محتمل أن تكون القطارات التي رأيتها في القاهرة والإسكندرية هي نفسها التي كنا نراها في أفلام الأبيض والأسود المصرية، وقد صارت، اليوم، هياكل عظمية ضخمة من الحديد الصدئ، يعلوها غبار الماضي والحاضر.
لبعض هذه القطارات قمرات قيادة تشبه وجوه حيوانات منقرضة، ومع ذلك، فقد أحببتها، وارتحت إلي جوها الاجتماعي الذي يعكس، رغم التعب والاستنزاف الشديدين لكل ما يدب علي أرض مصر، طابع الألفة التي افتقدتها في إقامتي الطويلة في أوروبا.
ممكن، أيضاً، أنها بعثت عندي حنيناً إلي زمن كانت فيه قطارات سكة حديد الحجاز تنقل بشراً، يشبهون هؤلاء البشر، بين الأردن وسورية، بثيابهم الريفية أو البدوية، بصررهم الكبيرة، برائحة تبغهم البلدي، بالمؤن التي تفوح منها، غالباً، رائحة الألبان ومشتقاتها، بالقلق والشغف اللذين تبعثهما فكرة السفر وعبور المدن والحدود علي وجوه أناس، نادراً، ما يغادرون أماكنهم الأولي.
من الصعب أن يفوتك قطار في القاهرة أو الإسكندرية، فهناك دائماً من يتطوع بتذكيرك بموعد القطار، أو من يسعي معك، حتى والقطار يتحرك، لتستقله. هناك مواعيد ثابتة للقطارات وأرقام للمقاعد، وقوانين مرعية.
ولكن كل هذا نسبي.
التدخين، مثلاً، ممنوع علي متن القطار.
ولكنك تستطيع أن تقف بين عربتين وتدخن.
ولا تستغرب أن يعرض عليك رجل قد يكون كومسرياً ، أو حارساً لا تعرف ماذا يحرس هناك، ولكنك تتبين علاقته بالقطار من خلال بقايا اليونيفورم الذي يرتديه، المقعد (!)، أو الحقيبة الكبيرة، أو أي شيء آخر يجلس عليه (بين العربتين)، فتعرض عليه سيجارة قد يدخنها معك، أو يضعها وراء أذنه.
وفي مكانك ذاك يأتيك بائع الشاي والقهوة والسندويتشات فتكمل، بذلك، كل طقوس التدخين.
فعلت هذا، تقريباً، طول الطريق بين القاهرة والإسكندرية، والعكس، من دون أن يبدو أنني أخترق القانون أو أفعل شيئاً غريباً.. لأن كثيرين غيري يفعلون الشيء نفسه.
محطة سيدي جابر بالإسكندرية، أقل ازدحاماً وضوضاء، بالتأكيد، من محطة باب الحديد في القاهرة.
أحببت المحطة.. أو لأقل.. أحبب أسماء المحطات التي تذهب إليها
القطارات المنطلقة منها.
من هذه المحطات: مرسي مطروح.
لا أعرف لماذا بدا لي هذا المكان في آخر الدنيا.
ألأنه آخر محطة للقطار في هذه الوجهة.. وبعدها تنتهي حدود مصر لتبدأ الحدود الليبية؟
ربما.
كان الناس الذاهبون في هذه الوجهة، مختلفين عن الذاهبين إلي وجهات أخري.
فبعضهم له ملامح بدوية، وبعضهم الآخر يرتدي أزياء ليبية. كما عسكر أيضاً.
هل لهذا، كله، علاقة بالشاعر والكاتب السكندري علاء خالد؟
نعم.
فقد قرأت في رحلة العودة إلي لندن فصلاً مؤثراً من كتاب جديد له بعنوان طرف غايب ، يتحدث فيه عن جانب من طفولته في منطقة صحراوية، لابدَّ، أن القطار الذاهب إلي مرسي مطروح كان يمرُّ فيها.
لن أتحدث هنا عن الإسكندرية التي لم أمكث بها في رحلتي الأخيرة لمصر سوي أربع وعشرين ساعة (حافلة).. ولا عن علاء خالد الذي التقيته، علي نحو خاطف، في هذه المدينة التي كانت واحدة من أكثر مدن المتوسط حيوية، ولكني سأتحدث عن مشروعه.
فقد أسس هذا الشاعر السكندري، ذو الصوت الخاص في فضاء الشعر المصري الثمانيني، مع بضعة أصدقاء له مجلة بعنوان أمكنة تعني، كما يتضح من اسمها، بالمكان بما هو مجال حيوي للاجتماع الإنساني.
مشروع شخصي قائم علي الشغف بهذا النوع من الكتابة النادر في ثقافة العرب اليوم، المرفود، إلي ذلك، بالعمق المعرفي.
بصمت وتواضع وتكريس، بعيداً عن البهرجة والبالونات الإعلامية التي يلجأ إليها البعض، يعكف علاء خالد وصحبه علي مشروع حقيقي يكشط الصدأ الذي تراكم علي سطح المكان ويحفر في طبقات ذاكرته ليقدم لنا تاريخاً آخر لهذا المكان، سقط، أو أهمل. من المدونات.
يمكنك من خلال أمكنة أن تستعيد زمناً ضائعاً وتسمع أصواتاً مهمشة لا تحفل بها المنابر الرسمية أو شبه الرسمية.
انه زمن الأمكنة وأصوات الناس الذين يتحركون في مجالها.
لا أعلم كم عدداً صدر من أمكنة ، وان كنت وقفت، قبل أن أقابل علاء خالد، علي بضعة أعداد منها. ولأنه مشروع شخصي مالاً وجهداً، وقبل كل شيء، شغفاً، فهو، علي ما يبدو، ليس منتظم الصدور.
ولأنه ينطلق من الإسكندرية، المدينة المهمشة بدورها، وليس من القاهرة فلم يحظ بالتواجد والاهتمام اللذين يليقان به.
فتحية لعلاء خالد وصحبه في أمكنة .
وللإسكندرية التي يصعب علي من يزورها أن يقول لها وداعاً.
القدس العربي- 2005/01/14