في مثل هذا الشهر قتل المفكر والمبدع بختي بن عودة بمدينة وهران غرب الجزائر العاصمة. كان كاتبا متميزا بأسئلته ومداخله القلقة والتي كان يزحزح بها القضايا الثقافية والأسئلة النقدية. عرفه القراء العرب بمساهماته في مجلات مواقف و الكرمل و الفكر الديمقراطي وغيرها، وللأسف لم تر كتبه النور إلا بعد رحيله، حيث كانت الجزائر تعيش أسوأ حالاتها ترديا خاصة علي مستوي نشر المكتوب، فصدر له رنين الحداثة عن منشورات الاختلاف، ومؤخرا فقط ظاهرة الكتابة في النقد الجديد: الخطيبي نموذجا وهذا المقال هو الأخير الذي جهزه الفقيد بمناسبة ملتقي كان يشرف عليه بعنوان الترجمة والاختلاف رحم الله الفقيد، فلقد كان عنوانا لتجربة مختلفة لم تستطع الجزائر استيعابها حتى الآن.
قد لا يكون الوضع، وضع اللغة المستهدفة هو نفسه، العائد باللغة تلك الي وضع مغاير، ليس من حيث كمية الكلمات أي قاموسيتها الثابتة تاريخيا وحتى استعماليا بما هو زاوية نظر معجمية وقدرية، وبالتالي حكم قيمة في ذاته فقط، فيما يعلو علي كل حس تجريبي، إذن اللغة ليست وعاء ولا أداة، إنها نقلة وانتقال، مجازات عبور فيما وراء الاحتدامات الضرورية للاغتناء والتكاثر، إنها ذكورة وأنوثة، بالمعني الذي لا يليق تعسفا بالأعضاء التي يحفظها جسد دون غيره في جملة إسمية أو فعلية، فيما يتعدد مخصبا البياض الأصلي والذي يكتب عليه وعينا للاختلاف وبه. هل الترجمة، بما هي إجراء لساني ونحوي، بما هي كذلك في الكفاية التي تتضمنها وتستثمرها هي الاختلاف نفسه أم هي توطئة خطابية له، أي لما يترتب عنها ويقولها مرة أخري بلغة مضيافة إن الإثارة علي هذا المنوال قد تفخخ الدلالة المحتملة، حاصل (س) و(ع)، الحاصل في التفارق وليس في التماثل، إذ ليست الإثارة هي قصدية التمثيل علي ما يتوخاه المترجم ببساطة، ولا هي رغبة القطع مع النموذج السالف، أي مع تقليد جري الاحتماء به وفقا لتوزيع ما للأدوار، بل هي دعم لمواقعية ما ينبغي تسميته في الصورة الجديدة لذلك الحاصل، لذا تبدو الترجمة يقظة وليست تقنية، كشفا وليســـت تنبيها، مساءلة وليست حوارا، إنها فيما وراء مبـدأ التعريف بالغائب، المترجم له وعنه اعترافا وتعارفا، أي جزءا من سلالة ناقصة. إنها إذن تفكر، ممكن تفكيرها sablepen من غير الالتباس المعرفي والمحسوب علي متاع مسبق، علي تأثيث قوي للصوت الداخلي، للتحايل علي ما تتعذر ترجمته (l'intraduisible) هي منطقيا لصيقة بالاختلاف، بغواية هذا الاختلاف في العمق الذي ظل غامضا ومستحيلا في الصمت الذي لا يمكن ترويضه أو تذويبه.
ما الذي بإمكان اللغة أن تفعله وهي تواجه حفريات الصمت أي ما لا يقفز مباشرة الي الفهم، الي التدارك السريع، الي الاسترجاع الاجتماعي للدلالة الحافة أوالمحايثة
أية ترجمة قصووية ستباشر الفكر من حيث هو نشيد المهاوي وابتهاج المتاهات هل لهذا تظل مترددة أمام الخيار، بل أمام أسطورية الخيار لكي لا تتذكر وتستذكر الأصل (l'origine) في مطلقيته وقداسته، بما أنها خيانة.
إذن أي ميثاق ستخونه، ستنحرف عن أرضيته لتقترح بديلا عنه يلتزم باللحظة الميثاقية ولا يجرؤ علي خرقه لنقل مثلا ما هي هوامش ذلك علي الأقل فيما يعقلن دوما العلاقة المتوازنة بين دال ومدلول، بين ظاهر وباطن، بين متن وحاشية إننا لن نبحث عن تعميق لسلطة التبريرات كي نثير شهية اللحظة الميثاقية ونهمل الترجمة بما هي ترانس ديكتور trans-ductor وهو الذي يصب في الضفة الأخرى أو الذي يحول الي الطرف الآخر ويعني بذلك التحويل الي مناطق اللغة الأخرى.
إذن نتمسك بحول ومنها قولنا ترجم الفكرة مثلا الي ممارسة، وترجم الشعور الي كتابة.
لكن ما هي المخاوف التي تنبثق إزاء ما يتعذر علينا ترجمته كيف نتغافل عن المعيقات علي الأقل المدعاة روحية أو معنوية والتي تمس الاختلاف.
يقول الفيلسوف جول دولوز مفهوم ما للاختلاف يستلزم اختلافا ليس فقط بين شيئين، والذي ليس أيضا مجرد اختلاف مفهومي. هل يمكن الذهاب نحو اختلاف لا نهائي (تيولوجي) أو الالتفات نحو عقل للمحسوس (فيزيقا) بأية شروط ينبغي تشكيل مفهوم محض للاختلاف.
ها نحن نقترب من لحن الأساس، من الكيفية التي لا تتباهي بها ترجمة مخلصة بالمعني الأخلاقي، سوي لتؤكد من جديد علي كون ما نجد له مقابلات في تعبيرنا هو وجهة الاختلاف وأفقه، هو رحلته الضرورية ليعثر علي الاعتراف، ليتمتع بالحق في مراوغة الزمن الواحدي للإثارة المقصورة علي طرف واحد، طرف في معادلة ليست دائما مستقيمة من حيث التقسيم الرمزي لطرائق الاستحواذ علي الآخر، ألسنا أمة حينما نقبل علي ترجمته كما لو أننا نسعى إلي تذويبه في المدة التي يحتكرها الزمن الواحدي، فبقدر ما يظهر التفوق كقيمة إيديولوجية عنيفة ومدمرة، يظهر التطابق (le mˆme) كشبح إضافي، مرعب وملتبس ضد استقلالية ما تتوخاه ترجمة اختلافية، ليس كبيان ثقافي أو فلسفي وإنما كتجربة لا تكرس المهادنة مع الحضور (la presence) ولا إعادة تأسيسه بدعوي الواجب وآنية هذا الواجب. فهي تتحمل حينئذ مجموعة مخلفات وآثار واجتراحات تزخر بها النصوص بما هي طبقات وطيات.
لنقل مثلا كيف نترجم les chants de Maldoror للشاعر لوتريامون، نقصد هنا كلمة مالدورور المركبة، المثنية والمنزاحة ما هي الكلمة العربية القادرة علي شق هذا التركيب والكشف عن سريته، أي التي تحترم بلا شك بروتوكول التحول عبر الفضول والحاجة وفرح المعرفة كما يقول نيتشه. إنها لا تشبه غيرها سوي في ذات الشاعر، في المخيال الحر لنسف التطابق وليس لنفسه، أي لعلة انوجاده بالدرجة القصوى لكبرياء اللغة وتوحشها.
أليست الترجمة إذن كينونة مغايرة من حيث التسمية الأولي للأشياء وهي تختار اللعبة الخطيرة، أي مخالفة الإيعاز الأصلي في وعلم آدم الأسماء كلها.
لغة الشاعر هي الاختلاف عينه من دون سابق تعيين ولا تحديد، رسم للانخطاف الصوفي في الدائرة الأقل خضوعا للتعليم الإلهي أو الاصطلاحي أو الأكاديمي.
يقول روماند ياكوبسون في دراسته خصائص لسانية للترجمة : في وظيفتها المعرفية، تتوقف اللغة قليلا جدا علي النسق النحوي، لأن تعريف تجربتنا موجود في علاقة تكاملية بالعمليات الميتالسانية ـ فالخاصية المعرفية للغة لا تقبل فقط بل تتطلب التأويل بواسطة شفرات أخري، بإعادة تشفير أو تسنين، أي الترجمة.
الي أي حد باستطاعة المسنن (L'encodeur) أن ينضبط فيما هو يضبط السنن المختلف ويلزمه بقواعد جديدة وذات معني وهل بإمكانه (هذا المسنن) أن لا يترجم سوي السنن فيما هو يحذو حذو التقني (Le technicien) الذي يتعالي عجزا أو آليا عن نداء الدواخل في حدود الشعرية مثل بعبارة أخري من هو المترجم الذي لن يرتبك أمام النفس (le souffle) ، أمام آلام الجسد والجسدنة بما هي لغة غير لسانية.
كيف نترجم تلك الحروف القرآنية الي الفرنسية لنقل مثلا نون والتي يؤولها إبن عربي الي علم الإجمال. إن الترجمة إذن مشروع صيروري سيتحايل علي براءة الاختلاف، علي الأقل في وضعيته المفهومية، مشروع يتغذي من النقائص والتعثرات ومن ترحالات الكلام البشري والابداعيات المتدفقة. إنها ليست خيارا حضاريا بالصيغة التي تلاحق الدلالة وهي تتلاشي طبيعيا أي وفقا لقانون الاستنفاذ استعماليا، كما أنها ليست حجة لوغوسية ضد حرية اللغات المسماة قاصرة، بل حركة فكر مزدوجة ومحبة، حركة في احتفالها بالفضاء الإنسي (L'espace Humaniste) الذي تزخر به البلاغة عربية كانت أم عجمية، بل وفي إنصاتها المتفطن للتبدلات الحاصلة في صياغة الاسم الشخصي ولماذا يستعصي علينا ترجمته. فالاسم الشخصي (Le nom propre) لا يسلم نفسه للمترجم، لأنه الهوية نفسها في الاختلاف مقرونا بما يتطابق مع شجرة النســب. تلك وضعية شائكة وقد تتطلب مبحثا خاصا، ولكنها ليست بالضرورة عقبة ابستمولوجية استلهمت تلك التبدلات في ضوء التحليل المتداخل للنصوص، أي بوضع النص والمترجم أمام حقيقته بل حقائقه غير متضامنين مع استبدادية المعني، و دال الدال. إن بذرة الترجمة تتربي في حوض الاختلاف الذي لا يمكن تذويبه كما يقول الخطيبي، الاختلاف الذي يعمل بشكل نشيط علي مستوي الانحراف المباغت للدال عن المدلول أي عن هيمنة وقهرية الشيء. فالترجمة، مساهمة في توسيع حقل اللغة من حيث الترميز والإحالة والتدليل، هي إذن وقود الدال وقد ضمن مجال التساؤل عن ذاكرته وعن كيفية إخراجه أو مشاهدته إننا نترجم لنقول ليس فقط كفاءاتنا اللسانية أو المعجمية أو الأسلوبية، بل حقنا في الاختلاف كنقلة كونية لا تفرض علي الغير نمط وجود ولا نمط تمثل للعالم.
إننا نترجم لنتأكد من أننا أحياء باللغة الأم وهي تتشكل في غير العزلة الاقليمية، أحياء في التعارف المسنن ومن خلال ما يضمن لأدوات نسف التطابق بقاءها الجليل.
القدس العربي
2006/06/02
إقرأ أيضاً:-