يقولون لي ما أنت في كلِّ بلدةٍ
وما أبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسْمَي.
هذا، طبعا، بيت شهير للمتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس .
ما زال ما كان يبتغيه أبو الطيب، بعد أكثر من ألف عام علي رحيله، غير مؤكد، ناهيك عن ان يكون محسوما، من قبل دارسي شعره وشخصه، بل يبدو انه كلما توسّع الباحثون في البحث كلما ابتعدنا عن رأي جامع مانع حول هذين السؤالين اللذين يطرحهما المتنبي، نيابة عن بيئته ومحيطه المتشككين فيه، ببيته السابق.
فمن أبي منصور الثعالبي وصولا الي طه حسين مرورا بيوسف البديعي والجرجانيين عبد العزيز وعبد القاهر والفرنسي بلاشير، وهذان السؤالان يطرحان من دون ان يجدا إجابة شافية.
من هو المتنبي فعلا؟
وما هي بغيته ؟
ليس هذا الفضاء المحدود مجالا للتوسع في استعراض الإجابات المتقاطعة عند نقط معينة (قليلة)، حينا، المتفارقة معظم الأحيان.
أهو ابن سقاء يبيع الماء في الكوفة؟
أم ذو نسب علوي اضطر، لأسباب سياسية، الي كتمه؟
أكان يسعي الي التكسب بشعره أم الي الإمارة والملك؟
أم لعله كان داعية لأكثر حركات زمنه تطرفا، اقصد القرمطية؟
ديوان المتنبي يجيب علي شيء من هذه الأسئلة ويتكتم علي بعضها الآخر.
قراءة ديوانه لمعرفة المنطوق به والمسكوت عنه، مهمة في هذا الصدد، خصوصا، إذا عرفنا انه قد يكون، آنذاك، الشاعر العربي الاول الذي يجمع ديوانه بنفسه: يمحو ويثبت ما يريد.
شاعر يشرف علي ديوانه بنفسه، في ذلك الزمن، يعني انه يريد تأطير صورته.
لكن المشكلة ان هذه الصورة التي حرص الشاعر علي رسمها، بعناية فائقة، لم تكن صورة واضحة.
فهل أراد ان يظل الغموض هو الحقيقة الواضحة فيها؟
أكان يخفي شيئا اكبر، وربما اخطر، وراء هذا السعي الحثيث المضني للاتصال بأمراء وسلاطين زمنه؟ أم ان الأمر يتعلق، ببساطة، بـ ايغو نرجسية، متضخمة، كلما سعت الي عظيم وجدت نفسها أعظم، والي كل ذي شأن تبدت، في عين نفسها، اعلي شأنا؟
لست من المتضلعين بالمتنبي لأغامر بالإجابة.
ولكن المؤكد ان هذا الشاعر سيظل، أكثر من أي شاعر كلاسيكي آخر، يغري بالبحث والدرس والتأمل، ولعل آخر ما وقعت عليه، في هذا الخصوص، هو أكثر الاستجابات طرافة وجدة في تعقب اثر المتنبي: اعني كتاب أطلس المتنبي ليوسف احمد الشيراوي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004).
هذا كتاب جديد في منحاه.
فهو ليس دراسة جديدة لشعر أبي الطيب تضاف الي آلاف الدراسات العربية والغربية عنه، ولا هو تحقيق جديد لديوانه الذي عكف عليه محققون موسوعيون قدامي ومعاصرون، ولكنه أطلس يحاول ان يتعقب الأمكنة التي جابها المتنبي، طولا وعرضا في حياته القصيرة، او تلك التي أتي ذكرها في شعره من دون ان تطأها قدماه.
الفكرة مغرية بكل تأكيد.
ولكن المهمة دونها، كما يقولون، خرط القتاد.
ولا أظن ان الشيراوي، رغم فكرته الرائدة عربيا، قد أنجزها، بما يتناسب او يجاري، تلك الخطي المجنحة لهذا الشاعر الذي قد يكون الأكثر ترحالا بين شعراء العرب الكبار قاطبة.
فلا امرؤ القيس ذو الرحلة الرومية الشهيرة، ولا طرفة الذي حمل كتاب قتله بيده، ولا عنترة الذي صال وجال في القتال، ولا شعراء العهدين الأموي والعباسي، جالوا في المكان العربي والإسلامي كما فعل المتنبي.
فقد جال في العراقين العربي والأعجمي (بلاد فارس)، ووصل حدود النوبة في مصر، مارا بالأردن والجزيرة العربية وسيناء، وأقام في حلب وجوارها، وعرف لبنان وفلسطين.
وتكشف خرائط الشيراوي رحلات مكوكية قام بها المتنبي بين شمال سورية وأواسط فلسطين في فترة اتصاله بسيف الدولة وانفصاله عنه، فترد في هذا الطريق أسماء مدن وقري مثل: حلب، معرة النعمان، حمص، بعلبك، نحلة (بلدة لبنانية بقاعية ما تزال موجودة بالاسم نفسه قال فيها بيته الشهير: وما مقامي بأرض نحلة الا كمقام المسيح بين اليهود!)، دمشق، سوق الغرب، جرش، طبرية، الرملة.
كنت أظن عندما ابتعت هذا الكتاب من احدي مكتبات عمان في الصيف الماضي أنني بصدد رحلة جغرافية اخري يقوم بها المؤلف في اثر خطي المتنبي.
أي بصدد نص جغرافي علي نص المتنبي الشعري.
ولكن المؤلف الذي تصدي لهذه الفكرة الرائدة، والشاقة في آن، خيب ظني.
فلم يتعد الأمر حدود خرائط لا تنطق بأكثر من أسماء العلم التي تتضمنها.
صحيح انه حاول ان يقتفي، علي الخارطة، اثر الأمكنة التي مر بها المتنبي او أتي ذكرها في شعره ولكن هذه المحاولة (المشكورة علي كل حال) لم تستلهم الرحلة (قل الرحلات)، ولم تستنطق سياقها التاريخي والسياسي والثقافي، فظلت أسيرة تصور جغرافي محدود، لا يقول لنا الكثير عن هذه الأمكنة ولا عن المرور بها او الارتحال إليها، في مسعى المتنبي الغامض نحو بغيته .
المؤكد ان عملا كهذا يحتاج وقتا وعدة لا يبدو ان الشيراوي، رغم حسن نيته وشغفه بالمتنبي، يتوافر عليهما، وان كان سيحسب له انه طرح فكرة غير شائعة في الكتابة العربية.. تنتظر من يكسوها لحما، ويمدها بعصب يكافئ من قال: علي قلقٍ كأنَّ الرّيح تحتي.
القدس العربي- 2004/11/26