سكة العاشقين
وراء مريول (سحر) المقلّم بالأخضر وشعرها الأشقر المتوهج تحت شمس
تطبخ الرؤوس أمشي بخطى مدروسة بالمنقل والفرجار.
المسافة بين خطوينا المرتبكين أمام محال يغط أصحابها في قيلولة قاهرة
فيما صبيانهم يكرعون المرطبات خلسة، ضرورية لدرء شهامة العابرين.
لفتاتُها للوراء المحسوبة بالضلع والنبضة، والأغنية التي تنبعث من جانبي الطريق
تكفيان كي أمشي وراء مريولها المقلم وشعرها الأشقر الى الأبد.
لفتات لهفى تخشى افترار همة العاشق أو عدم وصول الرسالة:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحد سواك!
وأغنية مغناة لنا وحدنا في فراغ الدنيا العظيم تندب مصائر العشق رغم أنني لم أجرح قلبا ولا هجرت بلدا، بعد، كما هو حال حبيب المغنية الخؤون.
بعد سنين لم أعد أحصي تكسّر نصالها وضعتُ شريطا في مسجل سيارتي على الطريق السريعة من غرب لندن إلى وسطها (لا أدري بأي معجزة نجا من تنقل المنازل والقلوب) فانساب الصوت:
(رندا فون) تقدم
صوت القلوب الهامسة
صوت السحر: نجاة،
وكرّ شريط آخر مثقل بالخدوش إلى الوراء.
..................
في السنة التالية ارتدت (سحر) مريولاً أطول.
شعرها الأشقر خفّ توهجه تحت شمس تواصل طبخ الرؤوس،
المسافة بين خطوينا تقلصت حتى صرت أسمع نبضها المتسارع،
لكن النظرات أخذت تنحرف عن الهدف قليلاً،
لم تعد تؤكد بلهفة:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحد سواك!
..................
في الإجازة الصيفية علمت من كاتمة أسرارها أنها تزوجت جنديا قريبا لها ورحلت معه الى الجنوب.
غير أن الأغنية التي كانت تنبعث من صناديق عظمية مجللة بالأقمشة
وتعاويذ عين الحسود على طول (شارع السعادة) ظلت تندب مصائر العشق
والحبيب جارح القلوب الخؤون.
من (معسكر الزرقاء)
إلى (قصر شبيب)
وبالعكس،
الأغنية التي تدندن لي وحدي، الآن، تهوّن عليّ الطريق:
طويلة
طويلة
يا سكة العاشقين.
وجهُ شبه
تحت وطأة حر فظيع كنت أكرع كوباً من البيرة الباردة
عندما سمعت شخصاً ينفث دخان سجائره بصوت مسموع ويضرب بقبضته الطاولة بين فينة وأخرى
يقول لصاحبه إن النساء اللاتي تعلق بهن، في بحثه المضني عن الحب، هن اللواتي رفضنه أو تمنعن عليه،
وذكر امرأتين أو ثلاثاً.
الأولى ابنة الجيران التي فضّلت عليه، رغم استعداده قطع شرايينه من أجلها، فراناً شاباً
مفتول العضلات له غرّة شرسة،
وتلك لم ينسها قط مع أنه رآها مرات بكتفين مهيضتين تجرّ وراءها جيشاً من الأطفال
المتقافزين حولها كالصيصان
(لا بد أنهم من صلب ذلك الفران اللعين!)
أما الثانية فهي التي تركت طعماً مراً،
طعماً لم يتزحزح من حلقه،
بعد حلاوة قُبَل لم يعد واثقاً، الآن، من حصولها.
فكيف أنكرته قبل صياح الديك ورغاب الفم المشتهي ما زال يبلل شفتيه؟
النبرة التي نطق بها الشخص كلماته الأخيرة دقت جرساً في أعماقي
فاستدارت أذناي واتسعتا كصحنين لاقطين.
كانت مضيفة طيران على خطوط أجنبية
تعرّفها في هذا البار وكان بمعيته صديق آخر، ألعبان أشد مكراً منه، ليته لم يعرفه
أو لم يكن معه في ذلك الموعد المرقون في لوح القدر...
لم أعد أهتم بالحكاية التي حزرت نهايتها.
لكنّ الصوت هو الذي نحتني في مقعدي تمثالاً برأسين،
إنه الصوت نفسه
بل النبرة الطافحة بالأسى ما غيرها
وقبضة اليد ذاتها التي تهوي بانفعال على الطاولة
والقصص إياها التي تترك طعماً مراً في الحلق.
خفت أن أتلفت ورائي فأراني.
القزم والرياضي
اولا أرى القزم على دراجة هوائية للاطفال يبذل جهداً ملحوظا لصعود درب فرعي يؤدي الى الكنيسة الارذوكسية ذات القبة الزرقاء التي لولا صليبها الذهبي لظننتها قبة جامع سمرقندي على أطراف لندن، رأسه كبير ولحيته شقراء ومن حركة شفتيه وتعبير وجهه السريع يبدو انه يدندن أغنية سعيدة (لا أدري إن كانت روسية أم انكليزية).
ثم أرى الرياضي الخمسيني يركض بخطوات متساوية مرتديا شورتا قصيرا محفورا من الجانبين وفانيلة بلا أكمام وفي عنقه تتأرجح سلسلة ذهبية غليظة، بوجهه المنتوف وشفتيه الرخوتين يعطي انطباعا. قد يكون خاطئا) بشذوذه الجنسي.
نحو عشر دقائق بالسيارة على الطريق السريعة تفصل بين رؤيتي القزم فالرياضي ما يسمح لي بالاعتقاد إنهما لم يلتقيا قط ولكنها تؤكد لي كل مرة، بشيء من النكد، تأخري ساعة عن العمل.
قتلُ الأب
بعد كل هذي السنين من قتله المتواصل لأبيه وإصراره، بعناد لا يدرك أسبابه، على فعل كل شيء عكسه، وجدَهُ، حيا يرزق، في زاوية مهملة من نفسه يرقب، بضحكة ماكرة، خطاه:
قامته التي تتقمص، عبثا، قامة أبيه العسكرية المعتدلة، فكلما انحنى او تطامن أحس بقبضة خفية (تنعره) في ظهره.
(نيعه) الذي يكوره بالنفخ من الداخل لتجرف موسى الحلاقة، بلا رحمة، كل شعرة في طريقها، فعندما حفرت التجاعيد طرقا ووهادا في وجهه أدرك ميزة هذا التكنيك المضحك الذي لم يفكر في مصدره قبل الآن.
يداه اللتان (ينترهما) وهو يمشي فيما ساعة اليد تخب بين الساعد والرسغ.
نبرة صوته المهددة لولده الذي يحذو حذوه (مؤكدا ليس دائرية الزمن فحسب بل والعقاب أيضا) في إهمال دروسه، في شعره الطويل، في أوهامه المقدسة لتغيير ما لا يتغير.
الكلمات المدغمة، دينية الطابع، التي يستعين بها على مرض لم يهيئ النفس له، او التي تربط الكلام بعضه ببعض كلما وجد نفسه في (موقف تقليدي) طالما ظن انه في منجى منه.
وجهه الذي لم يعد يشبه وجه الفتى المقبل على الدنيا
عندما كانت الحياة تكيل له الوعود بالقنطار،
وكان القلب مهراً جامحاً يركض في الجهات الأربع معا.
هذه القصائد من مجموعة شعرية جديدة لأمجد ناصر بعنوان (حياة كسرد متقطع) تصدر قريباً عن دار رياض الريس في بيروت.
أقرأ أيضاً: