I
لا يكاد يمرّ عام إلا ويحظي دارس قصيدة النثر العربية المعاصرة بحفنة، وإنْ محدودة للغاية، من المجموعات الشعرية المتميّزة التي تعينه علي واجب - وربما مشاقّ!- مصالحة القارئ العربي العريض مع هذا النمط الخاصّ في الكتابة الشعرية، ومناقشة المزيد من الخصائص النَصّية المعقدة لقصيدة لا تصل بسهولة لأنها لا تُسلم قيادها بسهولة، علي عكس ما تبدو عليه في نظر الغالبية الساحقة من قرّاء الشعر العرب.
وإذا كان ذلك الدارس موزّعاً، في الأساس، بين انحياز صريح لجماليات هذه القصيدة وخصائصها الأسلوبية وشعرياتها، وإدراك - صريح بدوره - لعواقب وصول بعض نماذجها إلي القارئ علي نحو شائه وقاصر وهزيل وفاقد للشعر وللشعرية في آن معاً؛ فإنّ صدور مجموعة شعرية تتّسم بقدر عال من اكتمال معادلاتها الفنية يُعدّ حدثاً سعيداً بالمعني الذرائعي النفعي: بمعني تربوي - جمالي يخصّ التحرّش بالذائقة الراسخة أوّلاً، وبمعني نقدي ـ تطبيقي ينطوي علي تسليح الدارس بمادّة ذات سويّة رفيعة تسمح بإدارة حوار مع القارئ... حوار ذي سويّة رفيعة أيضاً. ومجموعة الشاعرة اللبنانية عناية جابر، (ثمّ إنني مشغولة) (*)، هي من تلك الحفنة، ولعلها بين أفضل مجموعات قصيدة النثر العربية للعام.2000
وأغلب الظنّ أنّ جابر ليست، ولم تكن في أيّ يوم ربما، معنيّة بهذا التفصيل. ذلك لأنّ مسألة كهذه تخصّ الدارس وليس الشاعر من حيث المبدأ، إذْ لا نعرف شاعراً حقيقياً يكتب بيدٍ ويتفقد باليد الأخرى دفتر الشروط الفنية للذائقة السائدة أو لأيّة ذائقة مسبقة في الواقع. وهي، ثانياً، مسألة نقدية ـ تربوية تالية علي الكتابة الشعرية وليست سابقة لها، وبعض جوهر وظيفة النقد إنما يكمن في تقريب الهوّة بين الذائقة العامّة والعمل الإبداعي الحقّ الذي قد يضطرّ إلي استباق أعراف القراءة، والإنفراد عنها، والتمرّد عليها. صحيح أنّ الذائقة السائدة طاغية متجبرة في طبيعتها، ولكن من الصحيح أيضاً أنّ النقد الفاعل مُلزَم بالإنحياز إلي حقّ العمل الإبداعي الطليعي في الإنشقاق والطغيان والتجبّر بدوره، ومُلزَم في الآن ذاته بممارسة أقصي نشاط تطبيقي ممكن من أجل تربية القارئ علي سلوكيات استقبال (ديمقراطية) تكفل تعايش قطبَي التجبّر، دون خسائر فادحة.
لكنّ جابر غير معنيّة بالتفصيل ذاك لسبب ثالث أكثر بساطة ولكنه أشدّ أهمية: أنها هكذا تري الشعر، وهكذا تكتبه... عن سابق تصميم وتصوّر وتخطيط دون ريب، ولكن ليس عن سابق تواطؤ ساعٍ إلي مصالحة قصيدة النثر والقارئ العربي العريض. في عبارة أخري تبدو قصيدتها، خصوصاً في المجموعتَين الأخيرتَين، وكأنها لا تستدعي الكثير من الأسئلة حول انبناء الشكل واستواء الإيقاع، وهذان هما في رأس كبري المعضلات التكوينية التي تعرقل وصول قصيدة النثر علي نحو يماثل، أو هو قريب نسبياً من، وصول قصيدة العمود أو التفعيلة.
إنها قصيدة مشبعة بشكلها الخاصّ الذي يعتمد علي النَمْنَمة، والتراصّ الشديد، والإيجاز، والتقطيع البارع للسطر الشعري، واستخدام (القفلة) الذكية التي تمزج بين الخاتمة الدلالية والخاتمة الصوتية في آن معاً. وهي قصيدة مشبعة بإيقاعها الخاصّ، الذي قد يأخذ تارة صيغة الإيحاء الشديد بـ (حسّ الإيقاع)، اعتماداً علي التكرار والقَطْع وائتلاف الحروف والأصوات وأقسام الجملة؛ وتأخذ طوراً صيغة (الاقتصاد المقطعي) الذي يقترب من تحويل السطر الشعري إلي نوع من الهمهمة الهامسة، أو التمتمة الخفيضة، أو الدندنة الصامتة ربما.
في قصيدة (الوقت الذي لا يلتفت) تقول جابر:
الوقت
لتشبك يديك علي ردفيَّ
الوقت اللازم
لاشتعالات بيضاء
تفتح نوافذ
لا شباب لها.
الوقت الذي لا يلتفت
العجوز الحديدي
الملوَّح بالملح.
وهي نموذج ينطوي علي معظم الخصائص الشكلية والإيقاعية المشار إليها أعلاه، وبينها مثلاً:
ـ دينامية التكرار المتغاير في (الوقت/الوقت اللازم/الوقت الذي لا يلتفت)؛
ـ التواتر التشكيلي في ائتلاف حرف اللام علي امتداد القصيدة، وحرفَيْ اللام والشين في المقطع الأوّل، وحرفَيْ الألف واللام في المقطع الثاني؛
ـ التناغم الصوتي الخفيّ بين اللام والشين رغم وجود حرف ثالث فاصل، في: (لتشبك)، (لاشتعالات) و(لاشباب)؛
ـ هندسة عدد الكلمات في السطر الواحد، والتي تسير هكذا:
/14//2/2/2/24/2/2، وتصنع عمارة إيقاعية متتالية ومتغايرة؛
ـ وهي هندسة تنحو إلي الاقتصاد في مستوي أوّل، ولكنها في الآن ذاته تسعي إلي (امتلاء) بالباطني المحذوف، لأنّ ما حُذف من أقسام الجملة سوف يتردد علي الأرجح في باطن أيّة قراءة غير جهرية، وسوف يشارك مباشرة في (استبطان) إيقاع من نوع ما. وإنّ قيام القارئ بإعادة توزيع هذه القصيدة يمكن أن يسفر عن اقتراح استرداد الأقسام المحذوفة، المحصورة هنا بين معقفات:
غإنهف، غهوف الوقت غاللازمف
لتشبك يديك علي ردفيّ
غإنهف، غهوف الوقت اللازم
لاشتعالات بيضاء
تفتح نوافذ
لا شباب لها.
غإنهف، غهوف الوقت غاللازمف الذي لا يلتفت
غإنهف، غهوف، غالوقتف العجوز الحديدي
غإنهف، غهوف، غالوقتف الملوَّح بالملح.
والأرجح أنّ هذه الأقسام (المسترَدّة ضمناً، في القراءة الصامتة تحديداً) لا تصنع إيقاعات خاصة ناجمة عن التكرار فحسب، بل هي في الآن ذاته تشذّب التخطيط الإيقاعي الأمّ حين توحي بما حُذف من مادته الخامّ، وحين تشدّد تالياً علي فضيلة اقتصاد الجملة.
هذه، بالطبع، اعتبارات تخصّ الشكل. ولكنها لا تتوقف عند الشكل وحده في الواقع، ولعلها بين أمضي أسلحة قصيدة النثر علي المستوي البلاغي أوّلاً، وعلي مستوي التعويض/ الإشباع الموسيقي ثانياً، وعلي المستوي الدلالي وحركة المعني في جسم القصيدة ثالثاً. وليس مصادفة أنّ السطرَين الثاني والسابع من القصيدة يتشابهان في عدد الكلمات، ويختلفان في التركيب النحوي والبُنية المقطعية (وهذا إجراء إيقاعي في الجوهر)، ولكنهما ينفردان عن السطور الأخرى في حمل الشحنتَين الأكثر أهمية في مجموع معاني القصيدة (وهذا إجراء إيقاعي ودلالي في آن معاً).
ثمة اقتصاد من نوع آخر، علي صعيد المجاز والصورة ونطاق التخييل. الوقت هو الاستعارة المركزية، التي تتوالد عنها استعارات متكئة علي المجرّد تارة (الوقت الذي لا يلتفت، نوافذ لا شباب لها، الملوّح بالملح) أو إلي المحسوس (ردفيّ، نوافذ، الحديدي، الملح) والمحسوس ـ المجرّد طوراً (اشتعالات بيضاء، العجوز الحديدي، الملوّح بالملح). لكنّ هذه التنويعات المتغايرة تظلّ مرتبطة باستعارة الوقت المركزية، أو هي تبدو أقرب إلي الأصداء التي تردّد الصوت الأوّل، تضخّم رنينه ونبرته وشدّته دون أن تكرّره مرّة واحدة، ودون أن تنفكّ تماماً عن مكوّناته.
وقصائد عناية جابر حافلة بهذا المزج التصويري الطليق بين المجرّد والمحسوس، المشروط مع ذلك بانتخاب مجمل عناصره التكوينية من مستويات التجربة اليومية. وخيار (الانتخاب) هنا ليس سوي تتويج لعمليات اشتغال واعية تستهدف (غربلة) النثر اليومي، وشَعْرَنة التفصيل المشاع، والارتقاء بالمحسوس إلي سويّة المجاز، والهبوط بالمجرّد إلي مستوي المادّة الصلبة. إنها تتحدث عن (بياض يُفزع الأفق)، و(لَوْم يُنحّي)، و(شجن يتوقف هنيهات علي باب روحي)، و(توق سائل يجتاح جلدي)، و(حطام عائم) و(شؤون أفسدت الزبد)، و...(أجمع سريراً ليلياً لنشوتي)!
وهكذا فإنّ قصيدة (الوقت الذي لا يلتفت) نموذج واحد من عشرات النماذج المكتملة التي قدّمتها قصيدة النثر العربية المعاصرة، وهي النماذج التي يمكن أن تلعب دوراً حيوياً للغاية في أيّ جهد تربوي ـ تعليمي (علي صعيد مناهج تدريس الأدب العربي الحديث) أو نقدي ـ تطبيقي يسعي إلي هدي الذائقة الشابة إلي نمط في الكتابة الشعرية لم يعد من المقبول تركه لقارئ النخبة، ومن السخف أنّ يظلّ رهين صفّ الأقلية... هو الذي يمثّل الأكثرية، وبامتياز أيضاً.
II
تضمّ مجموعة (ثم إنني مشغولة) 63 قصيدة، تمتدّ علي 118 صفحة. القصائد، بذلك، قصيرة إجمالاً أو متوسطة، وأطول القصائد لا تزيد عن 27 سطراً. الشكل المتراصّ، واجتراح جملة إيقاعية متينة، والاقتصاد العامّ في التعبير والمجاز وتوزيع الكمّ الخطابي، هي اعتبارات أولي تفسّر هذا الميل إلي كتابة قصيدة قصيرة، وهي في كلّ حال سمة مركزية في معظم مجموعات عناية جابر، خصوصاً الثلاث الأخيرة منها.
غير أنّ للأمر وجهه الآخر الذي يتّصل بطبيعة موضوعات القصائد، وما إذا كانت تستدعي بالضرورة هذا التقشّف الخطابي بالذات، اللائق وحده بالتقاط تلك البرهة المنتقاة بعناية، الإشراق الوضاءة حدّ التوهّج، والبارقة الكثيفة التي تنهض عليها القصائد، خصوصاً وأنّ جابر لا تُعني كثيراً ــ بل لا تُعني نهائياً في عدد كبير من النماذج ــ بوصف المكان، أو استحضار الزمان، أو تركيب مشهدية مادية ساكنة مستمدة من عناصر العالم الخارجي. عالمها، باستثناء عدد قليل من القصائد، قائم علي بُنية حوارية تضمّ ذاتها الناطقة (ضمير الـ (أنا) المؤنّث الصريح)، والآخر المخاطب (ضمير الـ (أنت) عموماً)، هذا الذي يندر أن تمنحه فرصة النطق بنفسه عن نفسه!
ثمة هيمنة أنثوية، إذاً، ولكنها تلك الهيمنة المتحرّرة تماماً من أقصيَين:
السطوة النسوية، والغطرسة العاطفية. (آخَر) عناية جابر ليس ضعيفاً وليس مستضعفاً، بل لعلّ أكثر القصائد جمالاً هي تلك التي يبدو فيها التوازن في الضعف (وربما الشراكة المتساوية في الخضوع للشرط العاطفي) مادّة وحيدة صانعة للحوار، ومادّة حيّة كفيلة بمَدّه بأسباب الحياة، وبإبقائه معلّقاً عند برهة التأزّم أيضاً. وفي قصيدة (أن تقفل بابك) تقول جابر:
لن تجد حجراً
تسدّ به ضوء القمر
أن تقفل بابك لن أنسي
أنني يتيمة
أكثر هزالاً
من ساق عشبة
إنْ لم تفتح هذا الطين
سأرحل
خطواتي المجنونة
تسندها
زحمة الهواء (...)
أنثي مهيمنة إذاً، ولكنها تحاور وتحكي وتحلم بنبرة هادئة، بل مدهشة في هدوئها، خصوصاً حين تكون حصيلة الأفكار التي تحشدها السطور الشعرية أدعي إلي الصخب والسخط والعنف. هي هادئة لا بمعني رزانة التماس الفكر في الشعر فحسب، بل بمعني الوقوف موقف الأنثى المستعلية علي إقحام التأمّل الميتافيزيقي الثقيل علي شعر شفيف منمنم متخفّف من تكلّف الفكر، وبمعني الوقوف موقف الأنثى المتعالية عن انزلاق الشعر بعيداً عن حصّة ــ محسوبة بميزان الذهب ــ من ضرورات التأمّل الوجودي العميق... في آن.
ولكنها (مشغولة) كما تقول في العنوان! تحزن وتفرح وتنتشي وتكتئب وتعابث، لا تعفّ حياء عن إعلان غَنَج أنثوي دمث ورقيق وإيروسي دفعة واحدة (كما حين تقول في قصيدة (أنفض النمش عن كتفي): (حذاء برباطين مفكوكين/ وهواء كثير/ يهدّد تنورتي الواسعة، وقبعتي/ لمّا شريط حمّالة النهدين/ الذي ينزلق دوماً/ لا يزعجني/ كلما أرخيتُ حِملاً/ ونفضت النمش/ عن كتفي)). وهي مشغولة لأنها، أيضاً، أنثي ساخرة، رواقية المزاج، عابثة قليلاً، وذات لسان لاذع: (هل فاتك أنني/ لئيمة/ هزيلة/ أدخّن كثيراً/ ولا يعجبني أحد). وهي مشغولة، ثالثاً، لأنها (جسد كثيف غير قابل للإستبدال)، و(رأس متشكك/ ينظر إلي الأرض/ تنهض السطور/ إليه). ويحدث غالباً أن تنقلب خطوط الإنشغال هذه إلي مناوشة ضاحكة مع هموم كبري تصلح ــ في سياقات أخري، مع شاعرات وشعراء آخرين ــ للتصنيف المباشر في خانة التفلسف من العيار الثقيل!
عناية جابر لا تتفلسف، ومع ذلك ثمة اختراقات استثنائية في تحقيق تلك العلاقة الرؤيوية الفريدة بأشياء العالم المادّي، علي ندرة التقاط القصائد لمشهدية مادية خارجية ساكنة. وثمة رؤى تنفذ إلي قيعان النفس الأعمق هنا وهناك، تمسّ وتهزّ وتشحذ وتربك... ولكنها في الأحوال جميعها تخرق وتخترق. (قصيدة (الوقت الذي لا يلتفت) هي بين أفضل نماذج تحقيق هذه التمارين الرؤيوية). ولكي تكتمل معادلة معقدة كهذه، تصدر عن أنثي (مشغولة) علي هذا النحو، لا بدّ من قسوة قصوى في اجتثاث التفجّع العاطفي الأنثوي، التقليدي الكلاسيكي، أي: الزائف إجمالاً وغالباً. هذه القسوة القصوى ليست جديدة في نتاج جابر بالطبع، لكنها هنا ترتدي طابعاً وظيفياً خاصّاً يسند إلحاح القصائد علي الاقتصاد والإيجاز والتكثيف، ويسبغ طابع الانسجام العضوي العريض علي موضوعات القصائد، قبل أن يصنع بصمة خاصّة فارقة تطبع المجموعة بأسرها ختاماً، وربما في المقام الأوّل.
ومخيّلة عناية جابر تعمل علي نحو أكثر دينامية وفتنة واجتذاباً في القصائد التي تقيم رابطة متبادلة بين المألوف والفائق، الحلم واليقظة، المرارة والسخرية، والباطن والظاهر؛ وبين هذه كلّها وتلك النقلة المباغتة التي تعيد تركيب المزيج الشعوري بأسره علي نحو كثيف شديد الإيجاز. ويحدث غالباً أن تلعب مفردة واحدة، أو استعارة مفاجئة، دور ضربة تنبيه عنيفة تُخرج القارئ من سياق الاسترسال السلس، وتضعه مباشرة في قلب عملية إعادة التركيب تلك، دون أن تلزمه بقاعدة محددة في (تفسير) ما يطرأ وما يتوجّب تركيبه ومزجه من جديد. هذه حال مفردة (حيوانك)، والمزيج الإستعاري (حيوانك الطريف ـ رائحته الغريبة)، في قصيدة (حيوانك الطريف):
تتأخّر إلي هذا الحدّ
وتكتب الآن لتقول
إنك لن تحضر
أشبه شجرة
بلا أوراق
لن تحضر
قصائدي بردت
حبرها الرطب
باذخ الثقل بركبتين واهنتين
لن تحضر
ملاحظة لم تجرؤ علي المضيّ
رغم حيوانك الطريف
ورائحته الغريبة.
وإنّ هذا المزج الذي يجمع أكثر من بُنية شعورية، هذه الفوضى المدروسة إذا صحّ القول، هي التي تصنع منظور العمق البعيد في جسم القصيدة، التي ينبغي أن نتذكّر دائماً أنها قصيرة كثيفة متراصة، وأنها عازفة إجمالاً عن التهويل الدرامي وتضخيم المشاعر ودغدغة الهواجس والجموح العاطفي. وهو منظور أشبه بـ (مسرح الروح)، حيث النفس تؤدّي وتمثّل وتتحرّك، تخرج من بقعة ضوء إلي بقعة عتمة، تدنو أو تنأي من عمق القاعة (القارئ، الذائقة، الكليشيه المألوف...)، وتنخرط علي الدوام في دائرة متصلة من إنتاج الأمل واليأس والفزع والسكينة والخيبة والرجاء والخضوع والتعالي.
وكما في مجموعاتها الثلاث الأخيرة، لا تبدو عناية جابر وكأنّ (أسئلة الحداثة) تؤرّقها! إنها، ببساطة، تكتب شعراً لا يمكن إلا أن يكون حديثاً وحداثياً، بفضيلة موضوعاته وأشكاله وخياراته الأسلوبية، وليس بـ (فضيلة) أيّ نوع من الألعاب الشكلانية ـ الاستعراضية. وشعريتها العالية، التي حاولت السطور السابقة تلمّس بعض خصائصها، إنما تتألّق أكثر، وتتضح وترتقي وتأسر، حين يكون (التواضع الحداثي) علي أشدّه: أي حين يكون الانتساب الحداثي الحقّ قد بلغ أصدق مستوياته!
III
في تعليق سابق علي مجموعتها الرابعة (أستعدّ للعشاء)، أتيح لي أن أقول إنّ عناية جابر حاضرة في جميع قصائدها لأنها الناطقة التي تقول، والراوية التي تبصر وتصف وتعشق وتتعب وتحلم، عنها تتحدث القصائد، وبمشاركتها تجري الحكايات. كذلك قلت إنّ هذا التمثيل الذاتي (ولعلّي أقول اليوم: (سياسة الذات) هذه) هي حصيلة نفس مشاعية حاضرة بقوّة في عوالم تتقدّم منظوراتها مشاعياً، وما نفتقر إليه في شعر جابر (وهو يظلّ، اليوم أيضاً، نوعاً محبّباً من الافتقار!) ليس سوي تلك الذات النرجسية المعذَّبة العواطف، والذات الأنثوية السائلة الأحزان، والذات العاشقة التي تذرف الدموع مدرارة! ولعلّ أكثر ما يمسّ الشغاف في قصائد جابر هو تقلّبات وأطوار وانكشافات الذات الأخرى، السعيدة بشقائها والشقيّة بسعادتها لأنها ذات إنسانية فحسب، في الحالتين، من الرأس حتي أخمص القدمين.
المجموعة الخامسة الجديدة هذه تواصل الخيارات ذاتها، علي نحو أكثر صفاء ونضجاً واكتمالاً و... أكثر عزاءً لدارس قصيدة النثر العربية المعاصرة، المنحاز إلي جمالياتها الجبارة الحقّة، المشفق علي تكاثر نماذجها الرديئة الهزيلة! وقصائد (ثمّ إنني مشغولة) لا تكتفي بتسليح هذا الدارس وإعانته فحسب، بل هي تنخرط بقوّة وعمق في ثلاثة إسهامات جوهرية: السير خطوة أخري كبيرة علي طريق تطوير قصيدة النثر اللبنانية، التي كانت وتظلّ معياراً مركزياً في قياس صعود أو ركود أو هبوط هذا الشكل في الكتابة الشعرية؛ ونقل قصيدة المرأة العربية إلي فضاء جديد أكثر رقيّاً، وأكثر تحريضاً علي مجابهة تحديات المحتوى والشكل ونظرية سزدب المرأة) عموماً؛ والإسهام، أخيراً، في الحركة الأعرض لتجارب تطوير الشعر العربي المعاصر بأسره.
(*) عناية جابر: (ثمّ إنني مشغولة)، رياض الريس للكتب والنشر. بيروت 2000، 041 صفحة. وسبق للشاعرة أن أصدرت المجموعات التالية: (طقس الظلام)، 4199؛ (مزاج خاسر)، 1995؛ (أمور بسيطة)، 1997؛ و(أستعدّ للعشاء)، .1999