المعتقل عالمٌ عصيٌّ على الاختراق من دون أن تُحفّ َ الروحُ بالسواد والغياب. والكلام فخ؛ أجل كيف أكتب؟! كيف أكون راويًا يجْمع آلافَ الأصوات ويحرص على ألاّ يذيبَها في صوته؟ وكيف لي أن أرسمَ مشهدًا عامّاً داخليّاً، وأن أحتفظَ بخصوصية كلّ روح، وهي خصوصيّةٌ تتفاوت إلى حدود التناقض أحيانًا عند الشخص نفسه، فكيف بعشرات الأرواح؟ وهذا يفسّر أحيانًا التناقضاتِ في صوت المتكلّم في النصّ، وهو ما دفعني إلى اختيار عنوان ملتبس "المعتقَل" باعتباره اسمَ مكانٍ، وباعتباره صفةً لشخصٍ أُجبر على دخول التجربة، وباعتباره مبتدأً لم يأتِ خبرُه. أريد أن أكتب عن المعتقلين خارج قالبَيِ البطل والضحيّة؛ فهذان حقلان قاصران يُغلّبان الجزءَ على الكلّ. أريد أن أبحث في تفاصيل الألم الصامت والمسعور، الملامح الجامدة والمتشنِّجة، الحلم في الزنزانة المنفردة أو المهجع، في الذاكرة والزمن، في الأنثى الغائبة والحنين الذي يذيب الصدرَ أو يخلق منه أرضًا حرّةً ، في ألم الزوجات والأبناء، في خلق وسائلَ مدهشةٍ للتكيّف، في حبّ الحياة. أجل، أريد أن أكتب عن العالم الداخليّ للسجين وتفاصيله الصغيرة: فهذا هو الحقل الأهمّ الذي ندرتْ مقاربتُه، وهو الثمنُ الهائلُ المهمَلُ الذي يُختزل بكلمة "تضحية" من دون أيّ جهدٍ في نبشِه وتذوّقِه وشمّ غابة الحسّ فيه.
معظمُ ما كُتب هنا نصوصٌ مفتوحةٌ، غير مصنّفة ضمن نوعٍ أدبيٍّ بعينه. وهي نصوصٌ توثيقيّة، لأحداثٍ حقيقيّةٍ رواها لي عددٌ من السجناء السياسيين في مراحلَ مختلفةٍ وظروفٍ مختلفة. والنصّ يحرص على ألاّ يكون وثيقةً تاريخية بل وثيقة حسّية. ولقد كان السؤالُ الأصعبُ بالنسبة إليّ هو ذلك الحاجز الواهي ما بين الشخصيّ، والنقلِ الأمينِ لما قيل من شهاداتٍ رفض بعضُ أصحابها أن تُذكر أسماؤهم: إنه الحاجزُ ما بين الشعريّ والسرد النثريّ، ما بين المجاز والمباشرة، ما بين الصنعة والصدق.
هناك حوادث أوصلتني إلى حدود البكاء، وذلك عندما تُختبر الحياةُ على التخوم التي تتخطّى القهرَ والغياب. سمعتُ عشرات القصص، ولم أكتبها جميعًا، ولم أسمحْ لصوتي الداخلي بأن يعلو على صوت الآخرين. وهذا النصّ الطويل هنا محاولةٌ لتشكيل فسيفساء من عشرات الأرواح، تشكيلٍ لملامح السواد ولذاكرةٍ تنزّ. إنه نصّ طويلٌ آمل أن ينتهي. في ما يلي بعض المقاطع منه.
ع. ع.
دمشق
صلاة
أسير كقافلةٍ من حنينٍ
على دربيَ اللوْلبيِّ.
أَدُور كصوتٍ يودُّ الوصولَ
إلى حافةِ المستحيل.
أفتّش عن غيمةٍ في الطريقِ القصيرِ
الذي لا يُرى،
لأَقشرَ عنّي السوادَ.
وألبسُ ماءً طريّاً
أسدُّ المسامَ لأحفظَ روحي.
وجهي نديمي،
وظلّي يذوب بماء الجدارِ.
أدقّ السماءَ بكعبي،
وأهفو سماءً على نفسيَ الواهنةْ.
دمي مؤْنِسي وسطَ هذا الجنون،
وقلبي جارٌ قريبٌ،
وكفّي وشاحٌ لأنثى
تئنّ بكفّيْن شاحبتيْن
تصلّي كسروٍ
بليل العواصفِ.
كفّي وشاحٌ لأمي
تموتُ
وتحيا..
لكي لا تراني بأرض السواد.
لوحة
أقول لجاري
(أعْلم أنّه لا يسمعني):
"ينقصني قليلٌ من الأحمر لأنهيَ لوحتي."
يردّ
(رغم أنه يعْلم أني لا أسمعه):
"دمي يميل للسواد."
هنا، وسط السواد،
أبدأ تمارينَ الحياة (أو ترويض القبر).
الصبرُ درعي،
والعينُ رمحي.
لكنْ..
المرارةُ في فمي تزداد ملوحةً.
"إنه دمٌ طازجٌ
عمْ مساءً.. يا دمي!"
كبرياء
الكبرياءُ.. هذه اللعنة الغامقة..جلدٌ يابسٌ فوق اللحم
غصّةٌ ورديةٌ بعينين برّيّتيْن.. روحي وهي تعلق في الشراقة
إنها أمي وهي تسير على الشرفة المشمسة.
ينهكني الحنين، والوقت عِدائيٌّ.
أتفرّسُ في كفّيَ، أعصرُ هواءها
والمشهدُ يغيم.
..
متى؟
متى، يا مَنْ يسمّونك ربّاً، متى؟!
واهنٌ كأرنب، وروحي معلّقة على الجدار، ولا شيء يؤلمني غير النسيان.
يا الله.. أيتها الملائكة.. يا شياطين.. أصدقائي!
أيتها الوحدةُ المفتوحةُ كفمٍ ميت
الكأس تفتتح بابَ الغياب.
الضوء مشبعٌ بغبار الصور.
أغيب..
أصحو
كأني في غير قبري.
أزرع ريحانًا
وأرسل قلبي للشوارع.
أشمّ الهواءَ الثقيلَ وأغنّي.
أنظر للنساء
لحمرة الخدود ولون الشفاه
ولعابِ الأمنيات،
للشعرِ الشرسِ تحت الحجاب،
وللحَلَقِ يرنُّ
يقود قطيعَ الغيم..
أصغي لوقع الأحذية في الممرّات،
وهمسِ الناس في المقاهي.
أسير لأمسحَ قلبي بجذوع الأشجار الوسخة،
وألقي نفسي على الرصيف
ككتب الحبّ والفلسفة،
وأنظر من الأسفل..
ستقترب السماء
وتضمّد كبريائي
عَلِّيَ أغفو
دون ألم.
في الليل
في الليل
تلتصق الثيابُ بالجسد
والظلمةُ تعوي.
أمدّ يدي؛
أصابعي ترتجف،
وحلقي ناشف.
أرى..
ألمس وجهَكِ فوق الوسادة.
قسم من "نصوص من المعتقل العربي"
المنشورة في مجلة الآداب اللبنانية
العدد 1-2-3 عام 2008