تصادف هذا العام ذكرى ميلاد سلفادور دالي المئة وقد أقيمت لهذه المناسبة معارض إستعادية في مدن أوروبية عدة: برشلونة، مدريد، سان بطرسبورغ وروتردام، إضافة إلى نشاطات أخرى تتوزع بين محاضرات وعروض سينمائية ونقاشات حول ظاهرة دالي، وتستمر حتى نهاية 2004.
“حين استيقظ كل صباح، اختبر لذة لا تُضاهى: إنني سلفادور دالي، وأسأل نفسي ما الذي سيفعله اليوم هذا الإنسان المعجزة: سلفادور دالي”
سلفادور دالي
“مذكرات عبقري”
Le Dandy يجب على المتأنق"
أن يعيش وينام قبالة مرآته" لقد كان جديراً بدالي أن يستعير عبارة بودلير هذه كي يجعلها شعاراً له طوال حياته. لكن المرآة وحدها كانت شيئاً تافهاً، إذ كان في حاجة إلى مرايا أخرى: لوحاته، المعجبون، الصحف والمجلات، التلفزيون، ولا ندري إذا كانت هذه الأشياء كافية له.
لذا سنراه، يوم عيد الميلاد، يتمختر في شوارع نيويورك حاملاً جرساً صغيراً، يهزّه كي يطلق رنيناً كلما شعر أن الناس لا يعيرونه انتباهاً. " لم أكن أطيق فكرة أن لا يتعرّف عليّ الناس". هذا الإيمان الراسخ بشخصه، سيرافقه حتى لحظات حياته الأخيرة، حين ستتجسد آخر لحظات اللذة، وهو مستلق على فراش الموت في عيادة كيرون في برشلونة، بمتابعة النشرات التي تبثها قناة كاتالونيا التلفزيونية الثالثة ليستمع إلى ما يقال عن وضعه الصحي المتحسن أو المتردي الذي سيفضي به، ربما، إلى العالم الآخر.
جنون العظمة وهواجس "مطبخية"
في السادسة من عمره أراد دالي أن يكون "طباخة"، مع تأكيد الناحية الأنثوية للتعبير، وفي سن السابعة: نابوليون. "منذ ذلك الوقت لم يتوقف طموحي عن الازدياد، كما هي الحال بالنسبة إلى جنون العظمة المتجذر في نفسي. لا أريد أن أكون إلا سلفادور دالي... ولكن كلما اقتربتُ من هذا الهدف، كان سلفادور دالي يبتعد عني".
تبدأ حكاية جنون العظمة في كاتالونيا. وربما ساعدتنا جذوره الكاتالانية في تفسير بعض مظاهر نتاجه في مراحله المبكرة والمتأخرة. يُقال أن الكاتالاني لا يعير انتباهاً إلا لما يستطيع أكله، سماعه، لمسه، تنشقه أو رؤيته. انطلاقاً من هذا الطباع المادية و"المطبخية"، لا يمثل دالي لغزاً شديد التعقيد: "أنا أعرف ما آكله، ولا أدري ما أفعله". وفي حين يشبّه الفيلسوف فرنسيس بيجول، احد مواطني دالي، انتشار الكنيسة الكاثوليكية، بخنزير يُعلف باستمرار قبل قتله والتهامه، يصرّح دالي: "المسيح قالب من الجبنة، لا بل جبال كاملة من الجبنة". هذا "الهذيان الغذائي" سيظهر من خلال نتاجه حين نشاهد الساعات "الرخوة" المولودة من حلم جبنة الـCamembert السائلة، أو لدى معاينة بعض الأعمال كـ”خبز مع بيضتين“ أو “بيضة في الصحن بلا صحن”، أو رسوم غالا “مع ضلعي خروف“ وغيرها، وصولاً إلى الحرب الأسبانية، حين يجد دالي الجرأة ليعنونها: ”بناء رخو مع فاصوليا مغلية – شعور مسبق بالحرب الأهلية الأسبانية“.
بعيداً عن الناحية ”المطبخية“، ومن اجل الإحاطة بالظرف التاريخي الذي ظهرت فيه ”عبقرية“ دالي، لا بد أن نتذكر إنه لمئة عام مضت، أي عام 1904 حين ولد دالي، كانت كاتالونيا على أبواب حركة تجديد وتبادل اقتصادي واسع مع باقي أجزاء العالم. وكان الكاتالانيون، الفخورون والأقوياء، يتوقون إلى تحويل عاصمتهم برشلونة مدينة تشبه أثينا القرن العشرين.
في تلك الفترة رسم بيكاسو، ابن الـ23 عاماً، لوحة ”الكواءة“
فيما كان غاودي يشيّد آخر الكاتدرائيات الحية: ساغرادا فاميليا. سوريالي قبل السورياليين؟
جذبت معارض دالي الأولى في برشلونة ومدريد اهتمام الجمهور والنقاد، لكنها لم تكن، بالنسبة إليه، سوى الوجبة الأولى التي لا تُشبع معدة جائعة وطموحة. كان يعلم إن باريس تمثل محطة لا بد لكل فنان، حينذاك، أن يطأ أرصفتها. في أول زيارة للمدينة، عام 1927، قصد بيكاسو ليقول له، مع بعض الاضطراب الممزوج بالاحترام: ”لقد أتيت لزيارتك قبل ذهابي إلى اللوفر“، وسيجيبه بيكاسو: ”لست مخطئاً في خطوتك هذه“. وقد جاءت تلك الزيارة في حين كانت مرحلة اللمسات الانطباعية، والتنقيطية، وأفكار المستقبلية والتكعيبية وما بعدها تعيش أيامها الأخيرة، تاركة الدرب مفتوحاً أمام آفاق جديدة. كان البقاء في باريس ضرورة لم يستحبها دالي، واستعاض عن ذلك بزيارات متقطعة. وفي تلك الفترة سيكتب، مع صديقه لوي بونويل سيناريو فيلم ”الكلب الأندلسي“، الذي اختير له هذا العنوان بالذات ”من اجل إرباك الجمهور“. وحين تم عرض الفيلم في وقت لاحق، سيكتب عنه أوجينيو مونيتس: ”محطة في تاريخ السينما، محطة مدموغة بالدم كما كان يريد نيتشه، وهو ما فعلته أسبانيا على الدوام“.
وفي زيارته الثانية لباريس يقول دالي:”وصلت إلى باريس وأنا أتذكر عنوان رواية قرأتها بالأسبانية: ”إما قيصر وإما لا شيء“، استقللت سيارة تاكسي وسألتُ السائق: هل تعرف مواخير جيدة؟ ... بعد زيارة المواخير تناولت الغداء مع خوان ميرو الذي قال لي انه سيقدمني الى مارغريت. ظننت انه يقصد الرسام البلجيكي رينه ماغريت، الذي كنت اعتبره احد الفنانين الأكثر التباساً في عصرنا (لن نجد صعوبة في اكتشاف ما يخفيه هذا الحكم من تجريح ضمني يغذيه شعور جنون العظمة).
جنون العظمة :
لم يمكث دالي في العاصمة الفرنسية طويلاً. كان ثمة أمر ما لا يستطيع تفسيره يدعوه للعودة الى كاتالونيا. لم يكن قد التقى فعلياً جماعة السورياليين، حين شرع في تلك الفترة يرسم “صور خداع بصري” Trompe l’œil، معتمداً في ذلك على مهارة شيطانية تلمّ بمختلف أنواع التقنيات ليصبح، قبل ربع قرن من ظهورها، احد رواد الواقعية المفرطة الأميركية. لكن هذه الدقة الفوتوغرافية التي ميزت أعماله كان يلجأ إليها من اجل هدف آخر: نقل صور الحلم وتجسيدها. وهذه الأعمال كانت، عملياً، مقدمة للوحاته السوريالية. وبعد ذلك بعقود عدة، عام 1973، سيقول محدِّداً أسلوبه التشكيلي معتبراً إياه ”صورة فوتوغرافية ملونة باليد لتفاصيل شديدة الدقة من عالم تشكيلي يحكمه اللامنطق الواقعي“.
وفي نظرة الى أعماله العائدة الى نهاية عشرينات القرن المنصرم وطوال ثلاثيناته، يتفق الباحثون على أن ذاك النتاج يضع دالي في مقدمة الفنانين السورياليين. فهو، بحسب نظر البعض، سوريالي جملةً وتفصيلاً، وهو حكم ينطبق أيضاً على كلود مونيه في اعتباره أكثر الرسامين الانطباعيين انطباعية.
حب غالا ولوحة الـ”ليبيدو“
”أحب غالا أكثر من أمي ومن أبي، وأكثر من بيكاسو، وحتى أكثر من المال“
ما من شك في أن الزيارة التي قام بها لدالي مجموعة من السورياليين تضم ماغريت وزوجته ولوي بونويل، وخصوصاً بول ايلوار وزوجته غالا، كانت مبعث سرور كبير بالنسبة إليه. كما لم يكن في حاجة الى تمحيص شديد كي يكتشف أن غالا كانت تجسيداً حياً لامرأة أحلامه الخرافية. وقد جعله هذا الأمر يقف أمامها عاجزاً عن الكلام، مطلقاً ضحكات هستيرية. باح لها بحبه بعد مماطلة فرضتها طبيعة الموقف، ولم تكن المسألة سهلة. فإيلينا ديفيلينا دياكانوف، ابنة الموظف الموسكوبي (نسبة الى موسكو)، والتي عرفها الجميع باسم غالا، كانت تتمتع بشخصية مميزة تجمع بين الإغواء المثير والثقة بالنفس. وفي حين رأى في ذاك ”اللحم“ القريب منه كمالاً طالما بحث عنه، توقف لسانه في الأوقات الأولى عن الحركة، ليدرك لاحقاً أن غالا ليست حبيبة فحسب، بل موضوع لعشق عارم من شأنه أن يعالجه من مرض سيكولوجي مزمن.
وهكذا ستصبح غالا، بالنسبة الى دالي، ”غراديفا“، بطلة رواية جنسن التي تنجح في عملية الشفاء السيكولوجي للبطل. وهي الرواية نفسها التي اتخذها سيغموند فرويد مثالاً ليجد فيها موضوعاً لأساليبه في التحليل النفسي. وبما أن أفكار فرويد كانت احد المفاصل التي ارتكز عليها السورياليون في علاقتهم بنظرية اللاوعي، فسيكون دالي عندها أميناً، بشكل باطني أو ظاهري، حقيقي أو مفتعل، لأحد روافد الفكر السوريالي.
في تلك السنة الحاسمة في حياة دالي، أي 1929، سيرسم لوحة ”ملاءمة الرغبات“، حيث ستتمثل تلك الرغبات على شكل رؤوس لأسود رهيبة، وكأنها رغبات متفجرة تصبح، من خلال حب غالا، مقبولة في إطارها العلاجي: ”اختفت عوارض الهستيريا في نفسي الواحد تلو الآخر، وصرت قادراً على كبح جماح ضحكتي“. ومن ثم سينصرف الى إحدى اشهر لوحاته: ”إنها تمثل رأساً كبيراً شمعياً أضاع لون الحياة، ذا خدين ورديين ورموش طويلة. الأنف الضخم يرتكز على الأرض، ويحتل جندب موقع الفم، وينتهي الرأس على نحو زخرفي من طراز 1900“، وسيعتبر دالي لوحة ”المستمني الكبير“ Le Grand Masturbateur صورة شخصية ذاتية ”مائعة“، استناداً الى نظريته حول ”المائع“ و”القاسي“. ثم سيرسم ”جمجمة جوية تغري البيانو“ و”القيثارة غير المرئية الدقيقة والمتوسطة“، وإذا أضفنا الى هذه الأعمال لوحة ”لغز الرغبة: أمي، أمي، أمي“، سيتوضح عندها جزء أساسي من أسلوب تشكيلي تختلط فيه الإيحاءات بالرغبات والرموز، التي تبني جميعها سفينة دالي الهائمة في بحر الـ”ليبيدو“، ذي الأمواج العاتية والمتلاطمة.
في أشكال التعبير السوريالية
يقول اندره بروتون إن أسلوب دالي الهواجسي – النقدي ”قدّم للسوريالية أدوات من المقام الأول“، متوافقاً مع قول اندره تيريون: ”إن ما حمله دالي الى السوريالية من الأمور الأساسية في حياة المجموعة وفي تطور أيديولوجيتها“. لكن هذه الشهادات لا يمكنها أن تخفي إحدى الإشكاليات الأساسية التي أحاطت بأسلوب السوريالية التعبيري في مجال الفن التشكيلي، والتي تراوح حدتها بين فرد وآخر من ممثلي هذا الاتجاه، ومن بينهم دالي.
فالسوريالية، كما يعرّفها بروتون في البيان الأول، عام 1924، هي: ”آلية نفسانية صافية يمكننا أن نعبّر بواسطتها، إما كتابة وإما شفوياً، وإما بأي طريقة أخرى، عن سير عمل الفكر الحقيقي. وهي ما يمليه الفكر في غياب أي مراقبة يمارسها العقل وخارج أي اهتمام جمالي أو أخلاقي“. صحيح أن السوريالية لم تكترث، كما يتبين من هذا التحديد، بما يمكن إنتاجه من أشكال فنية، لكن الفنانين المنتمين الى التيار السوريالي تركوا أعمالاً فنية ذات طبيعة خاصة، وقد يكون إخضاع قيم هذه الأعمال التشكيلية لأهداف شاعرية هو ما يوحّد بينهم. إذ يرى بروتون أن التصوير والنحت هما عبارة عن تحولات تشكيلية للشعر، شرط أن يتحرر الفن من استعادة الأشكال كما هي في العالم الخارجي، فهدف الفن ليس إرضاء العين بل ”تقديم خطوة جديدة في معرفتنا المجردة“.
لكن المفارقة تكمن في لجوء جماعة السورياليين، الرافضة لكل فن ينطلق من مفاهيم ذهنية أو منطقية، الى مناهج علمية وعقلانية من اجل إدراك اللاعقلاني وفهم القوى اللاواعية.وهذا يقود، بحسب اعتقاد بروتون, الى اكتشاف طبيعتها منهجياً والتوصل الى استنتاجات ملائمة. بيد أن التعبير التشكيلي عن هذه المفاهيم، عبر الإيمان بسلطة الفكر المطلقة، يتطلب من الفنان اعتماد طريقة آلية تلقائية يمليها اللاوعي والصور الحلمية. وهذه التلقائية تفترض أسلوباً عفوياً ولاإراديا وشكلاً من أشكال التعبير التلقائي المباشر.
لذا، لجأ اندره ماسون، في بعض أعماله، الى إتباع طريقة في رسم الخط تقوم على استعمال أنبوب اللون بشكل مباشر من دون اللجوء الى الريشة. واستفاد ماكس ارنست من عنصر المصادفة لدى تنفيذه رسوماً باستعمال طريقة الحكّ frottage على أجسام مخدشة كي ينتج أعمالاً عفوية.
أما رينه مارغريت فقد اتبع أسلوباً يجمع بين مختلف وسائل الإيهام البصري، بغية التوصل الى خلق مناخ سوريالي، من دون اللجوء الى غرابة صور ارنست وأشكال تانغي العضوية، وهذيان سلفادور دالي، وذلك عبر تقابل واضح بين المساحات المرسومة والفراغات، وتباين العناصر وتعاكسها وشفافية ألوانها. وقد حذف ماغريت من تلك الوسائل التقنية كل ما من شأنه أن يخفف من صفاء المشهد الممثل، الشاعري، من دون إضافة استنباطات جديدة، في محاولة للاقتراب من مفهوم ”التصوير الشعري“، وبلوغ أعماق الفكر من خلال محاكاته الواقع وإعادة بنائه وفق ”التشابه الأكثر كشفاً، الأكثر حقيقة“. فالتشابه الذي يريد بلوغه “تشابه ما هو مرئي، وما هو مادة فكر، لأنه لا يكتفي بأن يصوّر ما يرى، فهو يصوّر ما يفكر فيه”، كما يقول كولينه.
لم تكن سوريالية ماغريت نوعاً من التعبير اللاشعوري أو التعبير عن عالم الأحلام، بل كانت تصعيداً شعورياً للأشياء في ذاتها. وبفضل خياله المرهف العميق، أوجد منبعاً فنياً لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهاية لها. من هنا يمكننا القول إن سوريالية ماغريت كانت فكرية وشاعرية بامتياز.
صحيح أن دالي يجسد ظاهرة جديدة في السوريالية. لكن اعتماد ما سمّاه ”النشاط الهذياني – النقدي“في اعتباره نهجاً تلقائياً للمعرفة اللاعقلانية، يقودنا الى تمجيد الهذيانية. وقد دخل دالي حالة الهذيان، رغم كونها حالة اضطراب عقلي تتجلى في إيهامات وهلوسة مزمنة، بقصد تحويلها حالاً غير هذيانية، استناداً الى اعتقاده بـ”بديهية الذهن ونفاذه الخارق“. لكنه، وبعكس زملائه السورياليين الذين ركزوا على ظواهر شائعة في علم النفس، عالج دالي حالات مرضية أكثر شذوذاً كوساوس الخصاء وهواجس التفسخ والعجز الجنسي، مستخدماً وسائل التشويه ومظاهر الانحطاط، كانعكاس لاضطرابات مرضية تعكس بدورها الحال الثقافية والاجتماعية في تلك الفترة، محاولاً نقل نتائج التحليل النفسي لدى فرويد الى مجمل الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي لعصره.
بيد أن ظاهرة السوريالية لا تتمثل سوى في المرحلة الأولى من نتاج دالي. فقد عاد، منذ أواخر الثلاثينات الى أسلوب اقرب الى الكلاسيكية، ولم يعد يهمّ السوريالية، كما يصرّح بروتون، لان سلوكه ذا الطابع المسرحي، الاستفزازي، الذي طالما تميز به، دفعه الى أن يسخّر نفسه لخدمة الرجعية في أسبانيا، والى استثمار صريح لنوع من التدين العاطفي. لكن هذا التحول، سواء في نتاج الفنان أو في سلوكه، لا ينفي قيمة أعماله الأولى التي أغنت الحركة السوريالية وجعلت دالي ظاهرة مميزة في تاريخ هذه الحركة ليرتبط اسمه بهذا التيار الفني على نحو لا جدل فيه.
وحين سئل مرةً في حوار تلفزيوني ما السوريالية، لم يتأخر في القول: السوريالية هي أنا.