المرة الأولى تسلمتُ فيها رسالة "حقيقية"، لبضعة أعوام خلت، كانت من قارئة لي في السعودية، نظرتُ الى الغلاف الموضوع على الطاولة أمامي غير مصدّقة، كأنه معجزة. كنتُ "أسمع" في طفولتي عن ساعي البريد، لكني درّبتُ نفسي على الاعتقاد بأنه شخصية اسطورية، مثل بيضاء الثلج وسندريلا. كيف لا، وقد نشأت في بيروت أيام الحرب، حيث لم يكن هناك بريد ولا من يحزنون. بل إني كنتُ أحسد الأجانب في الأفلام كلما رأيت ساعي البريد يصل على دراجته الى باحة بيتهم، ويودع رسائل في صناديقهم، وأشتهي أن أتسلم رسالة واحدة في حياتي.
لأجل ذلك شكّلت شبكة الانترنت، ومعها البريد الالكتروني، "فشة خلق" عظيمة بالنسبة إليّ في التسعينات، انتقمتُ فيها، وبواسطتها، من كل القمع التواصلي الذي عانيته قبلاً. صرتُ أفتح علبة بريدي كل يوم بترقّب وحماسة، متشوقة الى المفاجآت التي سيحملها إليّ ذلك الفضاء الافتراضي الواسع.
ثم جاءت الألفية الجديدة، ومعها عهد مواقع التواصل الاجتماعي، وأهمها الـ"فايسبوك". أعترف بأني قاومت هذا بشدّة حتى صيف السنة الفائتة، ثم خطر لي أن انشئ صفحة أثناء ليلة أرق في مكسيكو. فوقعتُ و"علقتُ".
قصائد، أفكار، مقالات، انفعالات، أسرار، مشاهدات... وصداقات. صداقات خصوصاً. بسبب منه، بات هناك حبل سرّة يصلني بكومبيوتري وبالـ"بلاكبيري"، وبات عندي أصدقاء وصديقات وقراء وقارئات أحبّهم حدّ شعوري بأنهم من لحمي ودمي، حتى أولئك الذين لن ألتقيهم يوماً على الأرجح وجهاً لوجه. هديل التي تخبرني عن قرارها الشجاع أن تتبنى طفلة رغم أنف عائلتها. نبيل الذي يصرّ على أن يناقشني في الدين كي "يهديني" إلى الصراط. تغريد التي تحلم بالخروج من غزّة. سهى التي تودعني مشكلاتها العاطفية من الرباط. هدى التي أتخانق معها في السياسة. سعيد الذي يشرق عليَّ نبله كل مساء من عمّان. والعشرات والمئات من الأصدقاء الآخرين، الأكثر حضوراً أحياناً من أصدقاء الحياة الواقعية. ترى كم من الخسارات الإنسانية لولا الـ"فايس بوك"؟ كم من الخسارات الشعرية أيضاً؟ الشعرية أجل، صدِّقوا. هي لكانت أكثر من أن تُحصى. أفدح من أن تُتخيّل.
تقولون سيئات؟ طبعاً للـ"فايسبوك" سيئات. لكن الاستخدام رهن المستخدِم، ومسؤوليته. على رغم اجتياحه فسحة الحياة الخاصة، والنبرة الاستعراضية التي يفرضها، واستئثاره بالوقت، وإرهاب تحوّله ضرورةً في عصرنا، وسرعة التفاعل التي يتطلبها؛ وعلى رغم الفلتان الانترنتي الذي يتسم بعنف إعلامي وقذارة إعلانية مشبوهين الى حدّ لم يسبق له مثيل باسم حرية التعبير، ها هو عالمٌ كامل، بناسه وجباله وأنهاره وأفكاره وحسناته ومصائبه، في قبضة يد: هل أجمل من ذلك؟ هل شرّ من ذلك؟
النهار
8-8-2011