I
تسجّل ببليوغرافيا الشعر المغربي صدور 465 مجموعة شعرية بين العام 6391 ومنتصف العام 0002، موزّعة علي العقود الزمنية السبعة كما يلي: عقد الثلاثينيات: مجموعتان؛ عقد الأربعينيات: مجموعتان؛ عقد الخمسينيات: 4 مجموعات؛ عقد الستينيات: 81 مجموعة؛ عقد السبعينيات: 17 مجموعة؛ عقد الثمانينيات: 841 مجموعة؛ عقد التسعينيات: 913 مجموعة؛ منتصف العام 0002: 13 مجموعة. (1)
وبذلك يتضح أنّ التطوّر الملموس في الكمّ بدأ في عقد الستينيات، وتضاعف علي هيئة قفزة كبيرة في عقد السبعينيات، ثمّ واصل تصاعده حتى بلغ نسبة فائقة في عقد التسعينيات. وكما هو معروف، حمل راية الشعر المغربي في الستينيات شعراء من أمثال أحمد المجاطي، محمد الخمار الكنوني، عبد الكريم الطبال، محمد الميموني، محمد السرغيني، أحمد الجوماري، عبد الرفيع الجواهري، وأحمد صبري. الشكل السائد في هذا العقد، أو هذا الجيل إذا جاز التعبير، كان قصيدة التفعيلة إجمالاً، أما الموضوعات فتراوحت بين الهمّ الوطنيّ العامّ والهاجس الوجوديّ الفردي، وظلّت تأثيرات الشعر العربي المشرقيّ حاضرة بقوّة في معظم النصوص.
وعلي الغلاف الأخير لمجموعة أحمد المجاطي المعنونة الفروسية يقول الناشر إنّ رؤيا المجاطي كارثية تصدر عن وعي يعرف أنه مهزوم، ولكن يظل يبحث عن مجالات للصراع لأنه وعي جمعي يمثّل الأمة ويتمثلها، والأمة لا تستقيل ولا تسلّم ولا تستسلم، أمّا القادة، فنعم. لهذا كان الشعر أعمق نزوعاً فلسفياً من التاريخ، لأنّ الشعر يبحث في الممكن والتاريخ في ما كان. وهي رؤيا تصدر عن معرفة محسوسة بالواقع العربي ومدي تهافته، لكنها حين تضخمها الوقائع تعلّق الحكم وتفرّ إلي عالم الجواز: كلّ شيء جائز وكلّ شيء ممكن بعد الهزيمة. عالم الجواز هو عالم التحولات والتساؤلات، وعالم الواقع هو عالم الصراع والهزيمة، وعالم اللغة هو عالم الصور والتراث.
هذه اللغة النقدية الفضفاضة لم تكن في الواقع أكثر من تكملة إيديولوجية لنصّ شعري شاء تحويل ذات الشاعر إلي مرآة إيديولوجية لا تعكس ما هو أبعد من عذابات الهزيمة الوطنية والهمّ العامّ المهيمن، تماماً كما يقول المجاطي في قصيدة بعنوان السقوط :
تلبَسُني الأشياءُ
حين يرحل النهارْ
تلبسني شوارع المدينهْ
أسكنُ في قرارة الكأسِ
أُحيلُ شبحي
مرايا
أرقص في مملكة العرايا
أعشق كلّ هاجسٍ غُفلٍ
وكلّ نزوةٍ
أميرهْ
أبحرُ في الهنيهة الفقيرهْ
أصالحُ الكائن
والممكنَ
والمحالْ
أخرج من دائرة الرفضِ
ومن دائرةِ
السؤالْ (2)
كان محتماً، بالتالي، أن يجد جيل السبعينيات نفسه أمام استحقاق نقل الشعر المغربي خطوة جديدة مختلفة ومتميّزة، لا تقتصر علي تحقيق قفزة في الكمّ فحسب، بل في إنجاز قفزات أخري حاسمة علي صعيد الشكل والموضوعات من جهة، وتأسيس بدايات جدّية لشعريّة مغربية مستقلة ومتميّزة من جهة ثانية. ولن يطول الوقت حتى تتضح معالمها الخاصة، وتستقرّ أكثر فأكثر، وتصبح جزءاً مساهماً في صناعة المشهد الشعري العربي بعد أن كانت جزءاً هامشياً مقلّداً أو تابعاً أو متابعاً في أفضل النماذج. والنتاجات الأولي لشعراء من أمثال محمد بنيس، المهدي أخريف، عبد الله راجع، إدريس الملياني، محمد الأشعري، أحمد بلبداوي، علال الحجام، عبد الله زريقة، وأحمد بنميمون، عكست هواجس الإستقلال والتطوير في آن معاً، وكانت بمثابة مخاض دائب ودائم من التجريب والبحث والاستكشاف. هذا ما نلمسه في المقطع التالي من قصيدة أحمد بلبداوي القصة الكاملة لباب الكبير :
ما إنْ وصلوا غسقاً حتى أوصوا نسوتهم بالطَّرق، تحاملنَ علي أنفسهنّ وحاذرنَ، تردّدنَ طويلاً ثمّ تراجعنَ أخيراً وتنازلنَ لهم فبعولتهنّ أحقُّ. القسمة كانت ضيزي بين أعفّتهم والمُتّخذي أَخْذَانٍ، عادلةً بين ذوات الأحمال ومَن يأجرنَ الأرحام بأعلى من سعر السوق ومَن يأجرن برسم النفع العام، وأعدلَ بين المرضع والمسحاء. أصرّت آنسة لا نصفَ لها. لكنْ إذْ همّت بالطَرق تلفتتِ الحلقةُ وأشاحَ الصوتُ. تقدّم بعلٌ. لامسَ بظرَ الحلقة حتى سال نُحاس الجامور خفيفاَ ثم طَرقَ، انتحبَ الباب قليلاً إذْ كان الطرق علي منهوك الرجز المقطوع. صداهُ تباكي خلف الباب:
مستفحلْ مستفحلْ حِلْ حِلْ حِلْ... (3)
نحن أبعد ما نكون عن مناخات قصيدة المجاطي، ليس في مستوي الشكل الذي يستخدم التفعيلة لكتابة فقرة متّصلة لا تقوم علي التقطيع إلي أسطر فحسب، بل جوهرياً في مستوي اللغة والمجاز والنبرة الساخرة والبنية السردية. وهكذا فإنّ نتاجات شعراء هذا الجيل، خصوصاً الأعمال الأولي، تكتسب أهمية بالغة في أرشيف الشعر المغربي المعاصر، وذلك لسببين مترابطين في يقيني.
السبب الأوّل تاريخيّ ـ أجياليّ، ويتمثّل في أنّ هذه النتاجات كانت حلقة وسيطة ربطت بين جيل الستينيات وجيل الثمانينيات من جانب أوّل، وسعت إلي ــ ثمّ تمكنت بعدئذ من تحقيق ــ أرضية صلبة تتيح درجة متقدّمة من الإستقلال عن طغيان الشعر المشرقيّ من جانب ثان. ولأنّ ممثّلي هذا الجيل لم يفلحوا تماماً، ربما لأنهم لم يرغبوا أساساً، في الإستقلال التامّ عن حركة الشعر العربي، فقد لعبت تجاربهم الشعرية دور المفاتيج الوسيطة إلي حُسن استقبال واستيعاب تجارب أساسية في التيّارات الشعرية الأعرض علي نطاق الوطن العربي. وفي هذا الصدد يقول حسن النجمي، الذي ينتمي إلي جيل الثمانينات، ما يلي: ونحن كجيل جديد في المتن الشعري العربي الحديث بالمغرب لم نقرأ مباشرة أعمال بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني، صلاح عبد الصبور، أدونيس، يوسف الخال، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، سعدي يوسف ومحمد الماغوط مثلاً، إلا بعد أن قرأهم الجيل الشعري السابق لنا. وما أظنّ أننا قرأنا هؤلاء الشعراء العرب الكبار قراءة مغايرة لقراءة شعرائنا المغاربة السابقين. يجب التأكيد علي ذلك (4).
السبب الثاني جماليّ جوهرياً، ويتمثّل في أنّ نتاجات جيل السبعينيات أنجزت قطيعة تامّة مع القصيدة التقليدية في الشكل كما في المحتوي من جانب أوّل، وكانت امتداداً (تفاعلياً أو تناحرياً أحياناً) مع قصيدة الستينيات من جانب ثانٍ. صحيح أنّ شكل التفعيلة ظلّ طاغياً لدي ممثّلي جيل السبعينيات، إلا أنّ العمارات الإيقاعية كانت أكثر سلاسة ومرونة وتحرّراً من القوالب الشائعة، فضلاً عن حقيقة ظهور شكل قصيدة النثر وانتشاره تدريجياً في نتاجات الشعراء، الذين مال بعضهم إلي الجمع بين التفعيلة وقصيدة النثر. وصحيح أيضاً أنّ الموضوعات الوطنية والإيديولوجية وتمثيل الهواجس الوجودية والتأمّل الميتافيزيقي ظلّت تتردّد في قصيدة السبعينيات، إلا أنّ هذه لم تكن هي وحدها سيّدة المحتوي الشعري، ولعلّها تحوّلت فيما بعد إلي الجزء الأصغر والأقلّ من نطاق موضوعات عريض وغنيّ ومتشعّب، خصوصاً بعد أن انفتح علي تجارب الشعر العالمية، وأخذ يغرف أكثر فأكثر من منابع الشعر الفرنسيّ تحديداً.
II
الأهمّ من هذا وذاك أنّ جيل السبعينيات هو الذي أنجز النقلة الحداثية الحاسمة، هذه التي سوف تمهّد الأرض للتطوّرات والتجارب اللاحقة عند جيل الثمانينيات، وستطلق شرارة البحث عن الصوت الشعري الخاصّ، والأسلوبيات المنفردة، والجماليات الإنشقاقية، في نتاجات أمثال حسن النجمي، صلاح بوسريف، حسن الوزاني، مبارك وساط، وفاء العمراني، جلال الحكماوي، محمد بوجبيري، محمد عرش، محمود عبد الغني، أحمد حافظ، إدريس عيسي، الزوهرة المنصوري، عبد العزيز أزغاي، ومحمد الصالحي.
مثل هذا الإستنتاج ليس محلّ إجماع في الواقع، وثمة مَن يعترض عليه بشدّة، ويحاجج علي نقيض منه تماماً. والأرجح أنّ الأمر جدلي هنا أيضاً، ويقبل التنازع الأجيالي الذي لا يفلح غالباً في إخفاء حقيقة الدَيْن الذي في ذمّة شاعر الثمانينيات لصالح شاعر السبعينيات. محمود عبد الغني يعتبر أنّ الشاعر الجديد في المغرب إذا أراد أن يسند ظهره علي جدار مغربي لن يجد وراءه غير الفراغ والهباء والوهم. ومن هنا يري أنه من الطبيعي أن يعترف الشاعر المغربي الجديد بصعوبة مهامّه وهبائية مراهنته. فالقصيدة السابقة علي جيلنا هي تراكم بسيط علي مستوي التأسيس الجمالي ومتواضع علي مستوي التراكم. ومع ذلك يعترف عبد الغني بجيل السبعينيات، بل ويطلق عليه صفة نقطة ضوء ، ويقول إنّ هذا الجيل كانت له حقيقة استراتيجيات خاصة به استجابت استجابة تاريخية عميقة لظروف المرحلة وطنياً وعربياً وعالمياً .(5)
ليس هذا رأي جلال الحكماوي، فهو ينطلق من تجربة مجلة إسراف ويقول إنّ هذا الجيل قد ركل ركلة كبري يقينية الشعريات المطمئنة سواء كانت ستينية أو سبعينية أو ما بعد حداثية، لأنّ هذا الجيل قال طز لوهم الأب. فهو جيل يكتب كما يتنفس، ولا تهمه السجالات النقدية أو السياسية أو المدارس الشعرية أو العلاقة مع آباء. فهو جيل ينطلق من تجارب شعرية أو من مرجعيات شعرية مغايرة للشعريات السابقة والمجاورة . ولهذا كانت تجربة مجلة إسراف قد استفزت الكثير من الشعراء لأنها كانت تجربة شرسة علي المستوي الشعري أساساً، بمعني أنها قطعت مع عقليات شعرية تؤمن بالريادة والقيادة والتنوير، لأنها تجربة جمعت مجموعة من الأصوات لا تمثل بالضرورة جماعة شعرية متكاملة، بل أرخبيلات متجاورة غير مطمئنة .(6)
والحال أننا لا نعثر علي ركلة كبري ، أو حتى ذلك المقدار من الإستفزاز الذي يتخيّله الحكماوي، سواء في نصوص مجلة إسراف أو في نتاج الحكماوي نفسه، كما في هذا المقطع من قصيدته بار الخنازير ، علي سبيل المثال:
يسطو علي رغباتي
التي تشاجرت بالسكاكين مع مومياء مجهولة
في مرآة خطيرة مطلّقة بالثلاث
وتركت لي علي عجلٍ
زُكامَ وضوح علي جناح دمعهْ.(7)
فهذا المقطع ليس أكثر انتهاكاً للمرجعيات الشعرية المعاصرة، كما أنه ليس أشدّ استفزازاً للذائقة القرائية السائدة، من قصيدة أحمد بلبداوي المقتبسة أعلاه. ولكن إذا كان من الطبيعي أن تهبّ رياح التمرّد الشعري علي الأب أو علي الأخ الكبير (رغم نفي الحكماوي لمثل هذا النوع من التمرّد)، فإنّ من المدهش أن تتمّ إدارة هذا التمرّد في حقول أخري غير النصّ الشعري ذاته، كأنّ يجري ترحيلها إلي حقل التنظير الفلسفي الصرف وغير المرتبط بمادّة نَصّية تارة، أو يجري تمويهها تحت أقنعة رفض الأنساب الشعرية المحلية والقبول بأنساب شعرية أخري خارجية دونما صلات بيّنة عملياً. وهكذا، مثلاً، يقول الحكماوي إنّ شعريته لا تعتمد علي الأذن أو السماع كما كان الحال في الماضي وإنما تعتمد علي الفيديو، الصورة، المونتاج، الخ. ؛ ثمّ يعلن في الموقع ذاته انتسابه إلي الشاعر الفرنسي سيرج بي، الأمر الذي يبدو مستغرباً حقاً لأنّ هذا الشاعر لا يعتمد علي الصوت فقط، بل علي الصراخ بأعلي الصوت، وعلي تحويل الأداء الصوتي إلي موقف شعري شعائري.
لكنّ ضيق أمثال الحكماوي بشجرة النسب الشعري المغربية يخفي، كما أرجّح شخصياً، ذلك القلق الأكثر أهمية حول ضيق التعبير، وربما ضيق العبارة، والذي يُعدّ واحداً من الأثمان الأساسية التي توجّب أن يسدّدها شاعر الحداثة الواقع في شبكة متقاطعة من التراثات والتجارب السابقة أو المجاورة علي حدّ تعبير الحكماوي نفسه. فمن المعروف أنّ تغريب اللغة، أي انتزاعها من حقل المألوف إلي حقل الغريب الطارئ الذي يجعل القارئ منتجاً ثانياً للنصّ الإبداعي حسب رولان بارت، كان واحداً من المداميك الكبرى الصانعة لمعمار الحداثة الشعرية منذ مطالع القرن الماضي. لكنّ ثمن هذا التغريب المثير اتخذ موضوعياً شكل سلسلة من المفارقات في التعامل مع العلامة اللغوية: إمّا تقديمها فارغة من المدلول، أو تحطيم دلالاتها بحيث تتبعثر وتتجزّأ، أو ترقيتها إلي ما ليس فيها بحيث تتضخّم وتنتفخ بمجاز زائد عن الحاجة.(8) وثمة الكثير من الفراغ الدلالي في حديث الحكماوي عن مرآة خطيرة مطلّقة بالثلاث ، والكثير من التحطيم الدلالي في زكام وضوح ، والكثير من الإنتفاخ الدلالي في رغباتي التي تشاجرت بالسكاكين مع مومياء مجهولة .
وهذا القلق ليس ظاهرة سلبية بالضرورة، بمعزل بالطبع عن مزاج الحكماوي العصبيّ المولع بقول طز لوهم الأب الشعري. إنه، علي العكس، ظاهرة إيجابية وحيوية حين يتجسّد في النصّ الشعري أكثر من التنظير الشعري، أو حين يستنبط التنظير الشعري من باطن القصيدة ذاتها. شيء من هذا القلق الإيجابي الحيوي نجده عند صلاح بوسريف، الذي يعلن حاجة الجيل الجديد إلي جمالية معارضة دون أن يتهرّب من حقيقة أنّ هذا الإختيار ليس سهلاً. وهو يقول: إنّ الاحتكام إلي جمالية النصّ في وضعها علي محكّ الذات كان يحتاج منّا إلي تجربة وإلي معرفة بالتجارب الشعرية العربية في الماضي، وبالتجارب الشعرية في الغرب. من هنا كان هذا النوع من الإختيار هو نوع من الإختبار لذواتنا ولتجاربنا، الشيء الذي جعل الحساسية النقدية السائدة تعيش في مأزق لأنّ رؤيتها لمفهوم القصيدة تزلزلت ولم تعد قادرة علي مواكبة نصّ لم يعد يُكتب بالأذن وحدها، بل أصبحت تتضافر فيه كلّ الحواسّ .(9) وبوسريف لا يخفي أنّ حالة القلق هذه، حالة الإختيار والاختبار، جعلته يعيد النظر في مفهوم القصيدة ذاتها.
والكثير من هذا القلق الإيجابي الحيوي، الذي ليس سوي الضيق الإيجابي بعُدّة التعبير وأدواته، نعثر عليه في الكثير من قصائد شعراء السبعينيات وشعراء الثمانينيات علي حدّ سواء، وضمن حالة مدهشة من التعايش والتجاور والتكامل وصناعة مشهد شعري حافل ومتنوّع وخصب. هذا محمد بنيس في قصيدة بعنوان سماء الموت يبدو وكأنه يصف سماء المعني:
نُتَف السحاب إذنْ توسّعُ من مداركَ أنتَ
بين مسافتَينِ وعند سطح النهر كنتَ
تركتَ وجه اللوح يغمره الرنينُ اهبِطْ
إليكَ كواكبٌ فاضت بها الأنهارُ
والكلماتُ تَغْمُضُ أيها الأحياء في حلقي
أفتّش عن مساقط نقطة هي ما يُسرّ إليّ
كيفَ النهرُ يجذبني إلي طرق موزّعةٍ علي
حدّ الشكوكِ وقد عثرتُ عليَّ أشلاءً
مُسَلّمةً لفتكِ الخوفِ
لي
لغة
تورّثني
سماء الموتْ. (10)
وفي المقاطع اللاحقة من القصيدة ذاتها يكرر بنيس التنويعان التاليان علي اللازمة الختامية: لي لغة تردد لي سماء الموت و لي لغة تطلّ علي سماء الموت .
وهذا عبد الله زريقة يقول في مطلع قصيدته فراغات حولاء :
وقبل أن تغرب الشمس وراء هذه الورقة سيقودني هذا العمى
الأبيض حتى الظلمة التي في الحواشي. وسأقترب من كلماتٍ
غرقي في الوسط. وأقرأ أسماءَ كالحيتان تنزلق في يدي كلّما
أردتُ القبض عليها
ولن يقبل أحدٌ هذه الورقة سوي
ريح روحي
وهل حقاً أشمّ اللامنتهي في هذه الليمونة. وأنّ كلماتي ضيقة
في هذه الأكمام. وأية صورة تحرّك هذه الرموشَ التي في عيني
ومَن يلمس الآخرَ يدي أم هذا
الزجاج. (11)
لغة تردد سماء الموت أو تطلّ علي مساء الموت، كلمات غرقي، كلمات ضيقة، وأسماء كالحيتان... وليس هذا القلق حول التعبير وحول اللغة سوي واحد من أبرز تجليّات الهاجس الحداثي في الشعر المغربي المعاصر، إذا وافق المرء أطروحة يوري لوتمان حول اللغة بوصفها متاع الشعر أو مادّته.
ومن أحمد المجاطي الذي قال إنّ الأشياء تلبسه، إلي مبارك وساط الذي يقول إنّ دماء السناجب تزوره، تبدو القصيدة المغربية وكأنها قطعت المسيرة المعقدة اللازمة للوصول إلي أكثر من حقل واحد لجماليات التعبير الشعري وصياغات الحقيقة الشعرية. وكأنّ نماذجها وأساليبها وتيّاراتها تتكامل أو تتنازع علي الدوام، ولكنها تجمع علي الإتفاق مع نيتشه حين تساءل: وما الحقيقة؟ إنها جيش متحرّك من الإستعارات والكنايات والتجسيمات، أو هي باختصار حصيلة علاقات إنسانية ارتقت شعرياً وبلاغياً، تحوّلت، وزُخرفت، وبدت بعد طول استخدام ثابتة وأقنومية وملزمة للأمّة .
القدس العربي- 2002/02/21