إستراتيجيات التعبير وتمثيلات المعنى

صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

فلتمهلوا الأرض حتى تقول الحقيقة، كل الحقيقة

محمود درويش

صبحي حديديقبل أن يشرع "تورلينو العجوز"، كاهن قبائل ال"نافاجو"، في سرد قصة الخلق أمام الأمريكي
الأبيض واشنطن ماتيوز، أنشد الأبيات التالية:
إنني خَجِلٌ أمام الأرض
إنني خجل أمام السماوات
إنني خَجِلٌ أمام الفجر
إنني خَجِلٌ أمام شفق المساء
إنني خَجِلٌ أمام السماء الزرقاء

صبحي حديدي كاتب وناقد من سوريا يقيم في باريس

دراسات

1

38

إنني خَجِلٌ أمام الشمس
وأخجل أمام ذلك الشامخ في داخلي، وينطق معي.
تلك أشياء تبصرني على الدوام
ولن أغيب عن ناظرها أبداً.
تلك أشياء تلزمني بسرد الحقيقة
واحتضان كلمتي قريباً من صدري. ) 1(
ولقد كان الشاماني الحكيم يشير إلى مسؤولية الهندي الأحمر أمام الكلمة، تلك التي تشغل
عنده دور "وكيل" جبار يتوسط بين الفعل والواقع، ويدير مواجهة الضمير لحقائق الداخل
والخارج، بقدر ما يشدد على واحدة من أبرز أواليات الدفاع التي اعتمدتها الأقوام الأصلية طيلة
عقود الغزو الأوروبي وتأسيس "العالم الجديد" بقوّة الحديد والنار.
في قصيدة "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض"، التي ظهرت في
مجموعة "أحد عشر كوكباً"، 1992 ، يعتمد محمود درويش أوالية تمثيل شبيهة حين يضع
الأرض في مركز التناقض بين الهندي الأحمر و"الآخر" الغازي، ويشدّد بلاغة وصف الوطن
الأصلي، وجماليات المكان، والأحلام والعبادات، لكي تكون معياراً لوِجْهة اقتراب الماضي
من المستقبل.
لكنها بلاغة غير منقطعة عن سمة مركزية في ثقافة الأقوام الأصلية، تتصل بتقاطع واندغام
نسقَ من التجربة ينتمي كلٌّ منهما في نظرنا نحن إلى حقلين مختلفين:
الظواهر التي ندخلها نحن في كتلة المفاهيم الموضوعية عن العالم، وتلك الظواهر التي يدمجها
الهندي من جهته في الكتلة الذاتية، أو يستدخلها في مساحة وسيطة لا تتيح تكامل النسقين فقط،
بل تسلّح العالم "الداخلي" بعناصر قوّة إضافية تجعله أكثر تفوّقاً على العالم "الخارجي"، أو
توفّر فرصة محاصصة العالمَ وتقاسم المعطيات الأساسية ل "عالم" واحد يشهد فيه الفجر على
الروح، والحلم على المساء.
هذه أولى خطوط تنظيم العلاقة )التي ترقى دائماً إلى مستوى التوتّر العالي( بين المقدّس من
جهة، والعناصر المركّبة التي تسعى إلى تدنيسه وانتهاكه، أو إلى طمس جوهره القداسي، من
جهة ثانية.

39

حديدي: استراتيجيات التعبير

الطرف الأول تمثّله القوى الطبيعية العابرة لحدود البشر، ولكنها مشارِكة فاعلة في تكوين
الحياة والمعنى وضمان حضور الحقيقة في ذلك كله. والطرف الثاني يمثله التدخّل البشري الذي
يستحوذ على سلطة أشدّ كلما ازداد عنفاً وقدرة على تجريد المقدّس من مضامين القداسة، وكلما
نجح في إخراج الحقيقة إلى العراء البعيد عن "الشامخ في الداخل"، الناطق المشارك، والذي
يلزم بسرد الحقيقة... "كل الحقيقة".
وفي حوار مع محمود درويش، يعود إلى عام 1993 ) 2(، قال الشاعر:
"منذ بداياتي الشعرية وأنا أتعامل مع موضوعة الأرض وعناصرها، من عشب وشجر وحطب
وحجارة، ككائنات حيّة. إنني، إذاً، مكوّنٌ بطريقة تتيح لي التقاط رسالة الهندي الأحمر. وحين
قرأت ثقافتهم أدركت أنهم عبّروا عنّي بأفضل مما عبّرت عن نفسي. ولسوف يشرفني أن يرتقي
دفاعي عن الحق الفلسطيني إلى مستوى دفاع الهندي الأحمر، فهو دفاع عن توازن الكون والطبيعة
الذي يشكل سلوك الأبيض خرقاً له".
ولم يخفِ درويش مضمون الرسالة في قصيدته حين قال:
"لقد تقمصت شخصية الهندي الأحمر لأدافع عن براءة الأشياء وطفولة الإنسانية، وأحذّر
من تعاظم الأداة العسكرية التي لا ترى لأفقها حدوداً، بل تقتلع كل المعاني الموروثة وتلتهم بجشع
ونهم الكرة الأرضية بسطحها وقاعها. التهام معرفة الآخر هو عتبة أولى لإفنائه وإقصائه، وهو
مشروع إبادة يؤشّر على الطريقة التي ينشأ بها النظام الدولي الجديد: غزوٌ، وهيمنة، وإلغاء،
ومحاولة فهم الآخر بوسيلة إبادته. قصيدتي حاولت تقمّص شخصية الهندي الأحمر في ساعة
رؤيته لآخر شمس، ولكن الأبيض لن يستطيع امتلاك الراحة والنوم بهدوء لأن أرواح الأشياء
والطبيعة والضحايا سوف تحوم حول مجال وجوده".
ونعرف )من القصيدة ذاتها، ومن حديث درويش عنها( أن الشاعر انكبّ على قراءة معمقة
لتاريخ الهنود الحمر وعلاقتهم بالأرض والوجود والآلهة والآخر. وأدرك، على نحو لا يقلّ عمقاً،
دلالات العام )بحدثَيْه المحوريين: رحلة كريستوفر كولومبس، وسقوط غرناطة(، وكيف اقتضى
تأسيس مفهوم الغرب الإمبراطوري الإمبريالي سياسياً وعسكرياً، والمسيحي اليهودي ثقافياً
إبادة سبعين مليون هندي، و"إدارة حرب ثقافية طاحنة ضدّ فلسفة تقترن بالأرض والطبيعة،
وبالشجر والحصى والتراب والماء".

40

المادة المعرفية، والموقف الأخلاقي من "الاكتشاف"/ الغزو، والوعي التاريخي بجوهر
الصراع في أي مشروع استيطاني، وارتفاع سؤال الأرض عند الفلسطيني من المستوى السياسي
إلى مستوى القداسة، وتماهي الفلسطيني مع التراجيديا، ونهوض منجز درويش الشعري على
المشروع التراجيدي... كل هذه كانت عناصر حاسمة في استكمال قصيدة "خطبة الهندي
الأحمر ..." على الهيئة الوحيدة اللائقة بشروط كتابتها:
إنها واحدة من النصوص الأدبية النادرة )ونقصد هنا على نطاق عالمي( التي تناولت موضوعة
الهندي الأحمر بوعي إنساني تاريخي يتفادى التمثيلات الإيديولوجية السائدة التي تكتفي، عن
سابق قصد وتصميم، بتصوير الهندي الأحمر ككائن بريء نبيل يهرب من زحف الحضارة إلى
أحضان الطبيعة الأمّ، أو كحامل ساذج محايد لعناصر الصراع الأوروبي الذي احتدم بين النظام
الأرستقراطي المحتضر والثورة البرجوازية والصناعية الوليدة) 3(.
السطور الأولى من القصيدة تكاد تفصح عن جملة الإستراتيجيات التي اعتمدها درويش
لتحقيق غرضَ حاسمين:
تقويض تنميط الهندي الأحمر في سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية، ثم الانطلاق من
ذلك إلى إطلاق فضاء المواجهة بين أهل الأرض )أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على
وجه الخصوص(، والآخر القادم الذي اجتاح واستوطن وغرق أكثر فأكثر في عماء جهل الأرض
وتواريخها وعناصرها ودفاعاتها السرية عن روحها وروح قاطنيها.
التراجيدي هنا يلتحم في أعرض فضاء متاح من المقدّس، بحيث تتحوّل الذاكرة المنتهَكة
)بعناصرها وشعائرها وطقوسها وحركتها في التاريخ( إلى إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية
ومجازية محدَّدة، مُجتاحَة ومنفية ومهزومة ربما، ولكنها متجذرة في الأرض، وقائمة،
ومقاوِمة.
وإذا لم يتحوّل هذا الإرث المنتهَك إلى "عبادة" محورية لتلك الحالة النبيلة من المقاومة والتجذّر،
فإن من العسير أن يتلمس المرء المعنى التاريخي )قبل ذاك الأنثروبولوجي والسوسيولوجي( للدين
والمقدّس. والمسألة تدور هنا حول العالم الفعلي وعناصره البدئية، مثلما تدور حول الإبدالات
المجازية لذلك العالم:
إذن، نحن من نحن في المسيسيبي. لنا ما تبقّى لنا

41

حديدي: استراتيجيات التعبير

من الأمس
لكن لون السماء تغيّر، والبحر شرقاً تغيّر. يا سيّد البيض!
يا سيّد الخيل، ماذا تريد من الذاهبين إلى شجر الليل؟
عالية روحنا، والمراعي مقدسة، والنجوم
كلام يضيء.. إذا أنت حدّقت فيها قرأت حكايتنا كلها:
ولدنا هنا بين ماء ونار.. نولد ثانية في الغيوم
على حافّة الساحل اللازوردي بعد القيامة.. عمّا قليل
فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روح يدافع فينا عن الروح
في الأرض.) 4(
وليس بغير دلالة خاصة أن درويش يبدأ من المسيسيبي )موطن قبائل الجنوب الشرقي التي
بنَت حضارة عمرها 2500 سنة، واستخدمت الطين على نطاق واسع في تشييد الأهرامات
الشبيهة بالزيقورات البابلية، والاستحكامات، و"تحصينات الدفن" ذات الشكل ألأفعواني،
قبل أن تنقرض عن بكرة أبيها(، ليُسقط مقولة الفراغ الحضاري، ثم ينتقل من التصوير المحسوس
)"لون السماء تغيّر"( إلى الجملة الإستعارية التي تمزج المحسوس بالمجرّد )"شجر الليل"، "عالية
روحنا"(، إلى التصوير التركيبي المشحون بدرجة إضافية من التجريد )"النجوم كلام يضيء"،
"ولدنا هنا بين ماء ونار.. ونولد ثانية في الغيوم"(، لكي يسقط مقولة افتقار المخيّلة الهندية إلى
المفاهيم المجرّدة، وركونها إلى البلاغة الفطرية المباشرة وغير المركّبة.
ويُدخل درويش تفريعاً هاماً على هذه الإستراتيجية الأولى حين يغاير مصدر التجريد بين
الموضوع المادي والتجربة الحياتية، وبين أداء المفردة لدلالتها اللسانية، وتحريضها على استدعاء
المنطوق الروحي أو الأسطوري أو الطقسي.
الماء في الوجدان الهندي يدخل في جملة سياقات وجودية )من المدهش أنها لا تبدو طقسية في
جميع الحالات(، على رأسها أنه وسيط الولادات الجديدة، وحامل "أطفال المياه" الذين يجوسون
ضفاف البحيرات والأنهار ليلاً، حتى يمرّ بهم "الجدّ النار" فيهبهم الحياة ساعة الفجر.
وليس المرء بحاجة إلى استقراء دلالات الغيوم لكي تكتمل الدائرة بين ماء ونار، والولادة

42

الثانية في الغيوم؛ ولكي تبدو العلاقة أشدّ تجريداً من الكتابة ذاتها )التي اعتبر تزفيتان تودوروف
غيابها في طليعة جملة أسباب سهّلت نجاح الغزاة في بسط نفوذهم على الأقوام الأصلية(، ومن
الكلمات التي هي رموز نائبة عن عناصر التجربة ذاتها.
القارئ، من جهة ثانية، ليس بحاجة إلى شروحات وهوامش تدله على الشبكة الرمزية
والأسطورية وراء هذه السطور الشعرية، أو هو غير ملزم بمثل هذا الوجوب الدلالي لكي تستقيم
قراءته للنص أو تكتمل أوجه تلك القراءة. ذلك لأن الإستراتيجية الثانية في القصيدة تؤدي القسط
المسنَد إليها في تقويض التنميط الأسطوري للهندي الأحمر، لكن وظيفتها التالية تتمثّل في تأمين
قدر أقصى من التغطية غير المباشرة للشبكة الرمزية والأسطورية المشار إليها، سواء في المستوى
الجزئي من القراءة )السطر الثالث والسطر السابع على سبيل المثال(، أو في المستويات المتداخلة
للعلاقة بين الوحدات داخل الأسطر وما بينها )العلاقة بين السطر الأول والسطر السادس في ضوء
ضمير المتكلم، أو بين عبارات مثل "ما تبقّى لنا"/ "حكايتنا كلها"، وتواتر الجار والمجرور في
السطرين السابع والثامن(.
الأرجح أن هذه الإستراتيجية هي التي تلبي رغبة درويش في تمثيل الوعي التراجيدي بالوجود
كما يتوسّله الهندي الأحمر أمام محيطه الطبيعي، وبصدد علاقته بالأبيض؛ وكما تنفتح حلقاته
على فضاءات كونية مدهشة، هي إحدى مفاتيح الجاذبية الإنسانية العالية لهذه القصيدة.
القسم الرابع يكاد ينهض بأسره على تطبيقات التغطية غير المباشرة لشبكات المعنى )الرمزي
والأسطوري حتى هذه المرحلة(، وفيه تبرز قدرة درويش على تنفيذ التفريعات التالية:
أ إيقاف الفانتازيا بوسيلة الواقعة، والواقعة بوسيلة الفانتازيا، ثم المبادلة بينهما وصولاً إلى صيغة
)أو جملة صياغات( للسياقات العليا والدنيا، أو "الماكرو سياق" مقابل "الميكرو سياق"
في علم الأسلوب:
)...( فمن سوف يرفع أصواتنا
إلى مطر يابس في الغيوم؟ ومن يغسل الضوء من بعدنا
ومن سوف يسكن معبدنا بعدنا؟ من سيحفظ عاداتنا
من الصخب المعدني؟
في هذا المثال يرتفع الصوت )كواقعة فيزيائية( إلى مطر يابس في الغيوم )كتخييل فانتازي

43

حديدي: استراتيجيات التعبير

أو هلوسة بصرية مركزها صفة اليباس بين المطر والغيوم(، ويتقابل مَنْ يسكن المعبد ومَنْ يغسل
الضوء بعد الهنود الحمر، ومَنْ سيحفظ العادات من الصخب المعدني )وهنا تكاد الحدود تمّحي بين
المستويين الواقعي والفانتازي لكلّ من "عاداتنا" و"الصخب المعدني"، ثم بينهما معاً و"أصواتنا"
بما يتضمنه الصوت من معانٍ فيزيائية وميتافيزيقية(.
هذه سياقات دنيا ضمن سياق أعلى هو جزء من نبرة الرثاء العميقة التي تهيمن على هذا
القسم من القصيدة، وتسهم في صناعة موضوعه المركزي: الوعي التراجيدي بالوجود قبل
تلمّس سيرورات الاندثار.
حالة الإيقاف المتبادل بين الفانتازيا والواقعة )في المثال أعلاه على وجه التحديد( تستولد
المستوى المناسب من حضور المقدس في كل تفصيل رثائي تراجيدي، بالنظر إلى قيامها أصلاً
بطرح مستويات القَطْع الحاد بين الراهن والمُتَخيّل، مع استمرار بقائهما في نقطة معلقة من الحضور
والغياب في الآن ذاته: "مَنْ سوف يسكن معبدنا بعدنا؟".
هذا سؤال يتكهن بالغياب دون أن يلغي الحضور، ويحرّك نبرة الرثاء بين "الآن" و"بعدنا"
دون أن يستبدل ضمير المتكلم )بالجمع دائماً( بأي ضمير أو إشارة، في التركيب وليس التصريح،
سيما حين تكون العناصر المكوِّنة له )تلك التي يختارها درويش بعناية وبراعة( ذات صلة بالسلوك
الجماعي البيئي والثقافي الدالّ على الحياة، أكثر من صلتها بالسلوك الشعائري الدال على
الموروث.
ب البَثّ الحواري للضمائر على نطاق واسع في جميع السطور تقريباً، وضمن خطّين متوازيين هما
"نحن" و"أنتم"، أو ضمن سلاسل ثلاثية ورباعية ينضم فيها ضمير المفرد )المتكلم والمخاطَب
والغائب( ليضيف عناصر "الغريب" و"الآخر" و"الأرض" و"الله" إلى صيغة التوازي
الثنائية السابقة. ثمة هنا توزيع بارع خفي، يتسلل بيسرٍ ومرونة خلال عملية القراءة، لكن
تحليل خصائصه الإنشائية يكشف عن هندسة تشكيلية تصاعدية يتنامى فيها المنظور التكعيبي/
التزامني لإبدالات المعنى وقطع تلك الإبدالات في التوقيت المناسب، كما في المثال التالي:
1 )...( «نبشّركم بالحضارة » قال الغريب، وقال: أنا
2 سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم،
)...(

44

3 يقول الغريب كلاماً غريباً، ويحفر في الأرض بئراً
4 ليدفن فيها السماء، يقول الغريب كلاماً غريباً
5 ويصطاد أطفالنا والفراش. بماذا وعدت حديقتنا يا غريب؟
)...(
6 فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي
7 تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها وزينتنا
8 زهرها. «هذه الأرض لا موت فيها » فلا
9 تغيّر هشاشة تكوينها! لا تكسّر مرايا بساتينها
10 ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها
11 وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها ..
12 سنذهب، عما قليل، خذوا دمنا واتركوها
13 كما هي،
14 أجمل ما كتب الله فوق المياه،
15 له... ولنا.
حيث يتشكل إبدال معاني لقاء الهندي الأحمر بالآخر وفق منظورات متضاعفة، كما في
السطور 1 2 )الغريب/المتكلم(، و 3 5 )الغريب/الغائب(، و 5 10 )الغريب/المخاطب(،
و 10 12 )الغريب المخاطب المفرد/الهندي المتكلم بصيغة الجمع، و"الآخر"/المخاطب بصيغة
الجمع أيضاً(، و 13 )الأرض/الغائب(، و 15 )الله، نحن(.
وإذا كان السطر الأخير يغلق إيقاع التصاعد عند ذروة ختامية هي برهة التقاء المعبود بالعابد،
فلأن الأرض هي موضوع اللقاء، ولأن القارئ لم يتوقف عن إحالتها سيكولوجياً إلى منظورات
ظهورها )الغريب الذي جاء ليرثها، ليحفر فيها بئراً، ليجرح السلحفاة التي تحملها، ليوجعها
...(؛ ثمّ متابعة تزامن حالات الظهور تلك مع منظورات أخرى )بئر لدفن السماء، كلام غريب
لاصطياد الأطفال والفراش، تغيير هشاشة التكوين، الدم مقابل الأرض، الماء صفحة الله لكتابة
الأرض(؛ وصولاً إلى العنصر البؤري )التكعيبي( الذي لا يكتفي القارئ بالإرتداد إليه في كل
مرة، بل ويشارك في صناعة مضاعفاته أيضاً.

45

حديدي: استراتيجيات التعبير

)الأمر الذي يفتح سطوح "التأويل" و"القراءات" و"القرائن" التي تبرز إسقاط بعض هذه
المضاعفات على سؤال الأرض العريض وخارج السياق المحدد الذي يعلنه النص، كأنْ يرى قارئ
أن الأرض هنا هي فلسطين، أو يرى آخر أنها المعمورة بأسرها(.) 5(
ج هذا التفريع الثالث بسيط، ولكنه مثل معظم الإستراتيجيات الأسلوبية البسيطة عند درويش
منتجٌ لدرجة متقدمة من التركيب التعبيري. إنه يقوم على تنظيم الصورة في حركة دوّامية )تذكّرنا
بالخيار الذي اشتغل عليه إزرا باوند لفترة قصيرة مطلع القرن) 6(، تأخذ شكل متواليات بصرية
تتوالد من المركز لتكسب ديناميتها الدائرية الخاصة داخل شبكة المعنى في النص، دون أن تنفصل
عن المركز، أو دون أن تتوقف عن تحريكه معها بوسيلة استخدام مفردة هنا أو بناء مشهد هناك.
نماذج هذا التفريع وافرة في القصيدة، ولكننا سنتوقف عند المثال التالي من القسم الخامس:
هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكستناء
يخبيء أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءً وماء.
خذوا أرض أمّي بالسيف، لكنني لن أوقّع باسمي
معاهدة الصلح بين القتيل وقاتله، لن أوقّع باسمي
على بيع شبر من الشوك حول حقول الذرة ..
واعرف أني أودّع آخر شمس، وألتفّ باسمي
وأسقط في النهر، إني أعود إلى قلب أمي
لتدخل يا سيّد البيض عصرك.
الحركة الدوّامية تبدأ من مركز أوّل هو "شعبي" ومركز ثانٍ هو "أرض/ قلب أمّي"، ومن
متواليات بصرية ذات دينامية خاصة غير منفصلة )أو هي منبثقة( عن المركزين، كما في الترسيم
التالي:
شعبي أرض أمّي
القتيل اسمي القاتل
]شجرة الكستناء[ معاهدة الصلح السيف

46

أرواح شعبي أوقّع معاهدة الصلح
]هواء وضوء وماء[ ]شبر من الشوك[ ]أسقط في النهر[
السيف ]التفّ باسمي[ سيّد البيض
أرض أمّي ]أودّع آخر شمس[ عصرك
]حقول الذرة[ قلب أمّي ]آخر شمس[
والمتوالية البصرية )المحصورة بين معقفات( هي الهبوط بالمجاز إلى الدرجة صفر، بغية تمكين
الصورة الحسية من التعبير عن مضمونها دون أخيلة وظلال، ولكي تتجاور )في شحنتها المحايدة(
مع جملة العلاقات الحسية التي تتوالى لصناعة الحركة الدوّامية المركّبة.
المشهد الدرامي في "أعرف أني أودّع آخر شمس" أو في "أعود إلى قلي أمّي" ليس أقلّ
بياناً من المشهد التمثيلي الإستعاري في "هنا تتبخّر أجسادنا، غيمة غيمة في الفضاء"، والذي
يستخدمه درويش في سياق اختتام القسم الخامس من القصيدة.
وغنيّ عن البيان أن العلاقات الحسية داخل الحركة الدوّامية تواصل أداء الوظائف ذاتها،
بالدينامية ذاتها، بصرف النظر عن أي اقتراح آخر لتخطيط حركتها على نحو مختلف.
الإستراتيجية الثالثة تتكامل مع التفريعَ "أ" و"ج" في أنها تمنح تلك المساحة الدلالية أوالية
قطع الإبدالات كلما مال التصوير إلى التوسّع نحو المجرّد )وبالتالي، تراجع فيه المحسوس(.
الوحدة التي تنهض عليها هذه الإستراتيجية هي ما يمكن تسميته ب "المفردة الرحم"، أو الفضاء
الواسع/الضيّق الذي تتحرك فيه مفردة بعينها، فتقوم بتفعيل التصوير أثناء قيامها بتفعيل التركيب
اللغوي ذاته، وتقوم بتوليد حلقات المعنى المتسمة بتنوّع بالغ في الكثافة والإطار المرجعي
والأصوات والظلال والإيحاءات. هنا مثال من القسم السادس:
هنالك موتى ومستوطنات، وموتى وبولدوزرات، وموتى
ومستشفيات، وموتى وشاشات رادار ترصد موتى
يعيشون بعد الممات، وموتى يربّون وحش الحضارات، موتاً
وموتى يموتون كي يحملوا الأرض فوق الرفات..
المفردة الرحم هنا هي "موتى"، وتدخل في شبكات التفعيل والتوليد التالية:

47

حديدي: استراتيجيات التعبير

1 شبكة التركيب:
هنالك موتى:
ومستوطنات، وبولدوزرات، ومستشفيات
وشاشات رادار ترصد
يعيشون بعد الممات
يربّون وحش الحضارات )موتاً(
يموتون كي يحملوا الأرض فوق الرفات
حيث يقوم حرف العطف بإدخال المفردة الرحم في شبكة تبدأ من الجملة الاسمية، وتنتهي
بجملة معقدة تضمّ جميع الصيغ التركيبية السابقة، مع مقطع في ختام السطرين الأول والثاني،
لمتعلّق في السطر الثالث وقَطْع مفتوح في السطر الثالث.

2 شبكة التصوير:

كان نعوم شومسكي هو الذي نبّهنا إلى أن حركة التركيب اللغوي تتألف من أساس يولّد عدداً
من البُنى العميقة وجزءاً تحويلياً )واحداً على الأقل( يرسم خريطة الصياغة، في بُنى السطح كما في
البنية العميقة. وهذه الأخيرة غير قابلة للكشف )الدلالي، هنا( دون الرجوع إلى مكوِّن مركزي
في السطح )التركيب(، يشترك بدرجة كافية في عمليات التعيين والتجريد.
وفي توظيف المفردة الرحم يغاير درويش بين تصوير ثابت تعييني يضبط تسارع مخيّلة القارئ،
وبين تصوير حرّ يتوجه إلى مستويات انطباعية وذاتية وتجريدية تطلق سراح المخيّلة، ولعلها تطلق
ما تسميه الدراسات الأسلوبية ب "الصورة السابحة":
يعيشون/موتى/يموتون/كي يحملوا
بعد الممات/الأرض فوق الرفات
مستوطنات/بولدوزرات/ترصد/وحش الحضارات
مستشفيات/شاشات/رادار/يربّون/الرفات

3 شبكة حلقات المعنى:

الحالة التعبيرية )وليس التعبير( هي الوظيفة المتحركة التي تحمل عبء توزيع المعنى في النص
الشعري، واستيلاد حلقاته ذات المحتويات الدلالية المفتوحة غير الثابتة، وغير المكتملة أبداً.

48

لقد رأينا تلك الوظيفة في مغايرة درويش بين مستويَ في التصوير، وها هو يحتاج إلى
سبعة سطور شعرية فقط لكي يقطع الحالة التعبيرية السابقة )وما توالَدَ في سياق المفردة الرحم
من حلقات(، ثم يربطها على نحو تلسكوبي بحالة تعبيرية جديدة )وبما يتوالد في سياق مفردتها
الجديدة من حلقات جديدة(؛ قبل أن يعود سريعاً إلى المفردة الرحم الأولى، ولكن في عمارة
تركيبية وتصويرية تحشد جميع المحتويات الدلالية السابقة وتعيد فتحها على علاقات جديدة:
نطلّ على أرضنا من حصى أرضنا، من ثقوب الغيوم
نطلّ على أرضنا، من كلام النجوم نطلّ على أرضنا
من هواء البحيرات، من زغب الذرة الهش، من
زهرة القبر، من ورق الحور، من كل شيء
يحاصركم، أيها البيض، موتى يموتون، موتى
يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسرّ
وللقارىء أن يستدخل هذا المثال في التخطيطين السابقين )التركيبي والتصويري، أو أي تخطيط
اندماجي( وأن يلاحظ التغيّرات التالية:
أ صيغة الفاعل/الفعل بصدد حركة موتى الهنود الحمر في المثال الثاني )في السطرين الخامس
والسادس(، مقابل خمسة أنماط تركيبية في المثال الأول. ويلعب حرف الجرّ هنا الدور الدينامي
الذي لعبه حرف العطف هناك.
ب التوزيع التركيبي للمفردة الرحم "أرضنا" يأخذ شكلاً دائرياً، مقابل الشكل الهرمي الذي
أخذته مفردة "موتى" في المثال الأول. والتوزيع ينتظم هكذا:
نطلّ على أرضنا:
1 من حصى أرضنا
2 من ثقوب الغيوم ]نطلّ[
3 من كلام النجوم ]نطلّ[
4 من هواء البحيرات

49

حديدي: استراتيجيات التعبير

5 من زغب الذرة الهش
6 من زهرة القبر
7 من ورق الحور )من كل شيء[
ج التوزيع المباغت للاسم والمضاف إليه في فرعَ بصريَ :ْني الأول تنتمي عناصره الطبيعية إلى
المستوى الأرضي المنخفض من الطبيعة ) 1، 4، 6(، والثاني إلى المستوى الفضائي العالي
) 2، 3، 5(، فيتوازى حصى الأرض مع ثقوب الغيوم، وكلام النجوم مع هواء البحيرات،
وزغب الذرة مع زهرة القبر.
بعض هذا التشكيل البصري ينتج )ويعيد إنتاج( عناصر الطبيعة في خطوط تداخل عمودية
وأفقية وأقرب إلى بناء فينومينولوجيا مشهدية بين الظاهر الطبيعي وتشخيصه الباطني، وبين
الصورة الذهنية التي يفرزها تلازم العناصر وفق هذه المعادلة )وربما على مبدأ العدسة المركبة التي
تصنع درجة أعلى من الحدقة البصرية والمدى البؤري الأعرض في الآن ذاته(.
هذه الإستراتيجية الرابعة تنهض على قاعدة بسيطة في سوسيولوجيا القراءة:
علاقة القارئ بالنصّ هي حقل نشط لتكوين المعني، وليس حالة استقبال راكدة أو أوالية خامدة
لاستقبال المعنى كما يعلنه النصّ، أو يزعم أنه يعلنه. وتخبرنا الدراسات السريرية حول الجهاز
العصبي أن برهة القراءة تشهد تورّط المزيد من الخلايا العصبية في إدخال ناتج معرفي وجمالي
على النصّ، وليس مجرّد تسجيله فقط.
ما يقوم به درويش، وفق هذه الاستراتيجية، شبيه بإغلاق العين على مشهد العالم )وعناصره
المضاءة( بغية تمريره في عتمة المخيّلة، ثم استخراجه من جديد وقد حمل دينامية الأطوار الثلاثة،
فضلاً عن ديناميته الخاصة. وليس بغير دلالة أن الإغريق اشتقوا تعبير الفانتازيا من الجذر Phaos
)الضوء(، إذ أن إغلاق العين كثيراً ما يساعدنا على تكوين الصور التي لا نستطيع تكوينها في
الضياء. )كأنّ درويش يدلّ دارس قصيدته على هذا التفصيل حين يقول في القسم الثاني: «تعال
لنقتسم الضوء في قوّة الظل .)»
والتخييل في قصيدة «خطبة الهندي الأحمر ... » يميل إلى التصوير المشهدي العريض،
لكن ما يصوّره ليس عمليات تحويل للعنصر في موقعه من المشهد، وللدلالة )الفينومينولوجية
والوجودية( كما تتوالد بحركة حسية دائبة وانتقالية. وإذا كان لصورة ما أن تتحوّل في أية لحظة،

50

فذلك لكي تغني التنوّع المحتمَل الكامن في اللغة ذاتها مثلما في المشهد، دونما حاجة إلى المزيد
من التبديل في المفردات أو التفاصيل الطبوغرافية. ونضرب هنا الأمثلة المنفصلة التالية:

1 الصخرة:

لنا ما لنا من حصى ولكم ما لكم من حديد
وتنقصكم صخرة لا تطيع تدفق نهر الزمان السريع
وقلب يحكّ الصخور لتصقله في نداء الكمنجات
مشينا حفاة لنلمس روح الحصى
هذه الأرض جدّتنا، مقدسة كلها، حجراً حجراً
واحفرْ صليب الحديد على ظلّي الحجري
نطلّ على أرضنا من حصى أرضنا
والصخرة هنا تعني جملة أشياء دفعة واحدة، فهي شظايا الماضي التي يمكن قراءتها تاريخياً،
وهي مرجع رمزي يطلق الذهن بعيداً عن الحاضر، وهي صورة المادة الخام كما تقيم في الطبيعة
أو كما يكوّنها الكائن البشري، وهي نظير عناصر أخرى )مثل البحر والزهر( ليست أقلّ شحنة
رمزية، ولكنها أكثر استقلالاً عن الإدارة البشرية في تحوّلاتها، وهي أخيراً )في تحوّلاتها كصخرة
وحجر وحصى( معادل الروح والظلّ والقلب.
وغنيّ عن القول هنا إن مختلف تمثيلات الصخرة تشدّد على المقدّس في مضاعفات التمثيل
«( مقدّسة كلها، حجراً حجراً »(، وعلاقات المقدّس )أرضنا من حصى أرضنا(، وتأنيسه )روح
الحصى(، وتوازياته )حصى/حديد(، دون أن تشدّد على أي بُعْد أيقوني أو شعائري. ولسنا
بحاجة إلى «نداء الكمنجات » لكي ندرك استدخال السياق الشاماني في زمن كوني وإنساني
فسيح، خصوصاً وقد امتلكنا الحقّ في استدخال فلسطين في المشهد مثلما في المفردات والتفاصيل،
الطبوغرافية هذه المرّة.

2 الشجرة:

ماذا تريد من الذاهبين إلى شجرة الليل؟
آه يا أختي الشجرة
هنا في النفوس الطليقة بين السماء وبين الشجر

51

حديدي: استراتيجيات التعبير
أسماؤنا شجر من كلام الإله
لا تقطعوا شجر الرسم يا أيها القادمون
صفصافة تسير على قدم الريح
جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها
هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكستناء
سنمضي إلى حتفنا أولاً، سندافع عن شجر نرتديه.
وتحوّلات الشجرة مثال ممتاز على الإرتقاء بالصورة الحسية إلى مستوى رؤيوي تتداخل في
موشوراته البصرية الكثيفة عمليات تشخيص العنصر الطبيعي حتى حين يميل النصّ إلى التأمّل
الفلسفي أو الرثاء أو الندب، أو حتى حين يتناوب ذلك كله مع الإنشاد الملحمي. إنها الشجرة
ذاتها، الوسيط المتعالي بين الأرض والكائن والسماء، مقام الأرواح، رداء الجسد، وكلام
الإله.

3 السماء / النجوم / الغيوم:

لكنّ لون السماء تغيّر
ولدنا هنا بين ماء ونار.. ونولد ثانية في الغيوم
هنا في النفوس الطليقة بين السماء وبين الشجر
واتركْ لنا نجمتين لندفن أمواتنا في الفلك
واترك لنا أرض أسمائنا
سماء ضرورية للتراب
سماء تدلّت على ملحنا تسلم الروح
ويحفر في الأرض بئراً، ليدفن فيها السماء
لآلهة سكنت معنا، نجمة نجمة
لا سقف بين السماء وزرقة زبوابنا
هاهنا انتصر الغرباء على الملح،
واختلط البحر في الغيم
هنا تتبخّر أجسادنا، غيمة غيمة، في الفضاء

52

هنا تتلألأ أرواحنا، نجمة نجمة، في فضاء النشيد
من ثقوب الغيوم، نطلّ على أرضنا
من كلام النجوم نطلّ على أرضنا
وإذا كان محمود درويش قد بحث، في حلقتَيْ الصخر والشجر، عن المعادل الأرضي الكفيل
بتكوين تجربة ذهنية شاملة لانعطافات الأرض الجسد مثل مصائر الطبيعة البشر، فإنه في هذه
الحلقة يوجّه التخييل إلى الأعلى دون أن يغادر البسيطة، كما يُلاحَظ في جميع أمثلة هذه الحلقة.
الجانب المدهش الثاني هو أن هذا الجدل الفضائي الأرضي يَنتج أساساً عن جدل بصري بين الضياء
والعتمة، وربما عن ذلك التجاور بين ما يستدعيه كلّ منهما من أخيلة مستقلة وأخيلة متقاطعة.
وإذا أسفر المشهد عن درجة متقدمة من التباين فإن إيقاع استخدام «الغيوم » يكفل حلقة الوصل
ذات السمة المتحركة والفيزيائية )نولد في الغيوم، اختلط البحر في الغيم، ثقوب الغيوم(.
> > >
في تعليق سابق على مجموعة «أحد عشر كوكباً » اعتبرنا أن قصيدة محمود درويش ممارسة
أدبية نَصّية أكثر من كونها )أو قبل أن تكون( إنشاء خطابياً أسلوبياً. وثمة على الدوام سطوح
متعددة للمعنى والشكل، وجدل إشكالي نشط يطال سُبُل دخول النصّ في وظيفته الشعرية.
ولقد حاولنا في هذه المقاربة متابعة الستراتيجيات التعبيرية التي تتصل بالجانب الثاني، أي بقصيدة
درويش كإنشاء خطابي أسلوبي، مستندين في هذا الخيار إلى حقيقة أن «خطبة الهندي الأحمر
ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض » هي الأقل احتفاء يالأسلوب قياساً إلى قصائد المجموعة
الأخرى، الأمر الذي يجعلها أكثر تحريضاً على إغراء أو تحدّي الدراسة.
ويبقى القول إن قصائد درويش الملحمية الطويلة أتاحت لشكل النصّ أن ينفتح في مساحة
معناه تحت ضغط السياق التناسبي الذي تتطلبه علاقات المعنى وخيارات الشكل في إطار أعرض
ذي طابع ثقافي حضاري أو تاريخي. ولأنه ليس واقعة أدبية معلّقة خارج حياتها الاجتماعية
)حياة النصّ والشاعر والمتلقي، والعلاقات الإيديولوجية والسياسية والتاريخية الأخرى(، فإن
راهنه الأسلوبي ظلّ نوعاً من المراجعة الدائمة لبعض ما هو قائم، ولكثير مما كان في طور الولادة
والتكوين.

53

حديدي: استراتيجيات التعبير

إشارات:

(1) Margot Astrov (ed.): American Indian Prose and Poetry. An Anthology. The John
Day Company, New York, 1972. P. 3
.(نُشر الحوار في صحيفة «القدس العربي » )لندن 12 / 3/ 1993 ، وفصلية «الكرمل » )نيقوسيا، 47 ، 1993 ( 2)
ينبغي ألا يغيب عن البال هنا أن موضوعة «الهمجي النبيل » قد استُخدمت في سياق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على ( 3)
وكمحور لا يدور في واقع الأمر حول «الهمجي » نفسه، بل حول دور النبالة الإقطاعية ، Fetish نحو أقرب إلى البُدّ
في مجتمع تتقدّم مفاهيمه البرجوازية باضطراد. إنه لا يُستخدم «لتكريم الأقوام الأصلية، بل لتدمير فكرة النبالة ذاتها »
كما عبّر هايدن وايت. الهندي هنا يقوم بواجب مزدوج إيديولوجياً، في تمثيله للهمجي الذي يتوجب أن يخلي مكانه
للحضارة، وللنظام الأرستقراطي الذي يحتاج المجتمع البرجوازي الديمقراطي الجديد إلى استنفاده. ومنذ أن تحدّث بيتر
مارتير عن «المجتمع الذهبي » الذي يعيش فيه الهنود بعيداً عن الزيف والخديعة والمال والثياب، اقتفى أثره الفرنسي مونتين
في مقالته عن «العالم الجديد »، معتبراً عالم الهنود بمثابة الجمهورية الفاضلة التي تخيّلها أفلاطون، وسرد غونزالو مقطع
مارتير كلمة بكلمة تقريباً في مسرحية شكسبير "العاصفة". ديدرو فعل الشيء ذاته، وجان جاك روسو كان ذروة هذا
التقليد حين قَرَن فكرة العالم الجديد بالحرية والمساواة والثورة على الطغيان، جاعلاً من «الهمجي النبيل » رمزاً سياسياً،
ابن الطبيعة الطاهر والمحصّن والحر )مثلما فعل فولتير(. ذلك الرمز يظهر أيضاً عند لورد بايرون، وماري شيللي، وجورج
بانكروفت، وجيمس فنيمور كوبر، وهنري لونغفيلو، ونتانييل هوثورن، ووالت ويتمان، وجاك لندن، وإبتون سنكلير،
وألدوس هكسلي، وهارت كرين... حتى ليتساءل د. ه. لورانس: «لماذا يبدو الهندي وكأنه يصنع إيثاكا في الأوديسة
:الأمريكية؟ لماذا يظهر في صورة أبوللو وقد شوهتم كتفيه وخصره حتى بات يشبه امرأة »؟ أنظر
David Murray: Forked Tongues. London, Pintar, 1991.
.وكذلك دراستنا: 2941« : اكتشاف أمريكا واكتشاف الإنسان « ،» الكرمل 54 » ، 2991
أحد عشر كوكباً »، دار الجديد )بيروت( وتوبقال )الدار البيضاء(. ترقيم السطور من وضعنا وبعض الترتيب الطباعي 4) « )
.لا يتطابق بالضرورة مع الترتيب الطباعي في الأصل، وذلك لأغراض الدراسة
على سبيل المثال، في مراجعته للمجموعة كتب شوقي بزيع ) «الناقد « :)1993 ،58 ،» الهندي لا يطلب الغفران 5
لجلاديه، لكنه مع ذلك، ولشدّة مسالمته وصفاء روحه، يسأل البيض أن يقتسم الأرض معهم ما دامت تتسع للجميع
)...( كأن خطاب الهندي قناع للخطاب الفلسطيني المعاصر الذي يحاول عبثاً أن يقتسم الأرض والهواء مع اليهود الذين
». يريدون الحصول على هذه العناصر فوق جثة الفلسطيني لا برفقته
:وكانت أشهر نماذجه قصيدة «في محطة المترو »، وفيها يقول باوند ( 6)
وجوه تتجلّى وسط الحشود؛
.تويجات على غصن أسود نديّ

الكرمل 90