارا بصريا من خلاله يمكن للمتفاعل ان يتمثل الأسرار الإبداعية للفضاء البصري للوحة.وبهذا فان ما كان مخفيا ومحجوبا بفعل الزمن الواقعي (في حالة اللوحة التقليدية)، قد تحول الى لغة بصرية مرتبطة بالزمن البصري الإبداعي المبني على ميتافيزيقيا الخيال للفنان البصري. فالفضاء البصري يفقد معناه وشعريته عندما يفتقر للتأويل البصري المتنوع، ومثل هذا التأويل الإبداعي هو الذي يخلق ايضا احد أسس البعد الرابع لزمن وفضاء الرؤيا الإبداعية في اللوحة والذي يستحوذ على تفكيرنا.
والآن وإزاء كل مانجو في مجال الفنون التشكيلية والفنون البصرية عموما وخاصة انجازات الفن الضوئي أو الفن الحركي (K inetic Art)و بالرغم من عظمته وفي لحظة التطور التكنولوجي الهائل والعولمة والحداثة ومابعد الحداثة، يعتبر كل هذا الآن مقدمة لمستقبل الفن البصري الذي ستتحكم فيه قدرة الفنان على اكتشاف الوسائل التي ستغني لغته البصرية ـ الإبداعية الجديدة من خلال استغلال هذه الثورة التقنية وكذلك امكانيانها في تطوير خياله وبصريات تفكيره، لتصبح خدمة للفن البصري الذي يجوهر قلق الإنسان الأبدي والذي لايمكن ان يُنجز ويكون مؤثرا و أبديا إلا اذا امتزجت فيه لغة الحواس ولغة العقل وبهذا فقط يمكن للفن ان يتجاوز الفوضى الكونية المنظمة في حياتنا.
مخرج وباحث مسرحي
كوبنهاكن في شمال الكوكب
fsoudani@maktoob.com
عن (إيلاف)- 2005 السبت 15 أكتوبر