أحمد العمراوي
(المغرب)

أحمد العمراويتقديم :
السر هو ما لم تقله بعد، أو هو ما لا تود قوله . السر إبهام مقصود وتعمية إما لذاتها أو لغيرها. كل كتابة تحمل بعدين ( قائل ومقول ) يرتبط كل منهما بمتلقي الخطاب شعرا أو نثرا أو إشارات ...كل كتابة هي بمثابة إشارات فاضحة للكاتب وكاتمة للقارئ مهما امتلك هذا القارئ من قدرة على تأويل الكلام.
أنت تكتب لتكشف لي عن أسرارك وأنا أقرأ لأدخل معك أسرارك، وأبحث عن مكتوب كتبته، وإذا ما وصلتُ إليه انكشف السر ولم يعد للكتابة من مبرر .
كل كتابة تقوم على سر إذا انكشف ألغيت هذه العملية المعقدة التي تبتدئ بالتفكير أو بلاوعي مفكر فيه أو غير مفكر، لتنزل على الورق والآلة متتابعة أو متقطعة الأنفاس. هذه تأملات في أحوال الكاتب والكتابة .

النبـاش

إلى عبد الفتاح كليطو

نبش ينبش فهو نباش، هل تدرون ما معنى النباش في اللغة؟ يقول صاحب اللسان: نَبَشَ الشيء يَنْبُشُه نَبْشاً استخرجه بعد الدَّفْن, و نَبْشُ الموتى: استخراجُهم، و النبَّاشُ الفاعلُ لذلك، وحِرْفَتُه النِّباشةُ و النَّبْشُ نَبْشُك عن الميّت وعن كلّ دَفِين . و يتجه المعنى الدارج في المغرب لكلمة النباش إلى " ذلك الشخص الفضولي الذي يسأل عن كل صغيرة وكبيرة إذا كان بالغا مستوى العقل، ويعني ذلك " العفريت " بالنسبة لغير البالغ الذي يُقلب في خبايا الأمور الصغيرة والمتناهية الصغر، والتي قد لا تخطر لك على بال، النباش يسأل ما لا يُسأل، قد يكون سؤاله محرجا لكونه يدخل في جزء من ذاكرة " المقدس"، وقد يُغلفها "بالمدنس" وهنا تقع المشكلة . النباش يتجه إلى تغليف حديثه بالجنس غالبا أثناء إلقاء نكتة أو حين تشبيهه لشيء مادي بحالة لامادية.
ولكن النباش سيتخذ بعدا آخر في اصطلاح الفقهاء، أصحاب وضع الحد والجزاء، و تفصيل "الطيب من الخبيث" والصالح من الطالح "كتقييم" لأحوال الناس بأقل ما يمكن من المشاكل. و بما أن النباش هو خالق المشاكل فإننا سنجازيه بأقصى العقوبات حتى لا يعود إلى نبشه هذا.
يرتبط النباش بالحفر إذن، و الحفر ليس دليلا للبحث عن المحفور أركيولوجيا دائما. إنه هنا مُلوِّث، موسخ خائض فيما لا يخوض فيه الناس، فهو بجمع صفتين دنيئتين السرقة، والنبش من أجل السرقة، ولذا فهو يجازى بالعقوبتين: قطع اليد، واللعنة أبد الآبدين في الدنيا و الآخرة.
ولكن النباش في حديثنا المجازي هذا سيأخذ صفة نبيلة لكونه يرجع الحياة للميت ولو من خلال الحفر. ينبش النباش من أجل الاستفادة من الجسد الميت، و إضفاء "الحياة" على هذا الجسد. الجثة هي مجال النباش المبحوث عنه (المكتوب). ولكن النباش في حديثنا يمتطي عدة مصاعب قبل أن يصل إلى مراده، الحفر والخوض في التراب الوسخ، تراب (قد يكون تراثا) غير نقي. قد يصادف النباش في حفره، و هو يتخذ وسائله الذاتية في هاته الحالة غالبا (الأظافر)، قد يصادف أحجارا و قِطع زجاج قد تكون لمحرمات كالخمر مثلا. ثم إن النبش عملية تتم في الليل غالبا ولذا فالنباش شخص غير مرغوب فيه.
كل كتابة هي بمثابة نبش في الذاكرة الجماعية و الفردية، إحياءا لجثة ميتة من أجل إرجاع الروح لها أليس هذا ما يقوم به كاتب لا يتكرر اسمه عبد الفتاح كليطو.
البحث في الجثة هو بحث عن سر مكنون سنظل كتابا ومتلقين نبحث عنه طيلة حياتنا؛ لا تسلم يد النباش في كل مرة، كم من نباش صادف القطع حقيقة أو معنويا وهو يخوض في هذا المحظور، كابن رشد والحلاج مثلا. الكتابة العالمة قد تقي قليلا هذا النباش من الجزاء المشين، لأنها لحسن الحظ تتوجه لأناس وهي مغلفة برموز ومتخيل رمزي هو الواقي و التقية.
انبش تقول اليد، احذر يقول العقل، لا تغامر كثيرا .(أذكر محمد الماغوط وعبد القادر الجنابي كشعراء، وأذكر أدونيس ومحمد بنيس كشعراء باحثين). إحذر في نبشك، فالسلطة التي تحميك والتي هي كتابتك قد تتحول إلى ضد لك، ضد مناقض . فأنت بين منطقة الملائكة و الشياطين تخوض حرب البينية حيث الاختلاف والتشاكل، وحرية الرأي وحقوق الإنسان والحيوان أيضا، بما أن النبش على الحيوان قد يكون له نفس المصير أي قطع اليد. إنك تخوض في منطقة ظلمانية صعبة التمثيل وصعبة المخرج.
انبش أنا نباش يقول الكاتب.سأستقبل نبشك وأقرأ هذا النبش و أعلقه معك على أستار الناس، يقول القارئ.كل كتابة لا تسير في هذا الاتجاه مصيرها العادية. الدهشة والإدهاش هو ما على الكتابة الجديدة أن تمارسه ولكن انطلاقا من ماذا ؟ انطلاقا من أدوات، من نصوص غائبة قد تكون جثثا نسرق منها ما نريد من أجل المتاجرة بأعضاء قد تكون مشروعة إذا قبل أصحابها ذلك.
نخوض في هذا المتخيل استنادا إلى نفس الأدوات (التراثية)، والتي قد يتحول فيها الشيء إلى ضده ونقيضه، فمن الضد والنقيض تأتي العافية والنقاء، لا مدنس بلا مقدس. ولا مقدس بلا مدنس . والاستعارات والمجاز، هذا الاختراع العظيم هو منقذنا من ظلال الدنيا. ومحول نبشنا المذموم لغة وشرعا إلى حالة راقية، بل وضرورية في الكتابة النابعة من سر مكنون .
النبش المحمود هو قيمة كبرى في الأدب، إذا كان في الحياة العادية بمعنى اليومي مذموما، لكونه الأداة الأساسية لتعرية المستور، و إظهار السر المكنون، هذا الغائب الذي سيظل كل كاتب وشاعر، وستظل كل كتابة تبحث عنه، وسيظل كل متلق متلهف لاستقبال المنبوش، ومن تَمَّ قيمة النبش المعنوي، وبالتالي تقوية كل ثقافة أصيلة نريدها أن تتأصل في حداثتنا الجديدة.
أليس هذا ما قام به وما زال كاتب كبير هو عبد الفتاح كليطو.

elamraoui55@hotmail.com