صلاح بوسريف
(المغرب)

صلاح بوسريف... أيها الليل آوني إلى جبل عار
لأنحت صورتي وصوتي
على أحجاره ومغاوره

ـ 1 ـ

منذ الديوان الاول، عمل محمد السرغيني علي تغيير مسار كتابة، كان قبل، معنيا فيها بما يقع خارج الشعر. لم يكن الشعر أولا، بل غيره، مما ستعمل تجربة هذا الشاعر فيما بعد، علي تجاوزه بطريقة لم يعد النص فيها هو ذاته.

في أعلي قمم الاحتيال يؤكد محمد السرغيني اختياره الشعري الذي يسير في غير مسار شعريات دأبت علي حفظ النمط، أو بعض تبدياته كما رسختها القصيدة باعتبارها نموذجا أعلي، أو أول!
فالديوان، كتاب واحد. نص يواصل سيره رغم ما قد يبدو من تقطعات تحدث بفعل بعض العناوين والأرقام والحواشي. حتي الجزء المكتوب باللغة الفرنسية، فهو يسير دلالة، وحتى معجما في نفس سياق النص.
تحتل الرسوم (1) صفحات مستقلة، لا تتداخل مع النص أو تتقاطع معه بالأحرى، فهي ربما تحاول أن تكون تعبيرا عن طبيعة المعني الذي يحاول النص أن يقاربه، شظايا وبقايا أشياء وانكسارات تشي بما طال المكان، من خراب، وطمس لمعالم تاريخية وحضارية.. ما تزال الذاكرة تختزن بعض تلاشياتها. أو هي، بالأحرى، تحاول أن تقدم نفسها كـ نصوص مستقلة . أو قراءة أخري لذات المكان.
لا يسير الكتاب في اتجاه خطي graphique واحــد فهو يخرج علي التوزيع الخطي العمودي الذي درجت تجربة قصيدة الحداثة علي السير فيه، بل نوع مسار انحناءاته، كما نوع أحجام الحروف التي ستختلف بين المتن والحاشية، علما أن الحواشي هي متن وليست حواش بالمعني الذي يجعلها هامشا، ناهيك عن الصفحتين (42 ـ 43) المكتوبتين بالفرنسية .
ثمة خروج علي التوزيع الشعري العمودي الذي كان سائدا، ومازال، في تجارب عربية مختلفة، وهو ما يسمح بفتح الصفحة علي احتمالات لم تكن متاحة من قبل. فأفق الكتابة Ecriture يتبدي إذن، من خلال هذا الاستثمار المقصود للبياض، ولما يجعل النص عمقا يضاعف من دلالاته التي لم تعد تكتفي بالمكتوب فقط.

تتكثر الدوال في النص، ما يعني أننا بصدد كتابة تعطي المكتوب دور فاعل شعري، كان من قبل، مؤجلا أو منسيا بالأحرى.

ـ 2 ـ


ليس غريبا أن يختار النص هذا التكثر، فطبيعة اللحظة التي تقاربها تجربة السرغيني في الديوان تجعل من المكان فضاء لاشتغالها، وهو ما سيعكس علي الصفحة كما سينعكس علي الرؤية ذاتها.
المتأمل في النص، سيضع يده علي مدونات يتقاطع فيها التاريخ مع الأسطورة، كما تتقاطع فيها كتابات تنتمي إلي أجناس أدبية لا تحصر نفسها في نطاق الشعر، بالمعني الذي يجعل الشعر جنسا مغلقا، أو مكتفيا بذاته.
وهذا ما يجعل من مسألة التحديد الاجناسي هنا تنتفي، حيث النص يبقي منشرحا، ديناميا ومفتوحا أو مقيما في الشعر كجنس جامع للأنواع علي حد تعبير جنيت.

ـ 3 ـ

لا يتنازل السرغيني عن الإيقاع. بل يتمسك به كاختيار شعري تفرضه طبيعة الخطاب. والإيقاع هنا، هو نوع من الاستثمار الشعري للغة، بالمعني الذي يجعل اللغة تفشي طاقاتها كاملة. لا نثر ولا نظم، بل اللغة وهي تعيد بناء وترها.
فالوزن الذي كان شرطـــاً متعاليا في تحديد شعرية النص لم يعد كــذلك، لأن النص اختار فتح أفقه الجمالي علي تكثرات دواله.

فحتى البياض الذي كان منطويا علي فراغاته، أصبح، في وضع الكتابة، أحد هذه الدوال البانية لإيقاع النص، وتجاهله لا يساعد علي ترميم تشققاته.
الاستعمالات الدارجة التي تَنْتَثِرُ في ثنايا الجمل، لا تشد عن القاعدة، بل تضاعف من إيقاع النص، لأنها لا تبدو مقحمة أو موضوعة في غير مكانها، بل إنها، بوجودها، في السياق الذي وضعت فيه، تصبح أكثر شعرية أو فرحا بوضعها الجديد.
هذا الزواج الذي أقدم عليه محمد السرغيني بين لغات مختلفة جاء استجابة لما يحفل به المكان من تناقضات لا تطال الأثر فقط، بل تغزو اللسان الذي يحتفي، هو الآخر، بتكثرات نداءاته.
ألم يفعل أدونيس هذا، عندما كتب عن مدينة فاس منصتا هو الآخر لرهافة خطاباتها.
ستضَارُ الكتابة هذا النوع من المواجهة الذي لم يعد معه الإيقاع يتحدد وفق منظور واحد مخنوق. فالنص، وهو ينكتب يضع اليد أمام كلام يتشَّكَل إبان لحظة الكتابة وليس قبلها. ففاسك التي يقاربها النص هي فضاء سيرة ذات تعيد تخيل أوضاع كانت في لحظة ما تتيح لهذه الذات أن تمرح في مرارتها أو تسير علي وتر إغفاءاتها الملأى بحنين نداءات صارت في عداد المفقود.
فنحن بصدد إيقاع يحدث بفعل تماس الجسد، أو ارتطامه بشتى نداءاته، وهو إيقاع يغير نظامه باستمرار.
ولعل في آخر النص رائحة الأصوات ما يشي ببعض هذا التغير. نقرأ في هذا المقطع من النص :

ألا ليتهم عَلَّبوا الصوت في باقة زجاج ورصعوا
صداه المشاغب فوق رؤوس المآذن ! شيء من
الخزف الفارسي، وتبني اللغات من الخزّ والكلمات
العوانس. مَنْ سوف يملأ أمعاءها بالتوابل (ص88)

فـ الصوت المعياري كما يسميه الشاعر ذاته، لم يعد وحده يكفي لالتقاط ما يحفل به الوجود من أصوات وإيقاعات، هي ذاتها ما سينعكس علي الكتابة، أو تعكسه الكتابة وهي تكتب نبض وترها خارج كل التعاليات التي ظلت القصيدة تبني بها رؤيتها للصوت فقط.
أليس للصوت روائح.
أستعيد هنا ابن الفارض، كما أستعيد بعض أصدقائه المتصوفة الذين أعادوا رؤية العالم، بإعادة قلب. كيفية النظر إليه، أي بقلب وظائف الحواس التي كانت تفعل غير ما دَرَجَت العادة علي نسبته لها.
فالأذن ترى. والعين تسمع (2)... هذا ما جعل الرؤية تتسع رغم ما في العبارة من ضيق.

ـ 4 ـ


إن كثافة النص وامتلاءه، جعلا أفقه الدلالي يتلبد أكثر وجعلا اللغة في تركيباتها وفي معجمها أيضا تضاعف هذا الغموض الذي لم يعد حل بعض شفراته إلا باختراق المعرفة الشعرية التي بها يبني النص (موضوعه)، وهي معرفة يتداخل فيها التاريخي بالفلسفي والصوفي بالدنيوي إذا شئنا.. وكذلك باختراق نظام الخطاب بتعبير فوكو.
فالسرغيني ليس شاعرا يكتب برأسمال اللغة مصدر ثرائه الوحيد. فهو يخوض المعرفة الشعرية بكل ما تمثله من امتدادات في غيرها من حقول المعرفة الإنسانية.
والنص هو نوع من الاحتيال علي معارف شتي واستثمار ما تتيحه من إمكانات لأجل بناء خطاب لا يكتفي بالمعطي والمتاح، بل يذهب إلي أقصي ما في الريح من نزوات. ففاس التي يخوض النص تاريخها. هي غير فاس التي دأبت كتب التاريخ علي رسم حدود انتساباتها. فهي فاس الشظايا، فاس الألوان والظلال، فاس السراديب والتصدعات، أو هي فاس المحور والتلاشي les ruines كما يقول الشاعر نفسُه في المقطع المكتوب باللغة ذاتها.
فاللغة تبني نظامها في النص، أو الخطاب بالأحرى، بما سميناه الاحتيال مستعيرين الكلمة من عنوان الديوان، لأن هذه الدّوال، وغيرها تحدث في الخطاب متفرقة، أو كعلامات طريق تُفضي إلي بعضها، دون أن تحدد اتجاه سيرها.
علامات تخفي أكثر مما تبين، وتُعتم بدل أن تضيء. وهذا ما يزيد من محن القارئ، ويضاعف بالتالي من مشقات سفره.
هكذا تبني الكتابة نظام خطابها. محو يليه محو، وامتلاء لا يفضي إلا إلي فراغ. هذا ما يبرر اختيارنا لعنوان هذه المقاربة le non dit des ruines فما لا يقال، ما لا تكشفه العلامات.
ما يبقي منطويا علي ذاته، ما لا يتكشّف دفعة واحدة، هو ما يحتمي به النص، أو يتخذه وسيلة تعبير عن طبيعة المحو الذي طال المكان. وما أصابه من تلاشيات.
وكان ما حدث، وما طال المدينة من احتيال انطوي علي ذاته، وعلي أسراره، وهو الانطواء الذي يشير إلي حدوث شيء ما، لكن الشيء الحادث يبقي طي كتمان النص، كما يبقي طي كتمان ما تبقي من رسوم وآثار، كان النص، عبر الكتاب كاملا، يشير إلي بعض ذبذباتها، ويترك للقارئ مواصلة السفر.

ـ 5 ـ

يفرض هذا النص علي قارئه أن يقبل عليه بدليل Guide فالسياحة فيه تفرض وجود خرائط ومؤشرات تساعد علي فك بعض ما فيه من أسماء ترتبط بالمكان.
فالنص يشبه المكان. التواءات. صعود وهبوط، مضايق واكتظاظ يفرض علي القارئ أن يحذر مطبات الضياع، وهذا ما يحدث حتي للعارفين بالمكان. فماذا سيكون وضع من يقبل علي نصوص الكتابة، وهو مازال يعيش زمن القصيدة، أو ضوءها المفرط في عتماته :

"زليج منقوش في السطح وهامات فارغة
في العمق (ص83).

ـ 6 ـ

جاء في تجريب الخبرة :

لم يبق ورديا في عيني. تفتَّتْ. يا هذا !
ما في الصورة شيء يغري باستعراض كمال الجسم
أما المرآة. المرآة استوفت من عمري الاول دينا ما طَلَها عمري الثاني في إنجاز ثُمالَته . (ن.ص)

******

الهوامش:


محمد السرغيني، من أعلي قمم الاحتيال، فاس، دار ما بعد الحداثة فاس 2001 (ص 43)
ہ ن. م (ص 87)
1ـ الرسوم للشاعر المغربي رشيد المومني، وهي تدخل ضمن مشروعه في الرسم الذي قدم بعض تبدياته في معرض لـه، ثم أصدر أعمالا أخري ضمن ديوانه مهود السلالة الصادر عن منشورات ما بعد الحداثة بفاس في عام 2002.
2 ـ يعود بي هذا إلي بشار بن بُرد في قولـه المعروف الأذن تعشق قبل العين أحيانا.. صحيح أن بشار كان أعمي. لكن تشكُل ملامح الوجه ووضاءته، بالنسبة لـه، حدث من خلال اختراقات الصوت الذي جعل بشار يري في لمحة صوت صورة وجه أو جسد بدت ارتعاشاته في رهافة هذا الصوت المنبعث من صدي روح لم تتردد في إيقاظ فتن الشاعر وفتح عينيه علي لحظة ضوء لا أحد أدركها قبله.
كما يعود بي هذا إلي بودلير رغم فرق المسافة. والي الأذن التي تبصر عندSerge Pey.


القدس العربي- 2004/05/14