صبحي حديدي
(سوريا/ فرنسا)

لينا الطيبيلينا الطيبي (حالة معيارية) فريدة وذات مغزى خاص في المشهد المعاصر من قصيدة النثر العربية، وإذا لم تكن قسماتها الشعرية قد شاعت علي أساس من هذه المعيارية فلأن النقد المرافق لقصيدة النثر يميل إلي التوصيف التعميمي بدل التشريح التحليلي، ويتفادى إفراد الأصوات وفرز التجارب ومحاكمة الاسم الشعري بما له وما عليه، ويهلل لانتساب أي عضو جديد إلي (نادي قصيدة النثر) بصرف النظر عن أوراق الاعتماد، وبهذا القدر أو ذاك من الحماس العصبوي الذي لا يخلو من (حساسيات) صامتة، مؤجلة دائماً. والأرجح أن حياة هذا الشكل الشعري الجديد وطبيعة تطوّره الإشكالي الراهن ساعدت علي تشجيع التكديس وتفضيل التوحيد والميل إلي التعمية المهادنة، وأقصت مناخات التصارع والتمايز والمعايير المقارنة، وألغت احتمال وجود (ظواهر) متنازعة وسط الظاهرة الواحدة وما يجري في كنفها من تعايش آمن. هذه شروط آيلة موضوعياً إلي انقراض، ومصائر واستحقاقات الشكل الجديد سوف تُطرح بقوّة وعنف، ولن يتبقى من تراث التحزّب سوي فضائل المجتهدين المجددين و... زبد المتحزبين.

والطيبي (حالة معيارية) فريدة لأسباب يضيق المقام هنا عن تناولها بالتفصيل:

  1. لقد بدأت النشر عام 1982 بصوت متميّز وحار وغير عادي، ثم انضوت سريعاً في حلقة شعرية ضيقة وبدت أقرب إلي الاستكانة ـ تعبيرياً ـ إلي منطق الدور الذي تقتضيه عضويتها في حلقة متعددة الأدوار وعريضة الطموحات: منطق (قصائد المنزل) علي حدّ التعبير الوارد في الكلمة التقديمية لمجموعة الطيبي الأولي (شمس في خزانة) (1989). آنذاك، جاء في الكلمة: (لينا الطيبي بدأت كـ (واحد منّا) ثم تورطت في وحدة القصيدة. وحيدة، عليها أن تقف منذ الآن وسط غابة اللغة والأسئلة. وحيدة عليها أن تنهض بعبء الرؤيا والصوت الشخصيين).
  2. ولم تكذّب الطيبي خبراً! لقد كانت أصلاً تلعب في الحلقة إياها دوراً زائفاً، وكانت (غابة اللغة والأسئلة) الخاصة بها تدنيها من محمد الماغوط وأنسي الحاج وبعض عباس بيضون قبل أن تزجها في (النظام الداخلي) الذي التزم به أعضاء الحلقة وأنصار ومحازبي قصيدة النثر الثمانينية إجمالاً. في قرارتهم هم كان سعدي يوسف والشعر اليوناني المترجم وشيء من أدونيس وورينيه شار ووالت ويتمان وإليوت، وفي قرارتها كان الماغوط (خصوصاً في قصائد (يوم قوس قزح) و(بورتريه العاشق) و(مساء رجل) و(مساء ثان لرجل) و(اليوم الأول) و(اليوم الأخير) و(شطرنج) من مجموعة (شمس في خزانة))، ثم أنسي الحاج وإميلي دكنسون (خصوصاً في الفورة الحارّة لارتطام المحسوس الروحي بالمحسوس الفيزيائي، والتأمّل الغنائي في مطلق مشبع بعناصر الطبيعة، يواجه الذات ويكتنفها، ولا تسيّجه سوي الاستعارة والمجاز الحواري، كما في قصيدتها (يا بحر)).
  3. في (صورة شخصية)، المجموعة الثانية التي صدرت عام 4199، ولّت إلي الأبد (قصائد المنزل) التي لم توجد أصلاً! هذه هي المجموعة التي شهدت انشقاق لينا الطيبي، وعلي نحو راديكالي صاخب ومحيّر، ليس فقط عن البرنامج الجمالي والتعبيري للحلقة الشعرية التي ارتضت ذات يوم الانضمام إليها كعضو مراقب، بل أيضاً عن قسط كبير من الأعراف السائدة والمُسَيّدة أو المتَفق عليها في نماذج أواخر الثمانينات من قصيدة النثر العربية. خياراتها في ذلك كانت تنطوي علي المجازفة لأنها ـ للمفارقة ـ تقطع مع الراهن السهل والمستَسهل لكي ترتد إلي التأسيسي الشاق والمُغيّب. وإذا كانت تدفع في الاغتراب الانشقاقي ثمن الخروج ـ الأصيل المسلح وليس أي خروج ـ عن أعراف القطيع وثوابته الخفية التي تكرّس منطقاً جامداً للإندفاعة الجماعية الموحدة دون أن ترسّخ قواعد حركة ديناميكية تعددية، فإن الطيبي في هذا الخيار تجني الكثير من مثوبات صناعة الصوت الخاص المنشق، المتميّز لأنه تطهّر من عماء الانضواء وسكون الانزواء في آن معاً.
  4. في الخلفية الأعمق من هذا الانشقاق مبدأ ناظم محوري تتفرّع عنه، واستناداً إلي مقتضياته، سلسلة استراتيجيات تعبيرية وأسلوبية. أما المبدأ الناظم فهو وفاء الشاعرة للنثر، مادّتها الخطابية الأولي (والأخيرة!)، والوسيط الذي تشتغل عليه وبه لكي تعيد الاعتبار إلي الشعر والشعرية في النثر. إنها شاعرة تكتب قصيدة النثر بوصفها مادة خطابية وشعرية نثرية حصراً، وهي تنتمي إلي المشهد التسعيني علي نحو قاعدي إذا صحّ القول، وتنشق عنه في سياق الانتماء، وتتلمس الصوت الخاص غير الزائف وغير المزيِّف، وهي في ذلك لا تكف عن المجازفة والوقوف (وحيدة) كما توعّدتها الكلمة التقديمية في المجموعة الأولي. وحيدة ومعيارية ومنكشفة، لها ما لها وعليها ما عليها.
  5. وبصدور (هنا تعيش) تكون لينا الطيبي قد طبعت مجموعتها الثالثة، وأنجزت 412 قصيدة مُدْرَجة (باستثناء النتاج المتفرق المنشور وغير المدرج في المجموعات): 59 في المجموعة الأولي، و27 في الثانية، و84 في الثالثة لأن المقطوعات هنا قصائد كاملة الاستقلال قبل أن تكون أجزاء في قصيدة طويلة واحدة. أقصر القصائد موقعة في عام 1988 وتحمل اسم (الأحصنة)، وتتألف من سطر واحد يتيم: (الأبواب المغلقة تصهل في صدئها)، وأطول القصائد موقعة في عام 4199 وتحمل الاسم ـ الرقم XXVI وتتألف من 417 سطراً. وبالمعني الإحصائي تبدو الطيبي مقلّة بالقياس إلي مجايليها، وبالمعني التعبيري تبدو رحلتها من قصيدة السطر الواحد إلي القصيدة المديدة رحلة دراماتيكية راديكالية تؤشّر علي خيارات ذات دلالات أسلوبية وتعبيرية متعددة.
    في( شمس في خزانة) استخدمت طريقة تدوير السطور الشعرية علي امتدادها الطباعي مرّة واحدة في قصيدة (ميليشيا)، ولم يكن بغير مغزى خاص أنها أهدتها إلي عباس بيضون. في (صورة شخصية) ضربت صفحاً تامّاً عن هذا النمط في التقطيع، وفي (هنا تعيش) تعود إليه أكثر من خمس عشرة مرّة ولكنها تحكم وثاقه وتخضعه للحركة الأعلى في المقطع بأسره، ولا تترك له أن يستقل بذاته أو يقع في إسار السرد وتفكك التراكيب والإيقاعات. وفي المجموعتين السابقتين كان سطر الطيبي قصيراً وعجولاً ونزقاً، والدورة الاستعارية فيه وجيزة متقطعة، وعلامات الوقف شبه غائبة أو معطّلة علي ضرورتها. أمّا في (هنا تعيش) فإن منطق تقطيع السطور الشعرية يصبح استراتيجية مستقلة وصانعة لقسط عالٍ من وحدة القصيدة وعمارات المعني والإيقاع والتركيبي.
  6. ـ والطيبي، في الختام، شاعرة أنثي في محيط طاغٍ من الكتابة الشعرية النثرية الذكورية، الديمقراطية هنا والبطريركية هناك، المعادية إجمالاً للغنائية حين يتصل الأمر بشؤون الروح، والمولعة بأقصَيَيْن من الترميز الفلسفي الجاف أو الإيروسية الاستعلائية وشبه البهيمية حين يتصل الأمر بشؤون الجسد. والطيبي في هذه التنويعات الذكورية من (غابة الأسئلة واللغة) عرفت مشاق إدراك الصوت الأنثوي المركّب في تناقضاته وتصالحاته مع قطبي الروح والجسد، وفي عذابات أن يُطلق ببحّة أزمانه في وديان سحيقة عرفت من قبل بحّة أصوات أليسار وميديا وإلكترا.

وهذه ليست نسوية معتدلة أو نسوية مضمرة مقلوبة علي رأسها، وليست تحويل (آليات المنزل الرتيبة إلي شعر) لأن موضوعات القصائد، ببساطة، ليست امرأة وليست حياة امرأة. إنها الفضاءات العريضة التي تقاربها أنثي مسكونة بإنسانية وجودها، ممسوسة بوجدان طليق مشحون بمعادلات شعورية محمومة وبقدر استثنائي من الرهافة الميكروسكوبية، تشارك في ـ وتستسلم لانفتاح ـ مخيّلة مضطرمة وقودها مادة مجازية وتصويرية بالغة الكثافة، تقوم بتحويل تفاصيل الحياة المفردة إلي استعارة شاهقة معقدة لحياة كونية منبسطة بلا حدود ولا ضوابط.

***

في (هنا تعيش) تبلغ هذه السمات المعيارية درجة رفيعة من الإفصاح عن ديناميات انشقاق شعريات النثر عن شعريات قصيدة النثر كما يكرسها رسمياً نادي قصيدة النثر العربية المعاصرة، ولا يكرّس في ذلك سوي حالة إجماع معمّم بلا تخوم، وحالة تواطؤ تعبيري زائغ الملامح وفاقد، بالتالي، لأية قَسَمات خاصة وعلامات فارقة.

ولينا الطيبي اعتبرت القصائد الـ 84 في هنا تعيش قصيدة واحدة (طويلة في الواقع، إذ تبلغ أكثر من ألفَيْ سطر شعري)، وهذه هي المجازفة التعبيرية الأولي والمظهر الانشقاقي الأبرز في آن معاً. ذلك لأن الشكل الراهن المسيّد لقصيدة النثر العربية يأبي، إجمالاً، القصيدة الطويلة التي لا تتناسب مع ضغوطات الشكل العضوي المتراص، والتي تلزم الإشارة البرقية الخاطفة (السمة المقدسة في النتاج الشائع) بالتراجع أو الانحسار أو الغياب التام أمام المراكمة المحتومة التي يتطلبها فتح النص علي أمدية عريضة. ذلك لا يعني أن الطيبي تنفرد في هذا الخيار، وللمرء أن يسترجع محاولات عباس بيضون (في (خلاء هذا القدح) خصوصاً) ونوري الجرّاح (في (القصيدة والقصيدة في المرآة) ثم في (صعود إبريل)). ولكن الخيار هنا ينهض علي برنامج تعبيري تتآلف فيه عناصر البحث عن شعريات نثرية مكشوفة تجازف أول ما تجازف بالمادة الخطابية الطليقة وباللغة الطافحة بمخاطرها الداخلية ومآزق حُسْن (أو سوء) استقبالها، بحيث تتحوّل قراءة هنا تعيش إلي مجازفة لا تقلّ إشكالية عن مجازفة كتابته.

ولهذا فإننا في شعر الطيبي الأخير، وفي (هنا تعيش) أكثر من ذي قبل، لا نفلح إلا لماماً في استخراج وَعْينا بالمحتوي من أكداس وعينا بالشكل أو اللغة وانخراطنا في تقلباتهما الكثيرة. ذلك لأن مخيّلتها هي التي تغوينا أولاً، قبل المادة الغزيرة التي تنشرها الشاعرة لتغذية تلك المخيّلة. قبل تلك المادة، وبعدها أيضاً:

أيها الأصدقاءُ
كنّا انتظرناكم بجيوب مقفرةٍ
والآن، بيأس العارفِ
اشتبهنا بوحدتكم.
ميلوا كأغصان في ذاكرة خرفة،
الآن ..
نفتح لكم المساربَ بما لا يتاحُ،
هواءاتٍ،
ونحن الغرقى الموجوعينَ بالماءِ
ارتوينا،
ومن قبل كانت لنا آفاقنا.
ولأننا ناديناكم بالصوت وهو طريّ
خرجت ديارنا من الصدور.

في هذا المثال النموذجي يبدو السطح الشعري طافحاً بعناصر الامتلاء، والمفردات تدخل مع التراكيب والصياغات في علاقات توليدية متشابكة (جيوب، اشتبهنا، كأغصان في ذاكرة خرفة، هواءات، خرجت ديارنا من الصدور) تجعل الحصيلة الشعورية تتدفق علي هيئة رشقات حادّة، أكثر من كونها انسيابات يسيرة. هنالك احتشاد للتداعيات، تلك التي تنفصل عن بعضها البعض رغم استمرار ارتباطها بالسياق الأعلى، وثمة في السطح قَدْر من العشوائية المقصودة في توزيع النبرة (التنويع بين النداء والأمر، والزمن الماضي والحاضر، وضمائر المتكلم والمخاطب، والباء الجارّة في تركيب متباين: بجيوب مقفرة، بيأس العارف، بوحدتكم، بما لا يتاح، بالماء، بالصوت)، ولكنها عشوائية هندسية علي طريقة الأواني المستطرقة، لا تصمد طويلاً حتى تشف عن منطقها الداخلي الخاص حين تتواتر الصور وتترادف، ويلوح أحياناً وكأن بعضها يتعثّر بالبعض الآخر، ويكاد المقطع ـ كحال معظم القصائد ـ يختنق بحركة وتلاطم وتداخل الصور.
وضمن عامل الامتلاء هذا، وبسبب منه أساساً، تبدو اللغة الشعرية عند الطيبي متراصة علي نحو إهليلجي أقرب إلي القطع الناقص تارة، ومتقطعة علي نحو انتثاري أقرب إلي البقع الطيفية طوراً، ومفتقرة أحياناً إلي التنظيم النَحْوي المألوف. وعالم الأسلوبيات جيمس بيتر ثورن كان قد أوضح أن قراءة قصيدة هي، غالباً، عملية شبيهة بتعلّم لغة جديدة: نحن في البدء نطوّر قدرة ما علي تكوين سلسلة حدوسات حول بنية اللغة، ثم نتملّك أساساً نَحْوياً لتنظيم تلك الحدوسات. واستراتيجية الطيبي ليست بعيدة هنا عن هذا التقاسم، ليس فقط لأن اختلاف لغة الشعر عن (اللغات) الأخرى يكمن في استئثار عناصر الشكل بحق وأواليات نقل المعني، بل أيضاً لأن لغة الكلام تنقل الإشارة ولغة الشعر تضمرها طيّ التحام العناصر التركيبية والدلالية والاستعارية. في القصيدة XXII تقول الطيبي:

تُركتْ يدي مذْ كانت لي في الرواية؛
وتُركتُ علي النزهة من البحرِ،
تُركتُ في عبور المسلحين، لما كان صدري وصوتي،
تُركتُ في الذي بقي منّي، أجمعُ الصورَ
قدماي صنيعتا ألمٍ.


والتخطيط الإهليلجي تتكفل به صيغة المبني للمجهول من الفعل (ترك) في تنويعات نائب الفاعل وافتتاح السطور، وتتكفل به بقدر أقل ضمائر المتكلم (يدي، لي، صدري، صوتي، منّي، قدماي). والتخطيط الانتثاري تتحمله شبكة الصور وانتقالات المعني علي نحو مفاجئ، من اليد المتروكة في الرواية، إلي الكائن المتكلم المتروك علي النزهة ثم عبور المسلحين والذي بقي منه في جمع الصور، واختتام الحركة بقطع حاد إلي (قدماي صنيعتا ألم). ولكن الصعوبة المركزية في قراءة هذا المقطع، وربما معظم هذا النمط من الكتابة الشعرية، تنبع من حالة التوتر بين الرغبة الجامحة في تغريب التركيب اللفظي، وبين الحدود الدنيا للحفاظ علي خط واضح في تجميع وإيصال المعني.

ونحن نُجابَه أولاً بغرابة موقع مفردات مثل (رواية) و(مسلحين) و(صنيعتا)، ثم ننتقل إلي طور آخر من إقامة الصلة بين هذه والتراكيب التي تساهم في تكوينها (يدي ---‹ مذْ كانت لي ---‹ في الرواية، علي النزهة ---‹ من البحر، تُركت في ---‹ عبور ---‹ المسلحين، قدماي ---‹ صنيعتا ---‹ ألمٍ)، ثم التركيب النحوي المفقود حين لا ندرك الجواب المنطقي وراء ترك اليد مذ كانت لها في الرواية، وغرابة علاقات الجار والمجرور (في النزهة/من البحر) في السطر الثاني، وجواب (لما كان) و(كان) في السطر الثالث، وغياب علامة الوقف في نهاية السطر الرابع بحيث تُقام علاقة غائبة ـ حاضرة بين (الصور) و(قدماي).

وكلما شدّت القصيدة انتباهنا بعناصرها الشكلية والبنائية، من النوع الذي ذكرناه وسواه، ازداد اقتران عمليات تجميع المعني عند القار بمُضْمَر مرن وبمخيّلة داخل المخيّلة، وازداد تحّول الحدوسات إلي لغة ثانية داخل اللغة الشعرية الأولي: تولّد مفرداتها وتراكيبها وعلاقاتها، وتتحرك في الامتلاء نحو نفق استعاري ضيّق المساحة ولكنه عميق الغور وناقل مرهف للوقع والأصداء والظلال. ووسائل الطيبي في بناء هذا النفق تبدأ من عمليات ضغط اللغة وحذف توافقاتها المألوفة، ثم تفرّع عن ذلك سلسلة العمليات اللاحقة أو السابقة أو الوسيطة الكفيلة بخلق درجات التكثيف (حذف مفردة أو عنصر حاسم في التركيب، الإبدال الصرفي المباغت، تشديد الاستعارة، تشديد التداعي المعجمي، استخدام معجم تجريدي في تراكيب بسيطة أو العكس، مضاعفة الغموض ومزج أكثر من فكرة واحدة في آن معاً، أو إخفاء فكرة ما في أهاب سواها دون إيضاح الرابط أو مظهر الربط).

وفي أمكنة أخري من هنا تعيش، تقول الطيبي: (الرحيق يفوّح الخلاء)، و(أتنبّت كحشائش رعناء/مجدداً أقتَلِعُني)، و(وبعلوّ الشهقة أرفع الشمس)، و(نسجَ روائيون جدد مداخل الأزهار)، و(تلامُسٌ كان فضاءً قالني)، و(إذ أنام علي الوفاق)، و(أعطني قليلاً من سكّر الموت)، و(الماء ينفر متلاصقاً يرشقُ التعَبَ)، و(لألتمع في العالي من الرزق)، و(صوتي مرور مقفل)، و(كان الوقت يمرّ، وكان برتقالاً)، و(يكون لحجارة بيضاء أن تمرّر الرمال في إفلاتة الضرير)، و(بالرغيف إذ يتنادى متخففاً)، و(المدينة نهضة القاع في إشفاقة العالي).

وثمة بين تلك العمليات واحدة جديرة بوقفة خاصة، وهي استخدام صيغة الفعل المبني للمجهول أكثر من 80 مرّة، في تشكيلات متعددة لعل أكثرها تطرفاً صيغة المبني للمجهول بالمضارع البسيط وبضمير المتكلم. والطيبي تقول: (ولما أُسأل يُحارُ بي جوابي)، و(رحت في غرفتي أُضاءُ بالزهرية)، و(وكنت إذ أُدرَك بالنوم)، و(إذ لا أُغمَرُ حتى النسيان)، و(لما أُسحَرُ بموتي). وفي القصيدة XXXV تقول:


ساكني، إذ يميل مائي، وأنحدر شلالاً في الحنين العالي،
إذ أهَبُ بقائيَ إلي زوالٍ،
إذ أنجو في التقطّر، وأُحمَلُ في صَلاتي.

ساكني، إذ أُخطَفُ ولا أكونُ،
مرآتيَ توهّجُ مخيلتي.

والمبني للمجهول يدخل هنا في تواشج تركيبي خفي مع حالات إرداف المعني وتدفق الصور، كما يقوم بدور أداة الربط الغائبة (أو المحذوفة عمداً) بين الجملة الاسمية القصيرة والجملة الفعلية الطويلة، بقدر ما يشارك مع المبني للمعلوم في توزيع حركة حرف اللام (12 مرّة) والياء (13 مرّة)، ويناظر الاستخدام النادر للفعل (توهّجُ). وصيغة المبني للمجهول في المضارع البسيط، وبضمير المتكلم في أمثلة عديدة، هي الحامل التعبيري لرحلة الطيبي في مجاهيل الروح وخلق النفق العميق الذي يسمح بمرور مشهد زاخر، عابر للذهن وعابر للغة في الذهن أيضاً. وهي عملية تتكرر مراراً وبحجوم مختلفة في المجموعة، وإن كانت أكثر بروزاً وقصدية في المثال السابق أو في القصيدة الأولي حين تقول الطيبي: (السائرون يقفون كموج هلع/لا سميرَ/لا شريطَ يُقصُ/لاشاشة بيضاء/لا سماءَ../نسدلُ الستائرَ/ونقتصّ من اليوم)، سواء لجهة حركة أحرف اللام والسين والشين والصاد والضاد والراء، أو توزيع المبني للمجهول في القصيدة بالقياس إلي المبني للمعلوم وبالعلاقة مع تنويع الصوت بوسيلة تنويع الضمائر (هو، أنا، أنتِ، نحن).

والعملية الأخيرة تتحوّل إلي استراتيجية طاغية تهيمن علي المجموعة، وبإفراط محيّر بعض الشيء يشكّل، بدوره، مصدراً جديداً وراء صعوبة قراءة نصوص الطيبي الأخيرة وعنصراً إضافياً لمحتوي المجازفة في القراءة. ذلك لأن التعدد الصوتي Plyphony يقترن في معظم الحالات بتعدد في المعني Polysemy وفي الدلالة، وهذا أمر طبيعي باستثناء أن الطيبي تفتحه في شبكة غامضة من امتزاج ضمير المتكلم أو المخاطب (المفرد إجمالاً) بضمير غائم الملامح أو منشطر التصريح، ثم تفتحه أكثر حين تلجأ إلي (تغريب) المفردة وتوليدها وإعادة توليدها بحيث يغيب الصوت أو تتداخل أصواته المنشطرة عنه في نسيج دلالي ولفظي جديد أكثر تدفقاً وإثارة للحيرة. في القصيدة XVII تقول الطيبي:


أصحو علي مناديل تنتحبُ،
ألملم ملابسي ..
الليلكُ لليلكِ
والأحمر له..
الأبيضُ لا
والأسود مَلك،
هكذا أرتّب حياتي في حذاء تحت السرير (...)


والمفارقة هنا تتمثل في أن الذهاب إلي أقصي التغريب الدلالي واللفظي والنحوي يفضي إلي عمارة إيقاعية مرهفة تكاد تستأثر بالشحنة الأولي من توتّر القراءة، وتغمر (النثر اليومي) بغطاء هندسي محسوب وقائم في تصميمه علي (صنعة) صريحة عن سابق قصد وتصميم. ولكن أليست هذه واحدة من المفارقات الكبرى في جدل الشكل الجديد؟ أليست قصيدة النثر هي التحقّق الإعجازي لحلم مشروع بـ (نثر شعري، وموسيقي بلا قافية أو وزن، ناعمة راعشة بما يكفي للتلاؤم مع النقلات الغنائية للروح، ومع تموّجات البرهة الحالمة، وانقلابات الضمير) كما عبّر بودلير ذات يوم؟ أليس الشق الثاني من المفارقة أن الطيبي تستعيض عن (الوزن) بما هو أشدّ صنعة وتصميماً وتخطيطاً؟ وإذا لم تكن هذه بعض شعريات النثر وبعض مهاراته في التحريض الشعوري وبعض توظيفه واستغلاله للخامة اللغوية التي لا تكون (نثرية مجّانية) أبد الدهر، فماذا في قصيدة النثر من فنّ شعري؟

ولكن ... أليس امتياز لينا الطيبي أنها، أساساً، تنشقّ عن شعريات باتت جامدة ومتماثلة وساكنة لأنها كفّت عن الانبثاق من الجدل اليومي العسير لشكل قصيدة النثر أواسط الثمانينات ومطالع التسعينات، وانقلبت إلي بيان تأسيسي دائم ولائحة أوصاف ثابتة و(نظام داخلي) يحكم ويحدّد الشروط المسبقة في انتخاب طبيعي رتيب لا يعوقه طارئ عن استيلاد مخلوق عجيب برؤوس متعددة دائبة االتحرك والتقلّب والاستقراء، وبجثة ضخمة ثقيلة لا تبرح المساحة المقدسة الضيقة التي تدعي (حركة قصيدة النثر)؟

***

وكما يحدث في صورة شخصية، تظل موضوعات لينا الطيبي أسيرة المعادلة التالية: النصّ، من جانب أول، يسعى إلي التوغل في غياهب نفس واحدة متَخيّلة ولكنها تتضاعف وتتراكب وتتنوّع وتنشطر في برهة كثيفة من التقاء الذات بالعالم والمحيط والعناصر؛ ولكن النصّ من جانب ثان ينوء تحت أثقال رصد الأحاسيس الداخلية للذات الشاعرة الأمّ، حتى أنه يتكشف في أمثلة كثيرة عن حلبة تصارع واستئثار وشدّ وجذب، وساحة انعكاس لأواليات مرآة مسطحة وسيطة وبالغة الحساسية، تستقبل الصورة مثلما تستقبلها، وتنظّم عمليات الانعكاس مثلما تنسف تواترها الآمن السلس. ومما له دلالة خاصة أن مفردة (مرآة) تتكرر أكثر من 20 مرّة علي مدار القصائد. والشاعرة ذاتها تقول:

شاعرٌ ظلّ يلعب بالكلمات ويحمل رأسي، يجوس الموسيقي،
ويراقص الحب. وكنت في شتاء الذكريات مشرقية الهوى،
غائمة الوجد. هتفت بي الأغنية، ورحتُ في غرفتي أُضاء
بالزهرية. ذهبت في المرآة، طيفي يخطف الوهج، وإذ كُتبتُ
قلتُ أحبُ، ورحت في زقاق الحيرة ألتقط ندي الفكر، أشرّدُ
الحواس وأوجز. مذ ذاك أُنبئت بالحلم، وذهبت في الرقم بلا
نصير.

وفي موضع آخر تقول:

إذ يتشقق الهواء قاسياً ويسيّرني، أقفُ أمام المرآة لأراني،
لأكون روحي في ضربة الانعكاس، لأري ظلكَ، وأكونكَ،
وأكون معكَ، لأشبّهكَ بقصيدتي ولأشبه شعري. كم أشبه
شعري، كم أنا منه، لما يخرج، لما يدخل، لما يتكسر، لما يعود
لي، أما أشبهك، لما ما أعود سواكَ.

وما يعيش هنا أكثر بانورامية واتساعاً من أن يكون (هي) التي (هنا) تعيش، وأكثر غنائية وارتداداً إلي مجاهيل داخل عميق من أن يكون لقطات مقرّبة منتقاة من سيرة متقطعة، وأشدّ استدراجاً للخارج الطبيعي من أن يكون تجوالاً متدرجاً في صوفية الروح وجلاء الموت وانقلابات النفس في بهاء الحب والغبطة والحنين والحداد والتوق. وما يعيش هنا هو تلفّظ لغوي حول دوائر العيش، ولا مناص له من تكوين هذا القدر أو ذاك من العجوزات عن وعي العيش في حقائقه الدنيا الضرورية، وعجوزات تطويع الأداء بحيث ينحني أمام عواصف أخري تدور حول أنماط أخري من الموت واليأس والاندحار والتشوّه. وفي مجموعة لا تكفّ عن تصوير حالة وجود متنابذة وقصوى، وتكاد تنأي عن حدود الوجود الواحد ذاته إلي الوجود المتضاعف (حيث اللاوجود بعض مضاعفاته)، أيّ رسالة في وعي العيش الآخر تخلّفها هذه القصائد؟ سؤال هو الأقسى، لأنه سؤال معرفي في معرفة اليومي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي. وهو سؤال يطال معظم النتاج الشعري المعاصر، ولن تزعم هذه السطور التصدي له في هذا المقام.

ويبقي أن ما يعيش في هذه القصائد بَوْحيٌ آسر في تشديده علي ملاقاة الذات، واعترافي مشحون حين لا يفلح في السيطرة علي انفلات الهلوسة، واستبطاني سِيَريٌ مصاب بحمّي المكان وهذيان الزمان، قبل السكني في صورة المكان والزمان. وإذا كانت لينا الطيبي تحصر بعض مسارها في (تواطؤ الصور مع النفس) كما تقول، فلأن رحلتها المرهفة في نفق عميق كريم هي انبناء فاتن في المجهول وامتلاء غامض بالمضارع المتوثب أبداً نحو المعلوم. وكما في الصلاة البوذية، لقد سمعنا صوت تصفيق الكفّين، فهل سمعنا صوت الواحدة منهما تصفّق، وتصفّق؟

1996


إقرأ أيضاً: