كان عبد الله راجع، بين أهَمّ شُعراء السبعينيات في المغرب. فهو امتاز بتجربةٍ شعرية خاصة، قياساً بتجارب بعض شُعَراء جيله، ممن كان المشرق العربي أَسَرَهُم، أو ذهبوا إلى المشرق، باعتباره مشروعاً شعرياً قابلاً للتعميم، أو هو ما يمكنه أن يُضْفِي على كتاباتهم، ما كانوا يحتاجونَه من اعتراف شِعْرِيّ.
ماضي الشِّعر العربي، هو ما أخذ راجع، أو شَغَلَه، وهذا ما بدا واضحاً منذ ديوانه الأول، ‘الهجرة إلى المدن السُّفْلَى’. كان الديوان تجربة فَارِقَةً، ليس في تَمَيُّز راجع كشاعر، حافَظَ على مَسَافَتِه اللاَّزِمَة مع تجارب غيره من شُعراء جيله، بل، وفي طبيعة الرؤية الفكرية والجمالية التي كانت لحظةً حاسِمَةً في فَضْحِ ما كان يَصْدُرُ عنه هذا الشَّاعِر من مواقف، ومن انشغالاتٍ شِعْرية جمالية، كان النص الشِّعْرِيُّ فيها، هو نوع من الاحتفال بالإيقاع، في مفهومه الواسع، رغم حِرْصِ راجع على الوزن، كشرط شعري ضروري، في ما كان يَكْتُبُه، وكان احتفالاً باللغة، في سياقاتها الشِّعرية، التي سَتَتَوَسَّعُ لاسْتِضافَة هذا الماضى الشِّعري، دون امْتِصاصِ القديم، لمِاَ هو حديث، أو مُعاصِر في تجربة الشَّاعِر اللغوية، أو في علاقة الشَّاعِر باللغة.
أما ما يتعلق بالموقف الفكري، فهو، بقدر ما كان مشدوداً لِوَتَرِ الزَّمَن السياسي، الذي كان هو الشَّرْط الأيديولوجي، الذي حكم علاقة الشَّاعِر بالواقع، فهو كان حريصاً على البقاء خارج الانتماءات السياسية المباشرة، رغم ما كانتْ تَشِي به نُصوصُه، ومواقفُه، من انتماءٍ لفكرِ اليسار العربي، الذي كان فِكْرَ مُواجَهَة، وفِكرَ ‘طريق’، بما يعنيه من تغيير، ومن انشراح، وانفتاح على المستقبل.
في هذا الديوان، تحديداً، بَدَتْ الخُصوصية المحلية، في تجربة راجع واضحةً، وبدا أنَّ الشَّاعِرَ كان يَصْدُر عن إحساس ‘شعبي’، هو تعبير عن انتماء الشَّاعِر لهذه الشَّريحَة الاجتماعية الواسعة من الناس، ليس بما يكتبه عنها في نصوصه، فقط، بل، وبما يعرفه عنها، خصوصاً ما عاشه الشَّاعِر نفسه من تجارب، بما فيها تعيينه كَمّدَرِّس في مدينة الفقيه بنصالح، وهي من مدن الهامش المغربي، آنذاك، أو بتعبير الشَّاعِر، نفسه، في عنوان ديوانه الأول، فهي من ‘المدن السُّفْلَى’.
لا يمكن اعتبار تجربة راجع، في هذا الديوان، كِتابَةً مُغْلَقَةً على سياقها الوطني المحلي، فهو حَرِصَ في استحضار هذا البُعد، في تجربته، باعتباره إطاراً لتجربة إنسانية شاملة، وعامة، لا يمكن الفَصْلُ فيها بين جُرْح وجُرْح، فالجِراح هي نفسُها، والمعاناة، هي نفس المعاناة، سواء جاءت من ماضي مُتَصَوِّفٍ عربي قديم، مثل بِشْر الحافي، أو مِنْ حاضرِ شاعرٍ غَرْبيٍّ حديث، مثل لوركا، فثمة ما يجمع بين الشخصين، هو هذه الشُّحْنَة الرمزية التي تشي بها تجربة الرَّجُلَيْنِ، دون مُراعاةٍ لِعامِلَيْ الزمان والمكان.
المتأمِّل في تجربة عبد الله راجع، في دواوينه الثلاثة الصادرة في حياته، أو في دِيوَانَيْه الأخيرين، الصادرين ضمن أعماله الشِّعرية، سيضع يَدَهُ على طبيعة الرؤية المأساوية، أو التراجيدية التي كان يصدر عنها الشَّاعِر، في علاقته بالواقع، وفي ما كان يحمله من مشروع شِعْرِيّ، بَقِيَ فيه راجع مُخْلِصاً لمواقفه، ولم يتنازل عن البُعد الوطني المحلي، أو هذا النَّفَس المغربي في كتابته. سواء في لغته، التي كانت، في تركيبها تميل إلى اللسان العام، في صياغة بعض التعبيرات، أو بناء الصور، التي كانت تخرج من هذا البُعد ذاته، أو تصدر في عمقها، عن بعد رمزي، هو البُعد البروميثيوسي، تحديدا.
رغم انخراط راجع، في ما سُمِّيَ بالتجربة الكاليغرافية، في ديوانه الثاني ‘سلاماً وليشربوا البحار’، رُفْقَةَ شُعراء مغاربة آخرين، فهو في خِضَمّ هذه الأشكال الخطية الهندسية، التي قد يصعب فَكُّها بِيُسْر، في ديوانه، بشكل خاص، فهو كان، في تجربته الفكرية يصدر عن نفس الرؤية، وبَقِيَتْ شعرية النص، هي نفسها، تَسْتَدْعِي الواقع المغربي، وتستدعي اللِّسان، في تركيبه العام، وتعيش على إيقاع هذا الزمن، في بُعده الإنساني الشامل، وليس بتغييبه، لصالح أفكار، لا علاقة لها بالزمن المغربي، أو بهذا السياق المأساوي التراجيدي، الذي سيتكشَّف بوضوح، حتى، في لحظات مرض الشَّاعِر، الذي اسْتَحْضر فيه ‘بيروت’، كما استحضر فيه ‘الشكدالي’، أسطورة الشاعر الشخصية، أو مرآته التي رأى فيه نفسه، بما يكفي من الوضوح والشَّفَافَة، وفي شخصية ‘عمر بنجلون’، التي كان راجع، أكثر استحضاراً لها في كتاباته، بما فيها كتاباته الأخيرة، ما يعني، أن عمر، عند راجع، لم يكن فقط زعيماً سياسياً، اغْتِيلَ نتيجة مواقفه، بل إنه صار، عنده، معادلاً أسطورياً لبروميثيوس، أو لـ ‘الشهادة والاستشهاد’، بتعبير راجع نفسه.
هذه الأيقونات التي ظلت تُصاحب راجع، في حياته، وحتى في ما كان تَبَقَّى له من حياة، لم تكن عابرة في رؤية الشَّاعِر، فهي كانت نواة هذه الرؤية التراجيدية التي كان راجع يصدر عنها، أو كانت هي مصدر موقفه الفكري، الاحْتِجَاجِيّ الغاضب، المُفْعَم بحُرْقَةٍ ظلَّت كامِنةً في نفسه، بما سيعبِّر عنه في رسالته الجامعية ‘القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد’، بالرؤية البروميثية.
في هذه الرؤية، بالذات، عَثَر راجع على صداقاته الحقيقية، وسَيَكْتَشِف أن ما كان يحمله من ‘هَمٍّ’، كما كان يُعَبِّر، دائماً، هو هَمٌّ جماعي، مُشْتَرَك، يتقاسَمُه الشَّاعِر مع أسلافه، ممن لم يَخُن مواقِفَهُم، أو رسالتَهم، وكان مُلِحّاً أن يكونوا حاضرين في حياته، دون تنازلات، أو مساومات وتجاهُل.
من عَرَفَ راجع، في حياته الخاصة، سَيُدْرِك مدى عُمْق إحساسه الإنساني، ورهافة نفسه التي كانت تَشِفُّ عن نفسها، دون تحفُّظ، أو بما يمكن اعتبارُه سذاجةً إنسانٍ، لم يكن يرغب في تغيير طباعه، أو حَمْل نفسه على تَحَمُّل تبعات الخسارات التي سَيَسْتَشْعِرُها، في ما بعد، حين أدرك أن صداقة دَمِه الشخصي، كانت هي الملاذ الذي أفْضَى به ليعيش أَلَمَ صداقات قديمة، لم تَفِ بشرطها الإنساني، وحتى الشِّعري المُفْتَرَضَيْن.
بين ما هو إنساني، وما هو شِعْرِيّ، تأرجَحَتْ حياة راجع، وبين ما هو إنساني، وما هو شِعْرِيّ، تَشَكَّلت رؤيته البروميثية المأساوية، التي كان فيها الشَّاعِر، هو ‘عُرْوَةَ’ زمانه، بما سَيُمَثِّلُه عروة، في الوجدان الثقافي العربي، من وعي جماعي، وحِسٍّ ‘اشتراكي’، يؤمن بالاقتسام، ومُساعَدَة الآخرين.
من يقرأ هذه الأعمال الشِّعْرية، دُفْعَةً واحدة، بقدر ما ستبدو له النصوص مُتَفرِّقَةً، خصوصاً في دواوينه الثلاثة الأخيرة، بقدر ما ستبدو له تجربة الشَّاعِر واحدةً، خرجت من نفس النَّسِيج، رغم ما يبدو فيها من شَتَاتٍ، كان فيه راجع، لا يَفْتَأ يعود لنفسه، ولمِاَ كان يَعْتَمِل في روحه من جراح، قبل أن يَعْتَريه ذلك الجُرح الشخصي، الذي سيكون وجهاً آخر، من أوجه هذه الرؤية المأساوية، التي سيكون الموت، أو الرحيل المبكر، هو مشهدها الأخير، أو الصورة التي سَتَكْشِفُ عن ‘النَّسْر’ الكامِن في جسم الشَّاعِر، يأكلُه من داخِله، أو يَنْخُرُه، مثلما تَسْتَبِيحُ النَّار الشَّجَر.
صَدَرَتْ هذه الأعمال، بعد موت الشَّاعِر، بأكثر من عقدين من الزَّمَن. أجيال جديدة، انخرطت في تجربة الكتابة الشِّعرية، وحَدَثتْ، انقلابات، في كثير من المفاهيم الشِّعرية، التي كانت، في زمن راجع، بين ما كان يؤطِّر مفهوم الحداثة، والتَّحديث الشِّعْرِيَيْن. ثمة مِنْ جيل راجع مَنْ وَاصَل الكتابة، بنوع من الصيرورة، استجابة لطبيعة ما عَرَفَهُ الشِّعر، في العالم، من انزياحاتٍ، ومن خُروج عن المعايير التي كانت ‘قوانين’ و’ثوابت’، في المعرفة الشِّعرية، كما أن المرجعيات الكلاسيكية للشِّعر، التي كان يمتح منها راجع، في الشِّعر العربي القديم، وفي الشِّعر الغربي، لم تعد حاضرة بنفس القوة، أو بنفس التأثير، ولا بنفس صيغ ‘التَّناصِّ’، بما فيها المرجعيات الصُّوفية، لُغَةً، وأعلاماً. وثمَّة من جيل راجع، مَنْ انْقَطَع عن الكتابة، ليس بمعنى الاختفاء، أو التَّوَقُّف عن النشر، بل بانحسار كتاباتهم، في نمط شعري، ظلَّ أسير المعايير القديمة، التي بقيت القصيدة هي مرجعيتُها، شكلاً، ودلالةً. أو كما يقول راجع، فقد ‘تخَلَّف أصحابُها عن مسايرة تطور الحساسية الشِّعرية’ و’استمرار الفهم الكلاسيكي للكتابة الشِّعرية’، عندهُم، كما سيكشف، هذا الفهم، عندهُم ‘عن قُصور إبداعي رهيب’.
‘قصيدة النثر’، التي كان راجع ‘رفض’ أن يُدْرِجَها في داسته، نظراً لطبيعة رؤيته المنهجية، واستراتيجية رسالته، أصبحت حاضرة، بقوة، أو هي، الأكثر انتشاراً، ليس في الشعر المغربي، فقط، بل في الشِّعر العربي الراهن. وثمة ذهاب نحو ‘الكتابة’، أو ‘حداثة الكتابة’، التي ذهبت بمفهوم الصفحة، إلى ما هو أوسع من ‘بلاغة المكان’، التي هي مشروع انشراح مغلق، لم يستمر، حتى عند أصحاب المشروع نفسه، باستثناء الشاعر أحمد بلبداوي، الذي بَقِيَتْ يَدُه وحدها تخوض غمار الخط، بدل المطبعة، التي كان ‘بيان الكتابة’ أدانها، واعتبرها خارج نطاق ما ذهب إليه من مفاهيم.
في هذا السياق العام، وفي ظل هذه المُتغيِّرات، يعود راجع لِمُصافَحَة أجيال من الشُّعراء الشبان، ممن كانوا قرأوا له تفاريق من شعره، ولم يقرأوا أعماله كاملةً، كما يعود ليقترح علينا، جميعاً، نصوصاً، كان كتبها، في فترات أَلَمِهِ العَسِير والحارِق، وفق ما تشي به تواريخ النصوص، ووفق ما تقوله النصوص ذاتُها، وتُعَبِّر عنه.
كان راجع، في هذين الديوانين، غير المنشورين من قبل ‘وردة المتاريس′ و’أصوات بلون الخُطى’، يُقاوم ‘الغياب’، بالكتابة. أو يكتب في اليوم الواحد ما كان يكتبه في أعوام، كما يقول في ‘قصيدة’ له. أصبح الموت، في هذين الديوانين، واقعاً، وحقيقة، وأصبح موعداً غير معلوم، لكنه كان هاجسَ راجع، ووجَعَه الذي ضاعف من إحساسه بالعزلة، خصوصاً حين كان في إحدى مصحات باريس.
هذا الإقبال على الكتابة، بهذه الوتيرة التي تبدو في نصوص الديوانين، هو ما سيجعل من بعض هذه النصوص، تَفْتَقِر للنَّفَس الشِّعري، أو لتلك الخصوصية التي مَيَّزت تجربة راجع، ومَيَّزَت بعض نصوص الديوانين، بما فيها من نَفَسٍ ‘ملحميّ’، ليس بالمعنى المفهومي للملحمة، أو بخواصِّها البنائية، التي اعْتَبَرَها أرسطو خارجةً من التراجيديا، أو المأساة، بل بهذا الاستحضار الكثيف، والمُتقاطع للأصوات والرُّموز، ولِما تُمَثِّله من تداعيات في نَفْسِ الشَّاعِر، وفي رؤيته.
فراجع، طالما حلم أن يكتب ‘قصيدة ملحمية’، أي قصيدة تكون أرضاً لتواريخ، وأحداث، وسير، وأشخاص، ورموز وتخييلات، ربما، كان راجع يعتبر ‘الشكدالي’ و’عمر بنجلون’ و’بيروت’، هي بين ما سيُتيح له أن يكشف عن هذا التَمَثُّل الرمزي المأساوي التراجيدي، لواقع، له أكثر من رأس، وأكثر من لسان، وهو واقع أسطوري ـ ملحمي، بما تُمَثِّلُه الأسطورة والملحمة، معاً، من إفراط في الواقعية نفسها، أي بما يفوق الواقع، في الواقع نفسه.
راوَحَتْ يَدُ راجع، بين مشروع، بدا أنَّ الوقتَ لا يُتِيحه، وبين الكتابة، باعتبارها حضوراً، ومُراوغَةً للعدم، أو هذا الموت الذي يُقيم في جوانح الشَّاعر، ويُرافقه في نومه وفي يقظته، وبين ‘الوصية’، التي كان فيها ابنه ‘أيمن’، وهو لا زال طفلاً، آنذاك، هو ما يشغل ذهن راجع، ويَقُض مضجعه، ربما أكثر من ‘ندى’ و’جهان’، اللتان كانتا، قَطَعَتا بعض الأشواط في الحياة. فوصيته لـ ‘فاطمة’ زوجته، وقصيدة ‘أيمن راجع′، وغيرها من النصوص، هي وصايا، فهو كان يضع في ذِمَّةِ زوجته وديعةً، هم أبناؤه، الذين كانوا في آخر حياته، الضَّوْءَ الذي كان من خلاله يَسْتَشْعِر، فداحةَ الرؤيا التي تأكل عَيْنَيْه.
ليست نصوص راجع، جنائزية، فهي، في مُجْمَلِها، وأعني نصوص ‘الغياب’، تأكيد على الحضور، والبقاء، واستمداد الحياة من الموت. فهو لم ينع نفسه، ،لم يَبْكِ غيابه الوشيك، بقدر ما كان يَسْتَدْرِجُ الموتَ للكتابة، ويَمْتَحِن قُدْرَةَ الموت على الامْتِثَال للحياة، وللخلود. راجع كَتَبَ الأمل، في ذروة الألم، وجعل من تراجيدية رؤيته، في سياقها البروميثي، تعبيراً عن الشهادة والاستشهاد، وعن النفس التي تذوب، في ما هي تَشْتَعِلُ، لتفتحَ مسالك للآخرين.
بهذا المعنى كتب راجع حيّاً، وبهذا المعنى ‘كتب’ مَيِّتاً، وهذا ما أضفى على أعماله، هذه، صِفَةَ العمل الشِّعري ذي النَّفَس الملحمي، بما يسري في ثناياه من أصوات، وأزمنة، وأمكنة، وذوات، بما فيها سيرته التي سيعود لِيَسْتَكْمِلَها في الديوانين الأخيرين، بعد أن كان كَتَبَ فصلاً واحداً منها، في ديوانه الثالث ‘أيادٍ كانت تسرق القمر’.
لم يُتَح لراجع ما يكفي من الوقت للعمل على شعره، وفق ما كان يُريده. في حوارات راجع، التي لم تُجْمَع في كتاب، نجد هذه الرغبة في كتابة نَصّ ذي نَفَس ملحمي، مُتَشَابِك البناء، ولو أن راجع ظلَّ أسيرَ مفهوم ‘القصيدة’، التي لا يمكنها أن تكون، في بنائها المعماري، ولا في طبيعة أوزانها، وإيقاعاتها، قابلة لهذا التَّشَابُك، مما يفرض نَصّاً يَنْفَتِح على ‘الكتابة’، التي لم يكن الوعي بها قد تَمَّ، رغم أنَّ ‘بيان الكتابة’، حمَل هذا المفهوم، لكن بمعنًى بعيد عن مفهوم الكتابة، كما تجري اليوم، نَصّاً ونَظَراً.
راجع شاعر مغربي، كان بين الشُّعراء القلائل الذين اسْتَشْعَرُوا الكتابةَ كمسؤولية، ومارسوها بقلق حقيقي، ودون افْتِعال، أو ذهاب للكتابة دون معرفة شعرية. فرسالته الجامعية ‘القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد’، هي ‘بيانُ’ راجع، في فهمه لمعنى الشِّعر المعاصر، ولمعنى الحداثة الشِّعرية. فهو ثاني شاعر مغربي، بعد محمد بنيس، يدرس النص الشعري المعاصر في المغرب، الذي بَدَا أن النَّقْد ظل في غَفْلَة منه، أو لم يجرؤ على الاقتراب من هذا الشِّعر، بـ ‘احترافية’ شعرية، ذات منهج، ورؤية واضحين. فما كان كَتَبَه إدريس الناقوري، ونجيب العوفي، كان داخلاً في سياق، النقد الأيديولوجي، وليس في سياق النقد الأدبي، أو الشِّعري، الذي يَتَفَرَّغ فيه الشَّاعر للشِّعر، رغم ما قد يَتَسَرَّب لثنايا دراسته من رواسب فكرية، أيديولوجية، وهو ما سيحدث في دراستيْ محمد بنيس، وعبدالله راجع، في مفهومهما للبنية، ‘بنية السقوط والانتظار’، و’بنية الشهادة والاستشهاد’.
جُرْأَةُ راجع في رسالته، كانت في دراسته لِشِعْر جيله من شُعراء السبعينيات، وفي دراسته لشعره، وهو الشَّاعِر والدَّارس، في نفس الوقت. يكشف هذا الاختيار عن رغبة راجع في وضع الشِّعر المغربي المُعاصر، في سياق التجربة الشعرية العربية المعاصرة، وفي اختبار قدرة التجربة الشِّعرية المغربية على تَمَثُّل الوعي التحديثي، ليس في الشعر، فقط، بل في سياق الوعي الثقافي العربي الجديد، الذي كان رافضاً لهيمنة التقليدو ولهيمنة المفاهيم القديمة، في كل مجالات المعرفة الحديثة.
لم يكن، الشاعر المغربي، بعيداً عن الأسئلة الثقافية الكبرى، التي كانت هي ما شرعت الحداثة الشِّعرية، بشكل خاص، في إثارتها، مع مجلتي ‘شعر’ و’مواقف’، بما مثَّلَتاه من مراجعة للماضي، ومن رغبة في الخروج من انحسار الشِّعر في الأشكال التقليدية القديمة، بل أن رسالة راجع، فتحت النص الشِّعري المغربي على تجربة الحداثة، من خلال أشكال وصيغ تَمَثُّل هذا النص للحداثة، في بنياته الجمالية والثقافية، أو الفكرية، رغم ما اتَّسَمَتْ به هذه التجربة من انخراط متأخِّر في حداثة الشِّعر العربي المعاصر، التي كانت راكمت تجارب، دَالَّة، ورائدةً، في هذا المجال.
فبقدر ماكانت رسالة راجع اختباراً لمعرفة راجع الشِّعرية، ووعيه الشِّعري، الذي كان مُتَقَدِّماً في فهم حداثة هذا الشِّعر الجديد، ودوره في قلب المفاهيم والتصوُّرات، بقدر ما كانت دراسة رائدةً لتجربة جيل السبعينيات، في المغرب، وكانت ‘طريقاً’، بالمعنى الهايدغيري، لِما سيأتي من دراسات في هذا الشِّعر، ما كان يأتي من الجامعة، أو من خارجها.
لم يُكْتَب لهذه الدراسة أن تَنْتَشِر بين القُرَّاء والمُهْتَمِّين، كونها نُشِرَتْ على نطاق محلي ضيِّق، ولم يتمَّ توزيعُها بشكل واسع، ما جعلها تبقى بعيدةً عن أنظار القُرَّاء، وهي بين الدراسات المعاصرة التي لا بِدَّ أن نُعيدَ قراءتها، لمعرفة السياقات الشعرية والثقافية التي كان في ضوئها يحرص راجع على قراءة تجربة، كانت مازالت في مقدمات طريقها نحو الشِّعر، بمعناه الواسع والمُنْشَرِح.
فصدور هذا العمل، ضمن كتابات راجع، هو حَدَثٌ، لا يمكن تفاديه، أو تجاهل أهميته، أولاً، لمكانة راجع، في الشِّعر المغربي، كشاعر مُتَفَرِّد في تجربته، بالقياس مع النصوص الشِّعرية التي ظهرت في حينه، وليس بما نُشِر من دواوين بعد وفاته، وثانياً، كون راجع، جمع، في تجربته الشِّعرية، بين الممارسة النصية، والمارسة النظرية، التي فَرَضَت عليه، طبيعة الرسالة الجامعية، أن يعمل فيها، بوعي، وأداة الناقد المُتَقَصِّي، الباحثِ، والمُتسائِل، القَلِق، الذي كان مشغولاً بحداثة المعرفة، وبما سيتولَّد عن هذا الفهم من قضايا، ذات طبيعة نظرية، لا تكتفي بالبسيط والجزئي، بقدر ما كانت تذهب للمُرَكَّب، والكُلي.
تجربة شاعر، في الكتابة، تَرَكَنا ورحَلَ قبل الأوان. رغم كل التَّجاهُل والنسيان، هاهو ذا يعود إلينا، بنصوص لم نقرأها من قبلُ، وبنصوص أخرى قرأها، بعضُنا، بنوع من الابْتِسار، وفق ما توفَّر منها، لديه، وبدراسته المهمة، في الشِّعر المغربي، وتكمن أهميتُها في ريادتها المنهجية، بما فيها من صرامة وانفتاح، وبما توصَّلت إليه من نتائج، في فهمها لخلفيات النصوص الشعرية المعاصرة، الجمالية والفكرية.
وهذه في ذاتها لحظة احتفال، واحْتِفاء، بشاعر بَقِيَ له مكان في وعينا الشِّعري، وفي وعينا النقدي والثقافي، وأيضاً، في ما تعنيه الصداقة من معانٍ بعيدة، لا يمكن استثمارُها في ترويج المفهوم، دون ما يحمله من قِيَم، هذا كان هو مبدأ راجع، في مفهومه للصداقة والصديق، بتعبير صديقنا المُشْتَرَك، أبوحيان التوحيدي، الذي أدْرَك، حقيقةً، معنى أن خيانة الأصدقاء.
الدار البيضاء ـ المحمدية
December 15, 2013