بعد التراسل عبر الانترنت، والتعارف عبر الانترنت، والغرام عبر الانترنت، والجنس عبر الانترنت، صار ممكناً اليوم... العناق عبر الانترنت: الخبر تنقله مجلة علمية مرموقة، اذ تعلن اختراع قميص خاص موصول بالشبكة وبتقنية الـBluetooth، يستطيع أن يرتديه كل راغبين بالعناق بين بلدٍ وآخر، أو حتى بين قارة وأخرى: هكذا، إذا لفّ روميو، على سبيل المثال، ذراعيه حول نفسه في مكسيكو، وأحكم الضغط والشدّ والعصر، يمكن جولييت، من على شرفة بيتها في فيرونا، أن تشعر بيديه حول خصرها، وأن تعانقه بدورها بالطريقة نفسها!
أقرأ الخبر المذهل وأفكّر: ماذا بعد؟ التقبيل على الانترنت؟ ممارسة الحب على الانترنت؟ إنجاب الأطفال على الانترنت؟ لا حدود لما يمكن الخيال نسجه في هذا الاتجاه...
ماذا بعد؟ تساءلتُ، وأنا من أبناء هذا العصر الموصولين، بحبال سرّة حيوية، بالحاسوب والهاتف النقال والـ ipod وسواها من الأكسسوارات الالكترونية التي لم تعد ترفاً بل ضرورة (أقله بالنسبة الى هذه الفئة من الناس). ماذا بعد؟ أنا التي بات عقلي وغريزتي وطباعي "كومبيوترية" الى حد أني منذ ايام، عندما تفوّهتُ، غاضبةً، بكلمات قاسية في وجه أحدهم، كان رد فعلي الفوري البحث عن زر الـbackspace لاستعادة ما قلته!
إذاً، ماذا بعد؟
يدٌ من لحم ودم تمتد بشغف وحنان الى يدٍ ثانية. شفةٌ عاشقة موهوبة الى شفة ثانية. جسدٌ حقيقي ملتصق بجسد ثانٍ. حرارة قلب وروح ورغبة مشتعلة في قلب وروح ورغبة ثانية... هكذا دواليك، والى ما لا نهاية. الى ما لا يمكن أي جهازٍ توليده أو استنساخه او الحلول مكانه، مهما أبدع بيل غيتس وأمثاله!
•••
لا شك في أن اختراع الشبكة الانترنتية من أهم منجزات القرن الفائت، لكن لا بد من الاعتراف، حتى من جانب اشد مناصريها حماسة (وأنا منهم)، أنها سيف ذو حدّين: فإذا كانت، من جهة، "تجعل العالم قرية صغيرة" (كليشيه مكرور لكنه صحيح ودقيق)، وتسهّل التواصل والتناضح بين الناس والثقافات، فإنها، من جهة أخرى، تتيح شتى أنواع الانتهاكات باسم حرية التعبير. ولكن، ألا تفترض حرية التعبير درجة عالية من احترام الذات والآخر، ومن الذكاء والمعرفة والرقي؟ ألم يقل كامو إن الحرية تُستحَقّ، ولا تعطى؟ ألم تعلن سيمون دو بوفوار أنها، أي الحرية، أخطر من كل سلاح ناري إذا ما وضعت في يد أشرار يسيئون استعمالها؟
بين هذين الحدّين، الدفاع عن الحرية المطلقة بلا قيد أو شرط، والمناداة بالحرية المسؤولة، شجب الرقابة على انواعها، والاقتناع بأنها شر لا بد منه لمحاربة أصحاب النفوس الدنئية، المطالبة باللامشروطية "الالكترونية"، والتخوّف من نتائجها وعواقبها...، بين هذه وتلك، لا مفرّ من أن تتخلخل بوصلة المثقف المعاصر، ومن أن تضيع معاييره قليلا: نعم، نحن نريد الحرية وننشدها ونعتبرها حقاً مطلقاً من حقوقنا كبشر، لكننا، من ناحية أخرى، لا نعرف كيف نستطيع التوفيق بين دفاعنا الشرس عن هذا الحق، وبين مراقبتنا، مكتوفي الأيدي (بل مقيّديها)، أنذالاً يستغلون الحق نفسه لكي يسوّقوا، على سبيل المثال لا الحصر، دعارة الاطفال على الانترنت، يساعدهم في ذلك الانعدام المطلق لأي حواجز أو روادع قانونية تقريباً، وخصوصا في بلداننا العربية.
أين تقف حدود حريتنا الانترنتية، وأين تتقاطع مع حرية الآخر، ومع مساحته؟ أصبح هناك في الغرب "بوليس" خاص بالانترنت، ومحاكم خاصة بالانترنت، ومحامون متخصصون في القضايا والنزاعات الانترنتية، أما نحن، فلم نزل بعيدين كل البعد عن هذا المفهوم. ربما (وأصرّ: ربما)، نصل إليه في أحد الأيام، ولكن، ما الحلّ في تلك الأثناء؟
قد يكون الحل في أن نوجد اختبار "أهلية" للحرية، بما ينبغي أن تشتمل عليه هذه الأهلية من مسؤولية اخلاقية ورزانة ونبل وقيم وضمير وتحضّر وجدية إنسانية. هكذا، سيكون على كل من يرغب في أن يكون حرّاً على الانترنت (وخارجها)، أن يخضع لهذا الاختبار (على غرار اختبار قيادة السيارات)، كي يُمنح "رخصة" حرية. وكلما انتهك بحريته هذه حقوق آخرين، تُسحَب منه رخصته على الفور: حلّ طوباوي طبعا، وغير قابل للتنفيذ عملياً، للأسف.
مربكةٌ حرية التعبير: "عليّ وعلى اعدائي يا رب"؟
بل "لي ولأعدائي". حتى إشعارٍ آخر.
•••
أحبّكَ يا لوح مفاتيحي.
أحبّ أزرارك الصغيرة الشاسعة، المشرّعة على ألف احتمال واحتمال (أحبّ، خصوصاً، كبسة الـdelete المخلِّصة!). أحبّ سرعتك في تلبية أفكاري، وأحبّ ترتيبك وتفاعليتك وبراغماتيتك التي تنسجم مع هوسي بالفوضى المنظّمة. بل وأحبّ حتى شللك وجمودك وعدم انصياعك لطلباتي أحياناً، وهو عطل تقني يشبه أكثر ما يشبه تمرّد جنديّ على ضابطه.
أحبّ ملمسك ايضاً أيها اللوح اللذيذ، وتباً للعلاقة الأسطورية مع القلم والورقة.
النهار- 18 يونيو 2007
إقرأ أيضاً:-