يفاجئنا بعض الشعراء بانزياحاتٍ هائلة عن القوالب التقليدية في الشعر العربي، وذلك من خلال تداخلٍ عميقٍ بين عناصر القصيدة فيما بينها من جانبٍ مع إيقاعها وتداعيها الحر من جانبٍ آخر في أفقٍ واسعٍ من التجريب والمغامرة، فنرى الكلام وهو ينمو على أيديهم الشاحبة بسيطاً وصافياً كموتى يوقظهم الحنين لأغنيةٍ قديمةٍ ..
ومن يبحث في تجارب بعض الشعراء المجددين سيكتشف تجارب أكثر تجرؤاً وغنىً ومباغتةً للقارئ والشاعر في آنٍ واحد، ومن هذه القصائد المباغتة قصيدةٌ قصيرةٌ للشاعر قاسم حداد لعلها أقصر قصيدةٍ قرأتها في حياتي حتى الآن وهي:
(تاريخ)
الذين كانوا ..
كانوا .
***
أجل، لقد انتهت القصيدة ..
كان انطباعي أوّل مرةٍ قرأت فيها هذه القصيدة سلبياً لأني لم أفهم معنى أن يسمي شخصٌ ما وإن كان شاعراً مهماً كقاسم حداد ثلاث كلماتٍ، وعملياً كلمتان، نصاً يقارب فيه عنواناً شائكاً وعميقاً مثل (تاريخ).
ولكني بعد فترة وجدت أن هذا النص يقدم قراءاتٍ عديدة أقترح بعضها :
هذه العبارة - القصيدة قد تصلح للحزن المرّ وأنت تبذر وجعك للحَمَام في الجامع الأموي، أو عندما ترى بلداً ما يتفسخ على حافة الطريق وعيون المارة مغاراتٌ صُلب أنبياؤها وهم سكوتٌ .
و قد تصلح للسخرية الغامقة وأنت تتابع أخبار انتصارات دولنا الصامدة على كل من يبذر روحه كالنطاف في الأرض الوعرة ويصرخ بالحقيقة ولو لمرةٍ واحدة..
ومن الممكن أن تكون للاعتزاز أو حتى الغرور والتعصب السلفي، ونستطيع أن نتخيل ابن لادن وهو يخطب بها لولا خشيتنا من أن نتهم بالإرهاب.
أوقد تصدر عن الإرادة الواعية، فالذين كانوا ، كانوا ومازالوا أحياء فينا ويقتسمون معنا هواء الطريق .
و لعلها تكون ليأسٍ دائريٍّ يتدلى كحبلٍ من السقف
أو هي عبارةٌ للتأمل العميق أو البسيط أو حتى الساذج..
وقد تطلق للشماتة ..
أو تهمس للأمل الناشز كأسنان الموتى في لحم الأرض ..
أو هكذا ببساطةٍ دون سببٍ واضحٍ كغناء البدو على حافة الروح..
أو..........
هناك عالمٌ هائلٌ من الأحاسيس والهواجس المرة
مسرحٌ يعج بعددٍ مفتوحٍ من الممثلين ومنهم نحن القارئين
والعرض مستمر ..
هناك موتى ينبضون كرموشٍ نائمة ..
وأحياءٌ ينبت الحزن في حناجرهم كالطحالب..
ووحدها الذاكرة مسمارٌ ينطح القلب .
هذه العبارة - القصيدة تختزل كل ما قيل والكثير الكثير مما يمكن أن يقال، وأعتقد أن إضافة واو العطف في نهاية النص قد تفتح الباب بشكلٍ أوضح للمتلقي ليتأمل في الفكرة، وبكل الأحوال الشاعر يقدم فكرةً أكثر مما يقدم نصاً شعرياً ونلاحظ هذا في الكثير من التجارب الجريئة في بقية الفنون كالرسم في لوحات بيكاسو أو يوسف عبدلكي مثلاً .
وهنا ينهض سؤالٌ حادٌ :
هل من المناسب أن تختزل النص الشعري أو اللوحة بعبارةٍ أو كلمة أو هيولى لونية أو سمكة أو خطوطٍ قصيرة .أليس من الممكن أن يكون هذا الاختزال سلاحاً ذا حدين..؟!
وكبابٍ أوليّ للإجابة، أرى أن أهم فكرةٍ عند بعض مدارس الحداثة على غموض هذا المصطلح تقوم على أن المتلقي شريك أساسي في صنع النص بحيث أن النص لا يأخذ قيمته ولا يكتمل إلا عندما يعيد المتلقي إنتاجه، والكاتب نفسه يعتبر المتلقي الأول لهذا النص.
أعلم أن هناك الكثير ليقال ولكن الأجمل أن يبحث كلٌ منا في الفكرة بطريقته وخصوصيته، وأياً تكن الإجابة أعتقد أنه لا ضرر من التجريب وللقارئ حرية التلقي و التفاعل.
إقرأ أيضاً: