-1-
لم يعد الشعر اليوم يحمل ذات المفاهيم التي كان يحملها بالأمس. لاشيء بقي علي حاله. من وضع إلي آخر، هكذا أصبح مآل الشعر. تصيُّر دائم وتحولات تعصف بكل القَناعات، وتضع المفاهيم القديمة في مواجهة مآزقها.
ولعل أكبر هذه المآزق، الوعي بالشعر ككتابة. فالقصيدة ظلت، وما تزال، تحْكُمُ الوعي بالشعر كخطاب شفاهي، أي ما كان يحكم الشعر باعتباره إنشاداً، وخطابا يُلقي أمام مستمِعٍ مُهيأ لاستقباله من خلال وسائط شفاهية حكمت مفهوم الشعر وأَسَرَتْه فيما نسميه عادة بـ القصيدة . فالحرص علي الوزن كآلة بها يتحدد انتساب الشعر لذاته، أو بها تتحدّدُ شعرية الشعر بالأحرى، ظلَّ أحد المعايير الكبرى التي حكمت العقلَ الشعري العربي، ووجَّهته نحو بنائه الشفاهي أي نحو القصيدة.
-2-
إذا كان الصوت هو البعد المستبد في القصيدة، وهو ما يحكم توجه القصيدة نحو متلقيها، فإن انتقال الشعر إلي الكتابة، أو خروجه من المسموع إلي المقروء، سيضع الصفحة في مواجهة قارئها. أي ما سينقل الشعر كاملا من وضع إلي آخر، وسيضعه بالتالي في غير المجري الذي كان يسير فيه من قبل.
هذا القلب المعرفي الكبير الذي حدث، ليس في الشعر فقط، بل في مُجمل ما يحكم الخطاب الثقافي كاملا، لم يحدث الوعي به، أو إدراكه، كقلب حضاري، نقل السياقات الحضارية للمجتمعات الحداثية، أو ما يمكن أن نسميه هنا، بمجتمعات الكتابة، وضع النسيان إلي وضع التذكر، ومن وضع الإمِّحَاء
والتلاشي، إلي وضع الرُّسُوِّ والثبات.
لم تعد القصيدة هواءً، أو لحظة إنشاء تكون فيها العلاقة بين الشاعر والمستمع هي علاقة استقبال آنية، مبنية علي ما تعمل الوسائط الشفاهية علي إحداثه في ذهن المتلقي من انفعالات، هي في جوهرها استجابة لما هو آني ولحظي، أي لما هو معرَّض للزوال والانتهاء، بمجرد انتهاء وجود أحد الطرفين، بل إن الأمر في الكتابة يصبح مصيرا دائما، وأثراً لا يزول. فبعكس اللفظ، أي رمي الشيء من الفم، تصبح الكتابة رسماً وتثبيتاً. فكلما دعت الضرورة لمراجعة النص، في الكتابة، فنحن نعود إليه لنجده هو ذاته، لم يطرأ عليه أي تغيير ولم تتصرّف في (لفظه) عاديات الإنشاد أو الحفظ. وعلينا هنا أن نتذكر مشكلة الانتحال التي طُرِحَت في الشعر العربي منذ زمن بعيد، ثمة أشياء تلاشت، وتمَّ تعويضها بغيرها، أو تعرضت إلي النسيان بالأحرى. وهذا ما لا يمكن حدوثه في الكتابة التي هي تدوين، ومفتوحة علي قارئها باستمرار.
-3-
الوعي بهذا الشرط المعرفي في التعامل مع الشِّعر، هو في تصورنا، أحد الشروط الضرورية لفهم ما أصبح يعتمل في الشعر من تحولات عصفت بكل ما كان يشد الشعر للقصيدة، أي لما هو شفاهي، ودفعت، بالتالي، إلي وضع المكتوب في مواجهة مصيره.
فما أقدم عليه مالارميه في ضربة نرد .. كان بمثابة الـ ضربة .. التي أعادت الشعر إلي سياقه. فآليات استقبال القصيدة، وما كان يحكمها من بنيات شفاهية، حكمت مفهوم الشعر بكامله باعتباره الكلام الموزون والمقفى.. سَتحتجب وسيصبح التوزيع الخطي للصفحة أحد الشروط البانية لمفهوم الشعر أو الكتابة بالأحرى.
لم تعد الأذن، هي آلة استقبال النص، كما هو الوضع في القصيدة. فالجسد كاملا سيصبح في وضع الكتابة مشتعلاً، وهو يتجه نحو النص المكتوب، ويحترق باقتراحاته القصوى التي بات معها الخطاب المسموع نادر الحضور.
لقد كان السمع، وليس النظر، هو المهيمن علي العالم الفكري القديم.. واستمر ذلك وقتاً طويلا، حتي بعد أن تم استيعاب الكتابة استيعابا عميقاً، كما يري أونج.
-4-
في هذا الاختزال المُركز لطبيعة القلب الذي حدث في النص الشعري المعاصر، ما يكشف عن جوهر المشكل المطروح اليوم بالنسبة لحضور الشعر أو غيابه.
فالقصيدة التي كانت، ليس في المغرب فقط، بل في مختلف جغرافيات التراب العربي، محكومة بالوعي الإيديولوجي الذي حكم الشعر كما حكم الفكر، إبان مراحل معينة من تاريخهما، كانت مُكرهَة علي تبني آليات الخطاب الشفاهي، لأنها كانت في أساسها تقوم علي التحريض. وفي اختبار ما صدر من دواوين شعرية خلال فترتي الستينيات والسبعينيات في المغرب، ما يكشف عن الحضور الفاضح لكتابة ظلت أسيرة وعيها الشفاهي أي أسيرة القصيدة شكلا ومضمونا .
المتلقي، هو الآخر، خضع لنوع من الترويض الشعري الذي جعله يطمئن لنص مكتوب بلفظ مسموع. أقصد نصّاً كُتِب ليُتْلَي ويُنشَد.
-5-
فيما نحن فيه من وضع مغاير اليوم. أصبح الشعر يسير في سياق العمل
وأصبح المكتوب، هو ما يحكم أساس كل عمل. فالشاعر اليوم، في وضعه الحداثي العميق، أي بما يعنيه هذا المفهوم الأخير من معني لـه ارتباط بالكتابة، لم يعد يكتب قصائد متفرقة، في ظروف وسياقات مختلفة. بل أصبح الاتجاه يميل إلي العمل في أفق كتابة تعمل في سياق التجربة الواحدة، فهو ما صار يستدعي اليوم، بحث الشاعر، في سياق تجربته، وحفره داخل مرجعيات عمله الذي هو بصدد التفكير فيه أو كتابته.
المأزق الكبير الذي يعانيه الشعر العربي اليوم، هو صدور عدد من الشعراء، في كتاباتهم الشعرية، عن ذات الوعي الشفاهي، حيث لا أثر للكتابة فيما يكتبونه. وهو ما يعني أن القصيدة، مازالت تستبد بكتاباتهم وتحكم وعيهم، وهذا هو العطب القاتل في معظم هذه الكتابات.
فليست المشكلة في الكم الذي يُصدره هذا الشاعر أو ذاك من دواوين، أو ينشره من نصوص أو قصائد بالحري. بل إن الأمر يتعلق بالانتماء الحداثي لزمن الكتابة، وليس بالانتماء الشفاهي للحداثة. أي بالانتماء لعصر حديث بوعي قديم.
فالقلة النادرة من الشعراء المغاربة الذين وعوا الكتابة، ومارسوها شعريا، هم الذين يكتبون أعمالا اليوم، ويعطون الصفحة دوراً كبيراً في تلقي النص وقراءته.
في هذه التجارب تحديدا يبدو مفهوم النص، كما هجست به التصورات النقدية الحديثة، أكثر تبدِّيا وحضورا. وأصبح مفهوم الحداثة أكثر وضوحا فيما يكتبونه.
بعكس تلك الحداثات المعطوبة التي لم تغادر قدامتها، أو في أقصي الحالات ذهبت لتتخفّي وراء ما يسمي خطأ اليوم بـ قصيدة النثر . أو ما سيذهب البعض، دون وعي بالمزالق، إلي تسميته بـ ما بعد الحداثة .
-6-
في تصوري، وفي ضوء ما أشرت إليه من قبل، فالكتابة ضيَّعَت قارئها، وبددته. فذلك القارئ الذي كان يلج ليل الشعر مسيَّجاً بأضواء كاشفة، هي ما رسَّخَته القصيدة من وزن وقافية، وتكرارات متوالية حكمت بنية القصيدة، لم يعد، وهو في مواجهة الصفحة، قادراً علي ولوج هذا الضوء القوي الذي يُعْشي الإبصار التي ألِفَت أضواء الشُّعَل المُعْتِمة. فما كان دالا أكبر، في القصيدة، أعني الوزن، سيصبح في الكتابة أحد العناصر المُبَنْينَة للنص، أي أحد المكونات، وليس مكوِّنا ً سيداً أو مستبدا. فالإيقاع كأحد دوالِّ الكتابة، وليس دالَّها الأكبر، كما هجست بذلك إحدى النظريات الغربية في الشعرية المعاصرة، أصبح أكثر قدرة علي استبدال مواقعه، وتغيير المجري بطريقة لم يعد معها القارئ بقادر علي استيعاب ما يحدث.
ولعل هذه بعض أسباب نفور هذا القارئ من الشعر لأنه لم يعد يستجيب لانتظاراته، أو لتوقعاته بالأحرى.
-7-
كيف إذن، يمكن الحديث عن حضور الشعر في لقاءات، مادام الوضع الجديد أصبح يفرض مواجهة النص مكتوباً.
هناك شعراء كتاباتهم شفاهية، أو محكومة ببنيات القصيدة، هم الذين نجدهم اليوم يُقبلون علي هذا النوع من الحضور الشفاهي، لأنهم لا يستجيبون إلا لشرط وعيهم، ولما تتسم به كتاباتهم من شروط مازالت تسكن في نسيانها.
أذكر هنا/ سان جان بيرس، الذي رفض أن يقرأ شعره لأنه شعر مكتوب، أو شعر كتابة بالأحرى. كما أتساءل في نفس الوقت، كيف سيكون وضع أدونيس، إذا اختار أن يقرأ مقاطع من الكتاب.. فماذا سيكون مآل حواشيه وهوامشه.. وتلك الإحالات التي تَحَفُّ الصفحة من كل جوانبها. هو نفس ما يمكن أن أقوله بالنسبة لقاسم حدّاد في كتابه أخبار المجنون. إن الشعر اليوم أصبح يُكتب بغير ما كان من وسائط ومعايير قديمة. أصبح ينتمي فعلا إلي حداثة الكتابة، ولم تعد الحداثة مظهراً أو شعاراً، بل إنها، شعريا، حملت معناها، وصارت ممارسة وتجسُّداً.
-8-
ما خسرته حداثة الكتابة، هو قارئها. لكنها في تصوري خسارة آنية غير دائمة. لأن الكتابة ستعمل، مثلما عمل ما سمي بـ الشعر الحر ، علي إعادة تربية قارئها ووضعه في مجري تياراتها المختلفة. وهذا الفقدان هو ما أسميه هنا بصدمة الكتابة. وهي الصدمة التي نقلت وضع الكتابة الشعرية إلي ما سميتُه في كتاب مشايق الكتابة.. بـ ما بعد القصيدة.
-9-
إن ما بعد القصيدة، أو صدمة الكتابة، هي شرط بدون وعي مقترحاته، لا يمكن أبداً، وعي تحولات الحداثة ذاتها.
فالوعي بهذا الشرط، هو وعي بالانقلابات الكبرى التي حدثت في النص الشعري، وبالقلب المعرفي أو الشعري الكبير الذي حدث في الكتابة الشعرية المعاصرة. هذا الشرط الذي مازال النقد، ومازالت حتي الجمعيات والمؤسسات المنتسبة حرجاً للثقافة، لم تَعِهِ، أو مازالت بالأحرى، تعيد في ما قبله، أي في ما قبل الحداثة ذاتها.
إننا في لحظة صدمة جديدة، الوعيُ بها، هو شرط للوعي بما تجرّه خلفها من خسارات ومآزق. وهذا في تصوري ما يفسِّر هذه الوفرة من الدواوين الشعرية التي صدرت مؤخرا في المغرب.. وهي كتابات حكمت علي نفسها بالولادة في الموت، أو هي بالأحرى وُلدَت ميتة. فمن يملك الحياة إذن...
القدس العربي
2004/05/31