لا يمكن اختزال الفكر، في ما يصدر عن مُفَكِّرينَ كرَّسُوا وقتهم، وجُهْدَهم للبحث، والكتابة في مجال الأفكار، أو الخوض في القضايا والمُشكلات المتعلِّقَة بماضي، هذه الأفكار، أو براهنها.
فما يمكن أن يذهبَ إليه الشِّعر، كثيراً ما يكون، حين يصدر النص الشِّعري عن شاعرٍ له أفُق و رؤيا، ويكتب في سياق مشروع شعري عميق وبعيد، أكثر تعبيراً عن هذه المشكلات، وإثارةً لها، لكن بنوع من الوعي الذي فيه تَنْعَقِد علاقة زواج بين اللغة، باعتبارها أُفُقاً جمالياً مفتوحاً على كل احتمالات التعبيرات الفنية المُمْكِنَة، وبين ما يمكن أن يكون ‘فكرة’ النص، أو ما يَحْتَمِلُه من معانٍ، أو مضامين بالتعبير العام.
وجَدَ كِبَار الفلاسفة، من قديم الفكر الإنساني وحديثِه، في الشِّعر ‘طريقاً’ لاختبار أسئلتهم، وما يخوضون فيه من أفكار، كانت، قبل الذَّهاب إلى الشِّعر، تبدو شبه مُغْلَقَة، أو مُسْتَعْصِيةً على التفكير، رغم ما سيبدو في النصوص التي ذهبوا إليها من ‘غموض’، ومن صعوبات في التَّعامُل مع شَرْطها الجمالي، وفق تعبير هربرت ماركوز، كون الشِّعر، ليس نَصّاً، مُتاحاً بوضوح، وبسهولة، فهو كان، دائماً، وأنا هنا أتحدَّث عن الشِّعر، لا عن غيره مما يلْتَبِس عادةً بالشِّعر، أو يأخذ صفاته، يحرص على مسافاته الخاصة، مع غيره من التعبيرات الأخرى، رغم أنه يَقْبَل صَدَاقَتَها، و يقبل الحوار معها، أو اسْتِضافتَها في أراضيه التي لا تفتأ تَتَّسِع، خصوصاً في ما أُسَمِّيه بـ ‘حداثة الكتابة’، التي لم تعد فيها مفاهيم كثيرة تقبل الاشتغال في ما يقترحه الشِّعر اليوم من أشكال، خصوصاً مفهوم ‘القصيدة’، الذي هو مفهوم تاريخي، له سياقه، وله مكانه الذي يعرفه الشُّعراء، كما يعرفه من يقرأون الشِّعر بعُمْق وانتباه، وبنوع من السَّفَر، الدَّائم، بين ماضيه وحاضره.
أدونيس، واحد من هؤلاء الشُّعراء الذين كان الشِّعر عنده، سواء في مرحلة ‘القصيدة’، بكل تَمَثُّلاتها، في تجاربه الأولى، أو في مرحلة الكتابة، التي صار فيها الشِّعر أوسع من القصيدة، سؤالاً مُشْرعاً على المجهول، واختباراً للفكر والخيال، معاً، في قدرتهما على اختراق المُسَلَّمات، وامْتِحانها، بمعنى المِحْنَة، في قابليتها للتَّصَيُّر، والانشراح، أي في قدرتها على التوليد، والابتداع، لا في استعادة ما هو جارٍ، وسائد، وقائم، أو مَبْنِيّ و ‘مُحْكَم’.
لم يكن النص، في ما يكتبُه أدونيس شعرياً، يعمل برأس واحدةٍ، فهو نص بِلَّوْرِيٌّ، له رؤوسٌ وأضلاع مُتَعَدِّدَة، ما يجعل قراءة هذا النوع من التجارب، من ‘النمط الصَّعْب والمُخيف’، كما سَمَّى محمود شاكر، نصّاً لتأبَّط شَرّاً، وهو يُشِير إلى ما يفتحه النص من احتمالات، وما يُجُرُّ إليه قارئَه من تَصَعُّبٍ، مما لم يكن اعْتادَ عليه.
في تجارب الخمسينيان والستينيات، بَدا لي وأنا أُعيد قراءة هذه المرحلة، من تجربة أدونيس الشِّعرية، أن الملامح الأساسية، لِما سيكتُبُه، وسيقوله، شعرياً ونظرياً، شرَعت في التَّبَدِّي والظُّهور، ليس في نصٍّ بذاته، بل في كتابات ما بعد الخمسينيات. في هذا ‘الأفق’ الستيني، بقيت نمطية ‘حداثة القصيدة’، أو ما كان يُسَمَّى بـ ‘الشِّعر الحر’، ما تزال حاضرةً، رغم أنَّ اللغة كانت تخرج، بالتَّدريج، من سياق الصُّوَر، والتعبيرات الشِّعرية ‘المُشْتَرَكَة’، وتَفْتَح مَسَالكَ جديدة، يمكن تَلَمُّسُها، في قراءة هذه النصوص، رغم جُرْأتِها ‘الشكلية’، و بنائها التعبيري ‘النثري’، ليس بأسقاط التجارب الموازية لها عليها، أو النظر إليها من خلال هذه التجارب، بل بالنظر إليها باعتبارها مُقْتَرَحاً شعرياً مشغولاً بالمُغايرَة، وبالاختراق، وبإعادة التأسيس للكتابة الشِّعرية العربية، من منظور مُغايِرٍ.
لكن أهم ما يمكن اسْتِشْعارُه، في كتابات أدونيس، هو هذا ‘التركيب الشِّعري’، الذي، لا يمكن الفصلُ فيه، بين ما تتأسَّس عليه التجربة، في أُفقها التعبيري الجمالي، وبشكل خاص في لغتها، وبين السياق الفكري، أو ما تهجس به هذه النصوص، من قَلَق، ومن بحث عن التَّصَدُّعَات التي، ستكون، بمثابة الضوء الذي فَتَح تجربة أدونيس على ما سَتَبْلُغُه في تجارب ما بعد السبعينيات.
لا يمكن تفتيت تجربة أدونيس، أو اعتبارها قطائع، أو انْفِصالاتٍ، ثمة خيط، ظل يحكم هذا التجربة، لكنه خيط شَفَّاف، مثل خيط العنكبوت، يحتاج لنوع من القراءة المُحْكَمَة، في رؤيتها، وفي النظر للنصوص، ليس في سياقها التاريخي، رغم أهميته، بل في سياقها الشِّعريّ، الجمالي، وتعنيني اللغة هنا، وهي تخرج بالتدريج، من تاريخيتها، ومن ‘تراثيتها’، لتكون توقيعاً خاصّاً، ليس بتجربة أدونيس، وحده، بل بتجربة الحداثة الشعرية العربية، التي كانت ما تزال تسير في طريق السياب، الذي لم يكن خَرجَ، حقيقةً، من هذا البُعد التراثي، أو ‘حداثة القصيدة’، التي بَقِيَ، هو وكثير من أفراد جيله، يُسَاوِمون تاريخيتها، وتراثيتَها، رغم ما أسَّسُوا له من اختراق مُهِمّ، وكبير.
في قراءتي للأعمال الشعرية، والنظرية، لأدونيس، وفي قراءتي لمختاراته الشِّعرية، من قديم الشِّعر وحديثه، وأيضاً، عمله الأنطولوجي الكبير، في ‘ديوان النثر العربي’، الذي سأعود إليه لاحقاً، وجَدْتُ أنَّ شاعراً من هذا القبيل، هو شاعر خَبر جمالية اللغة العربية، أو التاريخ الجمالي للغة العربية، ليس بدراسة النص، فقط، بل و باسْتِكْشافِه، والكشف عن ‘شعريته’ التي ليست شِعريةً تَحْدُث بمفرداتٍ، أو بِقَطَعٍ من اللغة دون غيرها، كما عِيبَ على أبي نواس، في استعماله لمفرداتٍ، اعتبرها النقد غير شعرية، أو جاءت للشِّعر من غير مكانه، بل سيبدو، أنَّ هذه النَّظْرَة المُعْجَمِيَة للغة، هي نظرة قاصرة، وأن الشِّعر هو غير المُعْجَم، وأنا أستحضر هنا، عبد القاهر الجرجاني، في نظريته العميقة حول ‘النظم’، الشِّعٌرُ هو التركيب، وهو التوظيف التعبيري الجمالي لـ ‘الكلام’، بما يكون فيه من خصوصية شعرية، ترتبط بطبيعة الرؤية التي تصدر عنها، وبطبيعة، الموقف الجمالي الذي يكون فيه الشاعر مُنْتَصِراً لـ ‘الانزياحات’ التي يُحْدِثُها، في علاقة الشِّعر بغيره من التعبيرات الأخرى. لا أذهب للانفصال، هنا، بقد ما أؤكِّد، بتعبير الجرجاني نفسه، عن شِدَّة اتِّصالٍ، في شِدَّة انفصالٍ.
دون قراءة أدونيس في هذا الكُلّ ‘الشِّعريّ’، ستبقى، القراءةُ ناقصةً، ولا تَفِي بتعاقُداتها النقدية، وهذا ما بدا لي في بعض ما قرأتُه من نُقودٍ، وأعمال حاولت أن تنظر لأعمال الشاعر، بنوع من الرؤية الأرضية، وليس برؤية ‘الصقر’ الطائر، طبعاً، الذي تكون الرؤية عنده شاملةً، تذهب لدقائق الأشياء، وجزئياتها التي تتحرك على الأرض، الذي هو النص نفسه، قبل أن تنزل إلى الأرض، لتلتقط منها ما عاينتَه من أعلى، وبِدِقَّة مُتناهِية.
‘الكتاب. أمس المكان الآن’، مشروع شعري ضخم، وكبير. كان أدونيس، مشغولاً به منذ زمن بعيد. في هذا العمل، الذي يحتاج لقراءة ذائبة، تستعيد المصادر التي كان الشاعر اشتغل عليها، ولعل أوّلها، قراءة المتنبي، شعرياً، وقراءة ‘سيرته’، في سياقها التاريخي، والشِّعري، أو الثقافي، بالأحرى، يمكن وضع اليد على الأفق الذي ظل أدونيس يسعى لاختراقه، أو فتح بعض تَصَدُّعاته التي كانت التجارب السابقة، تَشِي بها، و تُمَهِّد لها.
في هذا العمل، بأجزائه الثلاثة، بدت تجربة أدونيس أفقاً صريحاً، كما بدا لي شخصياً، أنَّ أدونيس كان يحمل هذا المشروع في نفسه، ومشغولاً به، أو يعيش قَلَقَه، بشكل دائم، وهذا ما لا يُدْرِكُه غير الشُّعراء، حتى قبل أن يُقَرِّر الشُّروعَ في تنفيذه. فَرِحْتُ بهذا العمل، عندما تصفَّحْتُ جزءاً مخطوطاً منه، قبل صدوره بسنوات، بمدينة المحمدية، وبقيت أنتظر الوقتَ الذي سأقرأ فيه العمل كاملاً، ليس لأنه عمل أدونيس، تحديداً، بل كونه إضافةً مهمة للشِّعر العربي، وخُرُوجاً به من سياق حداثة مُنْهَكَةٍ، ومن شعريةٍ اسْتَنْفَذَت الكثير من جمالياتها، بما يعنيه ذلك لي من نَفْي لفرضية ‘زمن الرواية’، التي كنتُ انتقدتُها، لأؤكِّدَ على ما للشِّعر من أراضٍ، قابلة للحياة في تُرَبِها التي فيها كثير من الحيوية، أعني كثير من الماء، بالمفهوم الذي كان النقد القديم أطلقه على النصوص ذات الشِّعرية الاستثنائية.
رغم ما بَقِيَ عالِقاً في ‘الكتاب’ من جماليات ‘تراثية’، وهو ما كنتُ كتبتُه من قبل عن ‘الكتاب’، فهذا سيكون، بين ما يجعل من التجربة الشِّعرية لأدونيس هي تجربة اسْتَثْمَرتْ كُلّ خبراتها، وكل معرفتها، وما خبرته من معرفة جمالية بالشعرية العربية، لتفتح في الكتاب طُرُقاً، تتأسَّس فيها الحداثة على قديمها، لا لتنفيه، بل لتنتقده، في ما هي تُضفي عليه، بهذا النقد، والتفكيك، حِجابَ المُعاصرة!
الشِّعر والفكر، أمران، لا يمكن النظر إليهما بانفصال، في تجربة أدونيس، فهما يسيران بشكل مُتَوازٍ. الشِّعر فِكْرٌ، والفكرُ شعر، بما يعنيانه من تواشُج، أو توالُجٍ. فهما لَيْلٌ يَلِج النَّهارَ، كما يَلِجُ النَّهار الليل. لا واحدَ منها يخرج من نفسه، بل إنَّهُما يخرجان من بعضهما، رغم ما في كُلٍّ منهما من مُفارقة للآخر، واختلاف عنه. لِنَعُد لقولة الجرجاني السابقة، فهي تُضاعِف هذا المعنى، وتَسْتَبِيحُه.
لا يكون أدونيس، مُفَكِّراً، في الكتابات النظرية، أو في الحوارات العديدة التي جَمَع عدداً من في ثلاثة أجزاء [من 1960 إلى 1990]، ففي شعره يقول فكرَه، لكن في سياق تعبيري فني، وجمالي، يكون من حيث العُمق، والدِّقَة، أكثر تحريراً للمعنى، مما يكون عليه الأمر في الكتابة النثرية المباشرة. وهذا ما يمكن اختباره عند هولدرلين، وعند رامبو، مثلاً، دون أن أسْتَعيدَ غيرهم من المُعاصرين لأدونيس نفسه.
سيبقى أدونيس شاعراً إشكالياً، عميقاً، نَتَّفِق أو نختلف معه، أو ننتقد عمله، في رؤيته، وفي أفقه، فهذا ما تقوم عليه التجارب المؤسِّسَة، المُفارِقَة، التي هي تجارب تفتح الطُّرُقَ، وَتَشِي بانجرافاتها، وما يمكن أن تَجْلبَه من انقلابٍ في القِيَم، وفي المفاهيم، والتصوُّرات، وفي مواجهة اللغة، هذاالمسكن الذي لايسمح بالإقامة، في نفس المكان، أو النوم في سريرٍ واحد، رفقة نفس الحُلُم، وكأنَّ لا خيالَ يَسْتَحْدِث غيره، نفس الحلم يحدُث بنفس العناصر، وبنفس الشخوص، والصور، وربما بنفس الاستيهامات، ما قد يعني أنَّ الإقامةَ عراءٌ، أو الأقامة في العراء. هذا هو طريق الشِّعر، وهو نفسه طريق الفكر، حين يكون تفكيراً للنسيان، بتعبير فوكو.
May 20, 2013