1
منذ ديوان "أحد عشر كوكبا" شدني محمود رويش إلى شعره أكثر.
قبلُ، كنتُ أقرأ بعض أعماله بشكل مُتقطع. لم أكن أذهبُ الى أعماله كاملَة، بل كنتُ أبحث عن بعض مايجعلني أطمئن لشعرية النص، ولاختياراته الجمالية التي كانت تَحجُبها طبقة سميكة فرضَت اللحظة التاريخية وجودَها بالشكل الذي حدثت به .
هذه العلاقة المتقطعة بشعر محمود جعلتني مشوشَ الرؤية، وحين يَتمُّ الحديث عن شعره فأنا لم أكن أملك رأيا أو صورة واضحة عنه، أو لم أكن أطمئن، بالأحرى، لهذا الوجود الملبد لمعنى جعل النص يحجُبُ ويُخفي فتنَهُ. سأدرِك فيما بعد وخصوصا منذ شُروعي في العمل في أطروحتي حول "الكتابة" L'écriture في الشعر العربي المعاصر، أن الشفاهي كان أحد أقوى تلك الطبقات التي كانت تحجُب عني شعرية المكتوب في شعر محمود درويش، وفي شعر غيره ممن كانوا يحتكمون في مفهومهم للإيقاع الى البُعد الشفاهي. أعني الإلقاء والإنشاد الشيء الذي جعل نصوصهم، في مرحلة ما، تظل مُقيمة في القصيدة لاتبرحُها .
لعلَّ محمود نفسه أدرك هذا البعد في تجربته، وحرص أكثر من غيره على وعْي الكتابة في شعره كشرط شعري يحمي النص من "القصيدة"، هذا المفهوم المُلبد بالتباساته، ليجعله أكثر استجابة للشعر في جمعه وكُليته. فالإيقاع عنده لم يعد مٌُجرد وزن كما أن اللغة لم تعد نثرا وشعرا، هكذا! بل أصبحت لُغة يمكن استثمارُها تركيبا ودلالة، دون وضع جُدران فاصلة بين مايجوز ومالايجوز. أو كما يقول درويش في أحد حواراته "الشعر هو الذي يُعيد الحياة الى اللغة" 1)
وليست اللغة هي مايمنح الحياة للشعر في هذا النوع من الوعي، وفي المفهوم الجديد للإيقاع، كما تُعبِّر عنه الكتابات الاخيرة لمحمود درويش بدأ النص يحيل الى الكتابة، ويبني شِعريته من خلال المكتوب، وليس بما هو شفاهي. أداة وتصورا وبناء أيضا .
يقول محمود في نفس الحوار "لاأفكر في أي قارئ في لحظة الكتابة. عندما أكتب، أعطي لنفسي حق التعبير الذاتي بشكل مطلق لا رقابة عليه من أي اعتبار غير اعتبارات الكتابة المحضة". ورغم تأكيد محمود على الجانب الشفاهي او الإنشاد كما يُسميه ك "خيار" يحكم التوجه "الموسيقي" او الايقاعي، فإن الشفاهي في مثل هذا الوضع قد يصيرُ أحد مكونات النص المكتوب وليس العُنصر المُهيمنَ، أو الشرط الجمالي المتحكم في النص بخلاف ماكان يحدث في "القصائد" السابقة للشاعر ذاته .
2
أصبحت علاقتي بشعر محمود درويش، منذ "أحد عشر كوكبا تحديدا، علاقة قراءة متواصلة، وانتظارا لما سيقدم عليه محمود في تجارب أخرى، من اختراقات Transgressions. وهذا ما تأكد لي بالملموس في آخر ديوان صدر له "لاتعتذر عما فعلت" فمحمود في هذا الديوان (من التدوين والكتابة) ضاعف من حضور الكتابي، في تجربته، رغم ان التوزيع الخطي Graphique على الصفحة، او علاقة محمود بالصفحة، ظلت هي نفسُها حيث حَرص على السير الخطي للنص في نفس الاتجاه وظلت الصفحة امتدادا خطيا عموديا، فيlh ينتفي التوزيع الأفقي كلية، سواء في هذا الديوان، أو في غيره، أنظر "الجدارية" و"حالة حصار" مثلا (2)
ثمة نوع من الحذر مازال يطبع رؤية درويش ومفهومه للشعر. فهو في اعتقادي مازال ممسكا ببعض خيوط "القصيدة"، ومازال، في اختراقاته المنجزة لحد الآن، يسير بخطى من لايطمئن لطبيعة التربة التي يسير عليها، أو بالأحرى يسعى، من خلال بعض هذه الاختراقات، لاختبار ردود الفعل تجاه مايقدم عليه. ولعل في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" مايكشف بعض هذا التردد. وأذكر بهذا الصدد، في إحدى الندوات التي نظمت في المغرب، حول تجربة محمود درويش، ونشرت بأحد أعداد مجلة "آفاق" المغربية، أنني توقفت، في ملاحظاتي وأسئلتي، مع محمود درويش حول هذا الديوان تحديدا، وأشرت الى طبيعة التركيب النثري لنصوص الديوان أو لنثرية شعريتها بالاحرى، رغم أن النصوص موزونة وموقعة (3)، فكان جواب محمود لي، أن هذا بالفعل متحقق في الديوان الى درجة أن ناقدا عربيا كتب أو قال ان الديوان "قصائد نثر ."
وهذا معناه ان هذا الناقد لم ينتبه الى طبيعة المطب الذي كان محمود يجر قارئه اليه. ففي تجربة "لماذا تركت الحصان وحيدا" يظهر هذا النوع من الحذر او الاختراق الحذر. ففيما تعمل الجُملة على كسر النسق التقليدي أو "العمودي" لبناء شعرية الجُملة او "البيت" في الشعر العربي القديم، وحتى ماسميَ ب "الشعر الحر"، فإن محمود يجعل الوزن يترسَّبُ في قاع النص، لايدرَك بداهة، بل يحتاج الى وعي شرطه الكتابي أولا، ثم وضع النص، قراءة، في شرط اختراقه الذي لم يعد يضع الوزن كشرط أو كدال اكبر Signifiant majeur في تمديد شعرية النص، وهذافي تصورنا ما يوسع مفهوم الايقاع ويجعله لايُدرك كميا، بل يُدرك نصيا، أي في ماهو كلي (4)
3
في لحظة من لحظات "لاتعتذر عما فعلت" يتبدّى وعي محمود بالقصيدة كمأزق. أو كشرط جمالي يعود إلى الماضي أو هي بالأحرى لحظة التباس في ممارسة الكتابة في الشعر العربي المعاصر. يقول محمود
"......................................فالقصيدة،
زوجة الغد وابنة الماضي، تخيّم في مكان غامض بين الكتابة والكلام" (ص 96)
تكشف هذه اللحظة في تصوّرنا، عن الوعي الذي أصبح محمود يشترط به كتابه الشعرية. فـ"جماهيرية" النص ستنتفي، وسيُصبح "الغامض" بالمعنى المحدد في النص، أحد ما يُميز كتابة محمود. لم يعد النص في وضع القصيدة، يُقدّم نفسه للمتلقي كخطاب عار، يفضح معناه ويقوله دون حجاب، بل اختار موقع الانكتاب (4)، وهذا ما سيجعل محمود ربما، يجعل من الذّات شرط وجود في النص. وهي هنا ليست ذاتا نرجسية مفردة، فهي ذات تتقاطع مع آخرها، ومن خلاله تبدو شفّافة، تقول جرْحها حيث الألم، كما في الـ"جدارية" مثلا يصير تراجيدا لاتخص قلبا أوشك أو كاد أن يوقف نبضه، بل تراجيدا نبض مافتئ يزاول خفقانه رغم كل حالات الموت أو القتل التي داهمته .
فالذّات، في مختلف تقاطعاتها، أصبحت شرطا شعريا بامتياز، وهي أحد الاختراقات الكبرى التي أقدم عليها محمود درويش في تجاربه الأخيرة.
فحتى في ديوانه أحد عشر كوكبا "فالذّات تتحول إل مرآة، في مائها تتكشّف تلك الجراحات الأخرى البعيدة التي كانت تراجيديا، مازالت تكوّر حضورها، وكأنّ التاريخ لم يبدأ بعدُ
4
في لحظات كثيرة من ديوان "لاتعتذر عمّا فعلت "يُحوّل النص مجرى شعريته، ويمارسها بطريقةٍ مغايرة لما حدث من قبل. وهنا أريد أن أتساءل، كيف يمكن لـ"جمهور" محمود درويش. أقصد مُستمعه في لحظة الإنشاد، أن يتجاوب مع مثل هذا النّوع من النصوص المكتوبة. أي المكتوبة بوعي كتابي وليس بالوعي الشّفاهي الذي حكم التجارب السابقة التي كانت تحرص على توفير هذا الشرط أو هذا النّوع من الوعي الشعري السّابق .
رغم ما أبداه محمود في حواره الأخير المنشور بجريدتي "الاتحاد الاشتراكي" المغربية وجريدة "القدس العربي"، من تبادل يحدث بينه وبين "الناس"، و"إعادة إنتاج وكتابة النص بشكل احتفالي أو مسرحي"، فأنا لا أتصوّر أن نصوص "لاتعتذر عمّا فعلت" وهي مُوغلة في كتابيتها تستطيع أن تكون "أداة" تبادلٍ، أو "احتفال" بين الشاعر وجمهوره. فهذه النصوص، هي من نوع النصوص التي تستدعي القراءة المفردة، الهادِئة، والمتأمّلة، لأنها في هذا الوضع وحْده تستطيع أن تكشف عن شعريتها، أو عن شعرياتها إذا شئنا، لأن لحظة الإنشاء تضيع فيها كثير من اختيارات النص وتتلاشى، بعكس ما يحدث في حالة القراءة المُفردة .
5
إن ديوان محمود هذا، وما سبقه من دواوين، بدءًا من "أحد عشر كوكبا" كما أرى، ينخرط كليا في الشرط الكتابي، وهو ممارسة كتابية في بنياته واختياراته اللغوية والإيقاعية، رغم أن وضع الصفحة، وهو أحد شروط الوعي الكتابي، مازالت خطّيا تمارس وجودها عموديا، ولم تستثمر بعد إمكاناتها الأفقية، أو لم تستثمر فضاءَها كاملا كما يحدث اليوم في الممارسة الكتابية في الشعر العالمي كاملا .
فكتابية هذا الديوان، في عموديتها، تضع الديوان في أفق حداثة باتت تعلن عن ذاتها في الممارسة الشعرية العربية المُعاصرة، حيث النص شرع في تخفيف ذاته من ثقل القصيدة، ومن طبقاتها التي مازالت تُلبِّد كثيرا من التجارب الشعرية في الشعر العربي المُعاصر، غير واعية بالكتابة كشرط جمالي، وكاختيار يجعل النص أكثر التصاقا بزمانه وليس كتابةً أو نوعا من الرّسم الخطِّي الذي ينتفي فيه الوعي الكتابي، أو يصير نوعا من نقل اللّسان إلى خطوط لاتُمارس كتابيتها بناءً وتصوّرا .
العلم الثقافي ـ المغرب .