بينما تقام أعراس الشعر في المراكز الثقافية، بما فيها بيوت ومقاهي الشعراء والمسارح الصغيرة، ليس في نيويورك وحدها، ولكن في أنحاء الولايات المتحدة، احتفالاً بالشهر القومي للشعر، شهر أبريل ـ (أقسى شهور السنة، كما وصمه ت.س. إليوت) ـ وربما احتفاء بتيمة الموت الأثيرة لعدد غير قليل من الشعراء، بما فيهم كاتب هذه السطور، أصدر جيمي س. كوفمان، مدير معهد بحوث التعليم بولاية كاليفورنيا، في سان برناردينو، دراسة ركزت على ظاهرة موت الشعراء في سن مبكرة.
وقد تناولت الدراسة 1987 كاتباً بارزاً راحلاً وسجلت متوسط الأعمار عند وفاة الروائيين والشعراء وكتاب المسرح والمؤلفين الآخرين، ذكوراً وإناثاً، من بينهم كتاب كنديون ومكسيكيون وصينيون وأتراك وأوروبيون شرقيون، الى جانب كتاب وشعراء أميركيين.
وتفيد الدراسة بأن متوسط عمر الشعراء كان 62.2 سنة، بالمقارنة بالكتاب غير الروائيين، الذين عاشوا حياة أطول، 67.9 سنة. بينما بلغ متوسط عمر الكتاب المسرحيين 63.4 والروائيين 66 سنة. وقد تأكدت الفروق بين الشعر والنثر وسط الأميركيين، حيث عاش الشعراء في المتوسط 66.2 سنة، وعاش الكتاب غير الروائيين 72.7 سنة.
ويقول كوفمان في دراسته إن صورة الكاتب كشخصية ابتليت بالشقاء وفي بعض الأحيان تراجيدية، قدر لها الموت مبكراً، يمكن أن يؤكدها البحث.
وقد استمد الباحث بياناته عن الكتاب والشعراء من كتب السير الذاتية (البيوغرافيات) والموسوعات الأدبية، التي يرجع بعضها الى سنة 390 بالنسبة للكتاب الأوروبيين الشرقيين. بينما ينتمي معظم الأميركيين الى القرنين التاسع عشر والعشرين. وفيما يتعلق باختيار هذا الموضوع، يقول كوفمان إنه أراد أن يعرف ما الذي يجعل الشعراء يختلفون عن غيرهم من الكتاب. هل هي زيادة الأعباء المالية؟ ضعف التقريظ المجتمعي؟ زيادة التوتر؟
كما تساءل عما إذا كانت تلك الفروق مستقلة عن الثقافة.
وفي مقابلة مع فيليشيا ر. لي، يقول "إنها مجموعة كاملة من الأسباب. إذا تأمل الإنسان أكثر، زاد احتمال إصابته بالاكتئاب، والشعراء يتأملون. والشعراء ينضجون في سن مبكرة. وهم يكتبون على انفراد وحدهم".
اضطراب
واستناداً الى تحليله لدراسات الإبداعية ومعدلات الموت، يقول كوفمان إن معدل الموت في سن مبكرة بين الشعراء ربما كانت له علاقة بطبيعة الإبداع الشعري في حد ذاته. وقد وجد الباحثون أن التواجد في حقل عاطفي ذاتي يرتبط بالاضطراب العقلي. وبالمقارنة بالقصص واللا قصص، يميل الشعر في الغالب بدرجة أكبر الى الاستبطان والتعبيرية. وقد أدى هذا الى استنتاج أن معدلات موت الشعراء الأكثر ارتفاعا ربما كانت لها علاقة بزيادة معدلات إصاباتهم بأمراض عقلية.
ويتناول البحث، في جانب كبير منه، معدلات الموت بين مهن مختلفة الى جانب الصلات بين القدرة الإبداعية والاضطراب العقلي. ومن أبرز الباحثين في هذا المجال أرنولد لودويج، بروفسور تحليل سيكلوجي متقاعد بجامعة كنتوكي، المركز الطبي في لكسينجتول. وفي كتابه الصادر في 1995 "ثمن العظمة: "حل الجدل حول القدرة الإبداعية والجنون" درس الدكتور لودويج مسار حياة أكثر من ألف شخصية بارزة في ثماني مهن تتعلق بالفنون الإبداعية وعشر مهن أخرى. وقد استنتج أن الإضطرابات النفسية كانت أكثر شيوعاً بين الفنانين. وقد وجد لودويج أن نحو 20 في المئة من الشعراء المرموقين قد انتحروا، بالقياس الى معدل الانتحار 4 في المئة لجميع المهن التي تناولها بحثه. بينما يبلغ معدل الانتحار لسكان الولايات المتحدة بصورة عامة 1 في المئة تقريباً.
ويشير الدكتور لودويج، في مقابلة مع فيليشيا لي، كاتبة هذا التحقيق، الى أن هذا الموضوع المعقد قد بحث منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ويضيف أن استنتاجات كوفمان تؤكد الى حد كبير بعض الاستنتاجات التي توصل إليها نفسه. فقد ذكر في دراسته، على سبيل المثال، أن متوسط عمر الشعراء 59.6 سنة، بالقياس الى 73.5 سنة للعلماء الاجتماعيين. وأن متوسط عمر الكتاب غير القصصيين 70.6 سنة بالقياس الى الفنانين الموسيقيين الذين بلغ متوسط عمرهم 57.2 سنة.
وقد قارنت دراسات أخرى الكتاب بشكل عام بالمهن الأخرى، بما فيها المهن المتعلقة بالفنون، ولم تحمل أي من هذه الدراسات أنباء طيبة للكتاب.
ويقول دين كيث سيمونتون، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا، "إن دراسة كوفمان تضيف مستجدات البحث، وهي واحدة من أضخم العينات التي رأيتها على الإطلاق". ويضيف أن نظرة كوفمان الى الاختلافات الجنسانية في أعمار الكتاب مثيرة للاهتمام، لأنها أوحت، فيما يتعلق بالشعراء، بوجود فجوة أصغر في متوسط سن الوفاة بين الرجال والنساء، منها في متوسط عمر السكان بشكل عام. والملاحظة المستنتجة هي أن الشاعرات يعشن على الأرجح حيوات أقصر.
وفي 1975، نشر البروفسور دين سيمونتون دراسة عن 420 كاتباً هاماً تبين أن الشعراء يموتون في المتوسط قبل الكتاب المبدعين الآخرين بست سنوات، وأن هذا الاختلاف أو الفارق ثبت عبر التاريخ (القديم مقابل الأزمنة الحديثة) وعبر الحضارات (الشرقية مقابل الغربية).
أمراض الشعراء
ويشير سيمونتون الى ارتفاع معدل الإصابة بأمراض بين الشعراء، ومعظمها أمراض تتعلق بالميل الى إيذاء الذات، مثل إدمان الكحوليات، وإساءة استخدام المخدرات والاكتئاب والانتحار. وهو يعتقد أن الشعراء ربما يستعملون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشاكلهم وأن الأمراض تختصر سن الوفاة. كما ينظر بأن المرء يحتاج لكي يصبح شاعراً الى بذل جهود أكثر مما تتطلبه أي مهنة أخرى، مما يؤدي الى مشاكل مثل الاكتئاب وإدمان الكحوليات.
وإذا كان بعض الباحثين الآخرين يتفقون في تحليلهم مع استنتاجات كوفمان، فهناك شعراء أحياء تجاهر حقيقة وجودهم، بل ونشاطهم الملحوظ والمثير للإعجاب، مثل الشاعر ستانلي كونيتز الذي يقترب عمره من المئة، بأن لكل قاعدة استثناء.
وتقول ماكسين كومين، 79 سنة، والشاعرة المتوجة السابقة لولاية نيوهامبشير "إن معدل الانتحار بين الشعراء لا يقارب من حيث الارتفاع معدل الانتحار بين أطباء الأسنان". وفي إشارة الى سنها تقول كومين "حسناً، إنني لا أعاني من الاكتئاب. إنني أعيش وحيدة نسبياً. لقد كنت في الثلاثين من عمري عندما بدأت أكتب الشعر، لذا لا أعتقد أني نضجت في سن مبكرة".
وتضيف الشاعرة "هذا افتتان كئيب وافتتان شبقي، بموت الشعراء المبكر.. أعتقد أني لا أصلح لهذا القالب".
أما الشاعر فرانز رايت، الذي فاز بجائزة بوليتزر للشعر في هذا الشهر، والذي عانى وكافح الاكتئاب المرضي (الجنوني)، وإدمان الكحول والمخدرات، فقد أعد بياناً كرد فعل لدراسة كوفمان، بعد أن أكد أنه فكر ملياً في هذا الأمر:
"حيث إنك، في الولايات المتحدة، كلما كانت كتابتك سيئة، كلما زادت احتمالات بقائك على قيد الحياة، فالمنطقي أن الشعراء يمكن أن يكونوا أصغر من يموتون. وربما كانوا أكثر لذة وطراوة من الكتاب الآخرين". ويضيف بعد قراءة بيانه إنني أعرف كثيراً من الشعراء الذين عاشوا حيوات عادية ومنتجة. إنه شيء مهين. فالشعراء يعانون والكتاب يعانون. وثقافتنا لا تقدر الشعر، وهي تصيب الشعراء بالجنون. لكن ينبغي على المرء أن يخاطر".
ويتفق هذا التحليل مع رأي البروفسور مايكل مارموت، أستاذ علم الأوبئة والصحة العامة بجامعة لندن، الذي يقول إن الوضع الاجتماعي الأعلى يرتبط بحالة صحية أفضل وحياة أطول. ويعتقد الشاعر كريستيان وايمان، أن الشعراء، لكي يواصلوا العيش، ينبغي أن يضعوا أنفسهم خارج الثقافة، وهي عملية تقتضي ثمناً.، ويذكر أن وايمان هو أيضاً رئيس تحرير مجلة شعر Poetry، إحدى أهم الدوريات الشعرية في الولايات المتحدة (وهي تصدر في شيكاغو عن "مؤسسة شعر" التي كانت مؤخراً حديث الساعة بعد حصولها على هدية قدرها 100 مليون دولار من روث ليلي، وريثة إحدى أكبر شركات الأدوية في الولايات المتحدة).
ويعتقد وايمان أن الشعر يتسم بإلحاحية سيكلوجية أكبر بكثير من أشكال الكتابة الأخرى. "فإذا كنت كاتباً نثرياً، سوف يكون لديك دائماً شيء تعمله. أما إذا كنت شاعراً، لن يكون للإرادة دور كبير. فأنت تواجه قدراً كبيراً من الوقت الميت الذي لا تستطيع أن تملأه بأشياء أخرى".
ويصدق هذا الرأي على قول كوفمان إن الشعراء ربما كانوا أكثر وحدانية. وكتاب المسرح والكتاب غير القصصيين لديهم حيوات عمل اجتماعي أكثر.
وقد استشهد كوفمان بقول و.ب. ييتس إن الملهمة "أو ربة الإلهام" الغيْلية تهب الإلهام الى أولئك الذين تضطهدهم ويموت الشعراء الغيليون في ميعة الشباب". وفي القرن الرابع قبل الميلاد سئل أرسطو "لماذا كل الرجال الذين يتفوقون في الفلسفة والشعر والفنون يصابون بالسوداوية؟".
وبالرغم من بحثه، كتب جيمس كوفمان يقول إنه مع ذلك، لا يعتقد أن الشعراء الطامحين ينبغي أن يقلقوا. "إن حقيقة أن سيلفيا بلاث أو آن سكستون قد تموت في شبابها لا تعني بالضرورة أن تقديم حصة مدرسية عن الشعر ينبغي أن يتضمن تحذيراً أن القصائد يمكن أن تشكل خطراً على الصحة".
المستقبل
الأربعاء 28 نيسان 2004
إقرأ أيضاً: