صدر عن "دار ميريت" في مصر كتاب "نظرية التشكيل" لبول كلي، وقد قام بترجمته وقدّم له الفنان عادل السيوي بأربعين صفحة من البحث الموثق والمعرفة الفنية المتألقة.
في عالم السرعة، المركّب والنفعي، المعقد والمشوّه، الذي يحيط بنا، يصير الاهتمام بالنواحي النظرية الهادفة الى دراسة، أو استعادة ما كتب، عن عالم التشكيل، أمرا مستغربا وخارجا عن المألوف، وسباحة بعكس تيار الحياة اليومية الذي يجرفنا... وينهكنا.
فقراءة كتاب "نظرية التشكيل" لبول كلي، الذي ترجمه وقدّم له عادل السيوي يشبه الدخول الى قاعة فسيحة تتشعب منها منافذ وممرات لا تنتهي. هذا الدخول يستوجب إغلاق الباب من ورائنا، فهناك ضرورة تفرض نفسها: ان نعزل أنفسنا عن ضجة العالم الخارجي المشغول بهمومه، كي ننصرف الى عالم آخر من الفوضى والتركيب والتنظيم والهندسة لأهمية المقدمة والتشكيل والضجيج أيضا.
أهمية المقدمة
لا بد من الإشارة الى أهمية المقدمة التي وضعها عادل السيوي لكتاب بول كلي، ولا بد من الإشارة كذلك الى الشعور نفسه الذي راود السيوي، والذي سيراودنا نحن أيضا لدى قراءة الكتاب، أو بالأحرى "دراسته"، وهو "إعادة النظر في ما نفهمه بالفعل". فالمقدم المترجم يقول ان المحاولة نفسها قد أعطته أكثر مما قدّمه للآخرين، لكن هذا الكم النظري ما كان ليصل الى متناولنا - باللغة العربية - لولا المحاولة الذاتية التي جعلت نص بول كلي، على صعوبته النسبية، عبارة عن رحلة خاصة، واضحة وغنية، في عالم التشكيل، وخطوة نحو "تعامل نقدي مع الخلفية المعرفية". فنحن، على ما يلاحظ السيوي، نعاني هزالاً عاما في بنيتنا المعرفية وضعفا في طاقة التحليل ومناهج البحث. قد يكون هذا الحكم نسبيا بلا شك، لكنه حكم يحمل قدرا كافيا من الصحة، رغم تعارضه مع كبريائنا. فالتواضع واجب في حال المثول أمام المنجزات التي حققها تاريخ الفن في أقطار الأرض كافة، والتي ستبقى في اختلافها وتعددها وتنوعها، عاصية على الإحاطة والتفسير الشموليين.
هذا التاريخ في حاجة الى مراجعة دائمة. مراجعة نضع خلالها النوستالجيا جانباً، وننصرف الى دراسة القدرات النظرية الاستثنائية التي انعكست خلقاً ما زال يزيّن مخيلتنا بأعمال لا تنسى. من هنا تصبح عودة عادل السيوي، في مقدمته، الى بعض المفاصل التي يعتبرها أساسية في تكوين المرتكزات النظرية عودة منطقية. فتلك المرتكزات أدت، في مفاعيلها العملية، الى ما نحن فيه من اختلاف في الأذواق والرؤى، وفي التفاعل مع ما نراه من انتاج فني بلغ درجة من التنوع يصعب معها إطلاق الأحكام السهلة. فالكلاسيكية تمثل، بحسب السيوي، واحدة من المحطات الرئيسية في مسارات الفن العربي، وهذا بديهي اذ ان "إبداعها قد حفر موقعه بعمق في قلب الذاكرة الإنسانية كلها". وهي عبارة عن "هندسة صارمة لكنها تخفي عالماً عضوياً مراوغاً وطبقات مستترة خلفها، ولذا لن تمل الإنسانية من تأملها وإعادة اكتشاف بعض من ذلك المستتر في حياتها غير المعلنة". هذا الإرث الكبير الذي وضع اليونانيون ملامحه الاولى، برزت تجلياته المدهشة في نتاج عصر النهضة على أيدي مجموعة من المعلمين الكبار.
كما ان انتقال عادل السيوي مباشرة من الكلاسيكية الى الحداثة كمحطة رئيسية ثانية له أيضا ما يبرره. فهو يقول ان الفراغ الذي تركته الكلاسيكية خلفها في المراحل التي تلتها، والتي تميزت بظروف اجتماعية وسياسية جديدة، احدث ثغرة لم تفلح محاولات الباروك والروكوكو والكلاسيكية المحدثة والرومنسية في تغطيتها، الى ان اتى "انفجار الحداثة الكبير" ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ولا بد ان لحظة انعطاف مصيرية ومفصلية قد جرت حينذاك، وكانت تبحث عن جهود نظرية للدفاع عنها في وجه مدعي الغيرة على "الفن الحقيقي". وتندرج مساهمات الناقد الأميركي غرينبرغ ضمن هذا الإطار، وهو الذي نصّب نفسه محاميا للدفاع عن تيارات الحداثة. لكن عادل السيوي يشير، عن حق، الى ان كتابات بول كلي تعتبر من أفضل المساهمات المعبّرة عن روح تلك الفترة، فقد "قدم تصورا لعلاقة جديدة بين العالم والنص البصري وخاصة لأن مغامرات الحداثة لم تتجسد لديه كتنظير أو كرصد تاريخي أو كمقولات كبرى، وإنما تحولت دروسا عملية تقدم لطلبة الفن وتلتصق بتجربة إبداعية ذاتية في الوقت ذاته". وفي فترة علا فيها ضجيج تيارات الحداثة المتعددة التي ضاقت بها العقود الاولى من القرن العشرين، لم يتوقف بول كلي عن طرح "الاسئلة المفتوحة" شأنه شأن الكثيرين آنذاك. وقد حفلت تلك الفترة بكتابات ذات أهمية خطتها أيدي كاندينسكي وماليفتش وموندريان وفيلونوف وبراك وغيرهم، تضمنت إجابات عن بعض التساؤلات التي طرحتها الحداثة. لكن هذه الاسئلة المتنوعة والمتشعبة، لا تنتهي، ويورد السيوي بعضا منها ويتمحور مضمونها حول علاقة الفن الحديث بالجمال وبمنطق التجاوز والفردية والتجريب والشكل. تساؤلات ذات أهمية قصوى سيكون من شأنها قيادة الفن الى تجليات راهنة، الى "لحظة راهنة" يصنّفها السيوي كمحطة ثالثة من المحطات الرئيسية في تاريخ الفن، وهي مرحلة شائكة ومعقدة يتم خلالها "التخلي طواعية عن سيادة منطق واحد، وعن الروابط المباشرة ما بين الأسباب والنتائج"، اتفق على تسميتها مرحلة "ما بعد الحداثة" وهي وبخلاف المراحل السابقة التي لم تعايشها ولم نشارك فيها، تقع في صلب حياتنا الفكرية، وتحتاج الى مشاركتنا الذاتية في تتبع إفرازاتها في شتى الميادين، ودراستها كي لا نتحول "شاهدي زور" على ما يدور حولنا (كان "الملحق" قد افرد عددا خاصا في نهاية عام ،2003 تحت عنوان "حداثة جديدة أم انقلاب على الحداثة"، عولجت فيه موضوعات أدبية وفنية ومعمارية طاولت المسائل المطروحة بإلحاح في وقتنا الراهن).
لذة الممنوع
لا تستقيم عملية الدخول الى عالم بول كلي التشكيلي من دون ان نعرّج، كما فعل عادل السيوي، على سيرته الذاتية، والباوهاوس وبعض المسائل الأخرى.
فذاك الفتى الذي ربما قدِّر له ان يصبح موسيقيا، بعدما أتقن العزف على آلة الكمان وهو في الحادية عشرة، ما جعله عضوا فخريا في إحدى فرق مدينة برن السيمفونية، لم يجارِ رغبة والديه في متابعة دراسة الموسيقى، بل اختار الرسم، من قبيل المشاكسة. "تألمت كشهيد. لم أجد لذة إلا في ما كان ممنوعا: الرسم والأدب. بعدما اجتزت امتحاناتي بشكل سيء، ذهبت الى ميونيخ وبدأت ارسم". لكن قرار بول كلي لم يكن مجرد نزعة مشاكسة، تحررية، بل كان يستند الى اقتناع ذاتي يفترض ان بلوغ القمة في الموسيقى كان قد حدث فعلا وانتهى أمره، وكل إضافة جديدة ستبدو، بحسب رأيه، هزيلة أمام المنجزات الماضية. الرسم إذا، دراسة، فأعمال حفر gravures فمعارض في مدن ألمانية عدة ومشاركة في عروض جماعة الفارس الأزرق في ميونيخ، ثم انتقال الى فايمار بدعوة من والتر غروبيوس للتدريس في الباوهاوس.
يعتبر غروبيوس، الأب الروحي للباوهاوس، ان ولادة الفن تجري بعيدا عن كل الأساليب، فهو لا يدرّس، لكن ما يمكن تدريسه في المقابل، هو التطبيق العملي للفن. فالمهندسون المعماريون والرسامون والنحاتون ليسوا، في المقام الاول، سوى حرفيين. والفنان هو تسام للحرفي، ولا بد لكل فنان من قواعد المهنة. ويقول أيضا: "علينا ان نؤسس اتحادا جديدا للحرفيين بعيدا عن الاعتداد بالنفس الذي أدى الى إقامة جدار كبرياء بين الحرفيين والفنانين من طريق الفصل بين الطبقات". ولا بد من القول ان منطلقات غروبيوس البنائية المنحى، ذات النسيج الاشتراكي والتوجه الإنساني، إضافة الى أفكاره الغامضة عن الاتزان والوحدة الكونية، اصطدمت في بعض الأحيان، مع أفكار العاملين الآخرين في معهد الباوهاوس. وربما كان فهمه لمسألة "النوعية" qualitہ احد مواضع الخلاف بينه وبين بول كلي الذي أصر على اعتبار النوعية بحثا مستمرا عن قيمة مطلقة ومستقلة. لكنه، أي كلي، اتبع المسار نفسه لممثلي حركة الباوهاوس الذين جعلوا من الفن، على تباين آرائهم وميولهم الشخصية، "تظاهرة روحانية لا يتعارض فيها الحدس والشعر مع الأهداف الفكرية والفلسفية لهؤلاء الفنانين ومع رغبتهم في التماهي مع عالم بدائي"، على قول غاسر Gasser في حديثه عن بول كلي.
امضي بول كلي في الباوهاوس عقدا من الزمن. وخلال هذا العقد قادته تجربته الفنية الى وضع القواعد النظرية للتعليم الفني، وهي التي تشكل جزءاً أساسيا من مبادئ الفن المعاصر كله. ذلك ان هذا العمل النظري يشكل المجموعة الأكثر اكتمالا لمبادئ الخلق الفني، وربما كان وحيدا، ضمن الفنانين المعاصرين، في تطرقه الى تلك المبادئ بمثل هذين الشمول والدقة.
كيف نقرأ هذا النص؟
لا تنتهي مقدمة عادل السيوي عند سيرة حياة بول كلي والكلام على الباوهاوس، بل يعود الى عناصر أخرى، الى شخصيات فنية أخرى، تركت تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على تكوين أفكار كلي: ليوناردو، كاندينسكي، دوشان، زيارة تونس ومصر. وينتقل من بعدها الى الفنان ذاته وفهمه للخلق، الى ان يختم مقدمته بسؤال: كيف نقرأ هذا النص؟
قد تكون قراءة النص سهلة وصعبة في آن واحد. فسهولتها تنبع من التسلسل المنطقي - العلمي للموضوعات، ومن الرسوم المرافقة لمختلف الأقسام والمقاطع، وكأنها رسوم بيانية تجاور مسائل رياضية أو فيزيائية. هذا من الناحية "التقنية"، فكما يذكر السيوي: "لا يمكن فصل الكتابات عن الرسوم المصاحبة لها". أما الصعوبة فتكمن في تلقي الكم النظري، وفي توقع التقاطعات المفاجئة والوقفات الحائرة "لأننا ندرك أنها كالعمل الفني تماما تملك تماسكا داخليا متينا يسمح بالخروج والعودة، ويسمح بالانعطاف والدوران".
"لا بد ان نبدأ منطقيا من الفوضى، أي من المادة الاولى للكون، فهي ابسط الأشياء، وهي بداية كل شيء". على هذا النحو يبدأ كتاب بول كلي وكأنها بداية من العدم، أو من "النقطة الاولى". ومن الفوضى يصير الانتقال الى الحركة والى صراع المتناقضات وتولد الشكل والبعد المكاني. وينصرف كلي في فصل ثان الى دراسة الشكل وتحليل العمل الفني وفاعلية الخط والمنظور ثم البناء والتكوين والإيقاع. ويحيط الفصل الثالث بمسائل التكوين والحركة وتحليل عناصرها، وبالبعد الزمني في التشكيل، ويفرد الفصل الرابع والأخير للحديث عن النظام اللوني والثنائيات اللونية وحركة اللون.
الكتاب رحلة، على قول السيوي. انه أشبه بمغامرة مفتوحة يجري خلالها البحث عن الشكل، وهي أيضا رحلة الانتقال من العدم الى الوجود، من اللاشكل الى الشكل، أي التكوين، وهو "يقدم مساهمة مفهومية داخل إطار التصوير، وهي رفضه التعامل مع العمل الفني كمنتج نهائي، ومع الإبداع كنهاية حركة". ويبحث بول كلي، المنحاز للنقص، عن هدف غائب، مراوغ ومنفلت أبدا، و"هذا السعي وراء حركة الغياب المستمر هو الذي مكّن بول كلي من الانطلاق خارج حدود المعتاد وجعله يحتل موقعا منفصلا كعبقرية متقدمة عن عصرها، وما زالت أعماله محتفظة بكل عطرها الغامض حتى الآن".
كتب كلي مرة: "هنا، على هذه الأرض، يصعب العثور عليّ، فأنا أعيش بين الأموات وبين الذين لم يولدوا بعد، في مكان قريب من الخلق وبعيد عنه". هذه العبارة ستُحفر لاحقا على شاهد قبره. وهي، في ذاتها، شاهدة لحيرته الأزلية من معنى الوجود وماهيته.
لكن كتابه هو دعوة للدخول في مغامرة التشكيل، مغامرة اكتشاف الكون واكتشاف الذات. وليس في الأمر سوى "محاولة" علينا ان نقوم بها، بعدما سبقنا إليها عادل السيوي وشاء، بفضل الجهد الذي بذله في ترجمة الكتاب وتقديمه، ان يشركنا فيها إيمانا منه بضرورة المعرفة الشاملة، وبضرورة انتشارها أيضا.
النهار الثقافي
الأحد 25 تموز 2004