لم يعد القسم الداخلي من عُمان سرَّاً خفيَّا ..
جاكلين بيرين. اكتشاف جزيرة العرب
اتساقاً مع ما أصبح يتجذَّر باعتباره ميزة أولي للحسَّاسيَّة المغايرة في الإبداع العُمانيِّ المعاصر؛ أي ميزة الاشتغال الصامت، الجاد والمثابر علي صقل الأدوات الفنيَّة للمبدعين ذاتيَّاً كلٌّ في مجال لغته التعبيريَّة، تأتي ملاحظة أن ينال فيلم الوردة الأخيرة 1 للمخرج السينمائي العماني حاتم الطائي2 عرضيه الجماهيريين الأوليين في الولايات المتحدة ـ النقطة الجغرافيَّة والعاطفيَّة الأبعد التي يمكن تصوُّرها عن مكان تصويره ومكان انتمائه ـ مرة ضمن فعَّاليات أمسية ثقافيَّة عربيَّة نظَّمها قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، ومرة في نادٍ للمهاجرين العرب في ولاية نيوجيرسي المتاخمة.. تأتي تلك الملاحظة، إذاً، باعتبارها مفارقة تستحق الوقوف عندها. لكنه ليس الوقوف المُمْتَعِض، وليس الوقوف علي الأطلال الذي يرومه الفيلم باعتباره مقدِّمة لما يروم، وذلك في نقله للفكرة/ التقنية من الشِّعر الجاهلي إلي الشِّعر السينمائي؛ بل انه وقوف قِرائي علي نحوٍ ما، ليس لأن المفارقة مفهوم سينمائي (تقنيَّاً) ينزع الفيلم إلي الاحتفاء بها فحسب، ولكن لأنها تشكِّل كذلك جزءاً من هواجس وجماليَّات الوردة الأخيرة في ارتباط المفارقة والفراق بتاريخ الفيلم، وبحسَّاسيَّته النُّوستالجيا ـ تراجيديَّة، وبثيمته التي تتوزعها، في ما يتوزعها، أقطاب الوطن القصيدة/ الوطن المكان، الهجرة/ العودة، الأطلال الأنقاض/ الأطلال النَّقيض، الأطلال الرؤية/ الأطلال الرؤيا.
لكن، من أجل محاولة الاقتراب من ذلك، لا بد من التساؤل أولاً: ما قصَّة الفيلم؟. إن هذا سؤال إشكاليُّ يذكِّر كل من شاهد الوردة الأخيرة بتلك الإجابة التي قدَّمها غودار Godard للصحافي الذي سأله: ألا تعتقد حقاً ان الفيلم يجب أن يتكوَّن من بداية، ووسط، ونهاية؟ : نعم، ولكن ليس بنفس الترتيب بالضرورة ؛ ذلك ان التَّرتيب في الوردة الأخيرة ترتيبٌ شِعري أكثر منه ترتيبٌ منطقيٌّ. وهو كذلك ترتيب طَلَليٌّ بمعني دخول الكاميرا إلي الطَّلَل باعتباره مكاناً فيزيقيَّاً وفكرةً رؤيويَّة، والجوس سرداً تائهاً فيه بقصد محاولة الوصول إلي مفاتيح تعالج أقفالاً محدَّدة، وهذا مما يُحسَب للمخرج ويُحسَب عليه في آن واحد ما دام قد اختار لبدايته أن تكون علي هذه الدرجة من الاختلاف.
يبدأ الفيلم بلقطة مقرَّبة لوجهِ عجوز نائم قرب شعلة نار تحتل ثلثي الكادر تقريباً، الأمر الذي قد يدعم قراءة الفيلم باعتباره مقاربة سرديَّة لحلمٍ ضبابيٍّ. وما بين النوم/ الموت والنار/ الحياة تدور الأحداث ويبوح المكان بنفسه في تدفُّقٍ لجوج بموازاة عزفٍ تصويريٍّ علي العود وإلقاء غير مُعَالَجٍ صوتيَّاً لنصوص شعريَّة بصوت امرأة مضافاً إليهما الحد الأدني من المؤثِّرات الصوتيَّة هي في الغالب عصف ريح تعوي منذ بدء ظهور الأسماء والعناوين علي الشَّاشة وحتي الكادر الأخير من الفيلم، ومعالجة صوتيَّة تُضَخِّم صدي صوت شخصية الرائي ـ إن صحَّت تسميتها بذلك. والسبب في ان تسميتي الشخصيَّة تلك بهذا الإسم اعتباطيٌّ لأن شخصيات الفيلم لا تعرِّفُ بنفسها للمُشاهد خارج إيحاءات الدَّلالات البصريَّة وإحالاتها التاريخيَّة والثقافيَّة. وفي علاقاتها ببعضها البعض فإن تلك الشخصيَّات تصرُّ بعناد علي إبقاء مسافة من اللاتعارف، حيث يتضخم ذلك الصدي ـ أي صدي صوت شخصية الرَّائي ـ بطريقة يستحيل معها عمداً سماع كامل المنطوق اللفظي، إذ علي المشاهد الاكتفاء بمفردات مثل الطاعون ، الرُّوح ، رماد ، الرِّيم ، نار وهي تتشظي نافرة من الجمل التي تحتويها. ثَمَّةَ أيضاً خفقاتٌ مضخَّمة بحيث تقترب من كونها دقَّات طبل اثناء لقاء الرواي بالشاب المهاجر؟ أو العائد؟ ، ولا حوار شفهيَّاً مباشراً.
غير ان كلمة الأحداث قد لا تكون المفردة المناسبة في التعامل مع هذا الفيلم الذي ينزع إلي إحداث وتكثيف المناخ الدرامي عبر التركيز علي الصوت المفرَدة باعتبارها معطي جمالياً مستقلاً مرتبطاً بالسرد علي نحوٍ صامت، وعن طريق خيط غير محكم الرَّبط (كما يحدث في مسرح وسينما التابلو و المَنِمَلْ إلي حدٍّ ما). ونري لقطة متوسطة يتحرك فيها رأس الكاميرا بينما قاعدتها ثابتة ((pan تتبع قدمين تمشيان في قفرٍ صخريٍّ، علي سفح منطقة جبليَّة وعِرَة، ومياه جارية تحت انعكاسات شمسيَّة تصعب معرفة ما إذا كانت شروقاً أم غروباً (قصداً؟). ونري الشاب (هو المهاجر أو العائد افتراضاً) يحمل صُرَّة علي كتفه ويبحث في ذهولٍ أخرس عن شيء ما ليلتقي برجل عجوز (هو من أسميتُهُ افتراضاً الرائي ) لديه كتبٌ مخطوطة قديمة ويقيم في ما يشبه كهفاً وقد علَّق جرَّة ماء وأوقد ناراً عند المدخل. ويلتقي الشاب في بحثه الصامت كذلك برجلين غامضين يرقصان بطقسيَّة تنويعيَّة علي رقصة البَرعَة العُمانيَّة حول نار مؤَسلَبَة التصوير عن طريق استخدام مِرْشَح أحمر في لقطة غير حادة التركيز البصري. ولا يأبه الرجلان البتَّة باقتراب الشاب الغريب منهما في تلك القفار الجبليَّة التي لا أحد فيها وجلوسه في نطاق رقصهما. وتنتهي هذه اللقطة الكبيرة والبطيئة slow long shot ـ عبر معالجة سرعة دوران الفيلم معمليَّاً وليس أثناء التصوير ما أدي إلي تكوين تأثير بصري يبدو المشهد معه وكأنه عبارة عن صور فوتوغرافيَّة التعاقب في كادرات متجمدة (أو فوتو مونتاج سريع جداً) ـ نهاية غير دقيقة حين يتوجه أحد الرجلين فجأة بخنجره إلي الشاب من دون أن نري نتيجة الفعل، وإن كنا نري الشاب هذا حيَّاً يرزق تيهاً وبحثاً في لقطات لاحقة.
وثَمَّةَ في الفيلم أطلال تحتفي بها الكاميرا بصورة خاصة حيث تستعرض أحدها في لقطة تربو مدَّتها علي دقيقة. ومن هذه الأطلال تخرج صبيَّة كانت النصوص الشِّعرية الملقاة بصوت المرأة التي لا تحضر علي الشاشة نفسها قد أخبرتنا ان اسمها الرِّيم، إنها أملنا الأخير، وردتنا الأخيرة وهي تحمل وردة ثم تلقيها في مَجري فَلَجِيٍّ حيث تتبع الكاميرا مسار الوردة في التيَّار. ثَمَّةَ أيضاً جثَّة متروكة في العراء لرجل أبيضِ القميص الدَّاخلي والإزار (لا ندري شيئاً عن ظروف هلاكه، ولا تسمح لنا الكاميرا بالاقتراب منه، بينما نرقب الشاب وهو يغادر موقع الجثَّة التي لا تثير فيه ما تثير فينا من فضول). وهناك أيضاً بحرٌ بعيد يظل بعيداً، ومقبرة نري فيها عبر لقطة مقرَّبة شاهدة قبر كُتِبَ عليها رجل مجهول 1867. ثَمَّةَ كذلك امرأة وطفلة وبغلهما تظهران للمرة الأولي والأخيرة متجهتين الي الجبال إلي حيث لا نعلم (تري هل تعلمان هما؟) وذلك في لقطة كبيرة بطيئة، وثَمَّةَ لقطة كبيرة ثابتة static long shot لطفل يلوِّح بيده خلف نافذة خشبية عتيقة. ولمشاغبة المقاربة الطامحة إلي قراءة الفيلم باعتباره حلماً، ومن أجل اقتراح مقاربات أخري، فإن الوردة الأخيرة لا ينتهي بلقطة العجوز النائم التي كانت ستغلق الزمن السردي دائريَّاً لولا أن أعقبتها هذه اللقطة الأخيرة: الرِّيم تقف وقد أدارت ظهرها في لقطة متوسطة ثابتة static medium shot قبل أن تلتفت مبتسمة للكاميرا، وتمضي مغادرة الكادر. هذه النماذج من اللقطات والمشاهد التي كوَّنت قصة الفيلم تسعي، كما هو واضح، إلي إثارة قدر لا بأس به من الأسئلة.
يهدي حاتم الطائي فيلمه إلي المكان الأول الذي يتشكَّل جرحاً أبديَّاً في جسدي . وفي قائمة شكر خاص التي تظهر في آخر الفيلم متضمنة أسماء أصدقائه الذين أعانوه علي إنجاز فيلمه الذي أنجز بتمويل ومساعدات شخصية لا ينسي المخرج أن يشكر أطلال عُمان . وفي هذا ما يستدعي إطالة الوقوف عند مفارقة مكان عرض الفيلم ليصبح هنا وقوفاً لدي عرض المكان في الفيلم؛ فإدراج الأطلال (وهي مادة جماد ) في قائمة تحتوي علي أسماء بشر أحياء وذوي هويَّات محددة إنما يُحيل إلي أن الأطلال قد تم التعامل معها علي انها كائن حي، فاعل، مؤثِّرٌ، وذو هويَّة، وذلك في تصعيد بصريِّ لما كان الشاعر الجاهلي قد بدأه قولاً في الانطلاق من خراب المكان تحت تدمير الزمن إلي إعادة خلق ذاكرته الجماليَّة البديلة في فضاء القصيدة. وهكذا فإن الأطلال في الوردة الأخيرة ذاتٌ وموضوعٌ في آنٍ واحد، أو بالأحري موضوع مُذَوَّتٌ إلي أقصي حدود الامتداد الزمني علي أساس أن قوَّته التدميريَّة هنا هي رؤيا أكثر منها مُعطي موضوعيَّاً فحسب، وإلي أقصي عمق الحقل البصري depth of feild للعدسة الرائية، بدليل أن الفيلم مرويٌّ بالكامل تقريباً عبر لقطات ذاتيَّة subjective shots، ولقطات وجهة النظر POV shots، وذلك في تهميش متعمَّد للرؤية السردية المحايدة ممثَّلة في اللقطات الموضوعيَّة objective shots.
كما ان الأطلال لا تحضر باعتبارها مواقع للسيرة التراجيديَّة للمكان، والتي تحاول النصوص الشِّعرية المصاحبة استحضارها، وإضاءتها، و قراءتها في فلاشباك صوتي فحسب، بل تجيء الأطلال باعتبارها الحدث/ المكان/ الزمان/ الشخصية في وحدة لا تنفصم لها عري. وبهذا فإن المتحقق جماليَّاً في ما يخص المكان في الوردة الأخيرة إنما يحيلنا إلي مفهوم المكان في السينما الشِّعرية لدي بازوليني Pasolini؛ أعني التأكيد علي أهمية الحضور الوحشي للمكان الأصلي باعتباره شِعراً قبل ـ لغوي صرفاً يكثِّفه الوجه البشريُّ الأوليُّ. وفي هذا السياق أعتقد انه ستغني عن كثير من الكلام الإشارة إلي ما أعتبِره أهم مشاهد الفيلم. وهو مشهد مكوَّن من لقطتين ترتبطان ببعضهما البعض عن طريق استخدامٍ ممتاز لتقنية المزج الإحلالي (diolve) المونتاجيَّة، حيث نري في اللقطة الأولي طللاً يتلاشي بتدرُّجٍ سريع إذ ينبثق من أسفل الكادر وجه الشاب بالحركة البطيئة في اللقطة الثانية بينما نسمع المقطع الشعري التالي: آهٍ أيتها الأطلال/ يا خرائب الروح/ يا خرائب السماء/ أنت الذاكرة الخصبة الوحيدة في هذا الليل الملهم/ أنت الشاهد الوحيد/ لكن من يشهد للشاهد؟ .
لقد قدَّم حاتم الطائي شهادةً شُجاعَةَ الحزن في الوردة الأخيرة . وهي شهادة لا تشكِّكُ في نزاهتها وصدقها ارتباكات من قبيل الاستسلام لإغراء اللقطة البطيئة أكثر مما ينبغي أحياناً (كما في مشهد الرقصة)، والسماح بثغرات تسلل منها ما أضرَّ قليلاً بالفضاء الشِّعري والذاتي للفيلم كما في استخدامه لتقنية لقطتي الفعل ولقطة ردة الفعل action & reaction shots السائدة في السينما الأميركية، والتي تسببت في أن يكون لقاء الشاب بالعجوز عقلاني الواقعيَّة أكثر مما يحتمله المناخ الحلمي للفيلم. وفي الوقت نفسه فإنه ربما انبغي من المخرج، الذي قدَّم أدلَّة مقنِعة جداً علي نزعته الشعريَّة، أن يحفل أكثر في تجاربه القادمة بتقنيات لغة السرد السينمائي لا ليتماهي معها، ولكن ليطوِّعها إبداعياً لصالح قلقه الشعري الغامر، إذ انه حين يتعلق الأمر بالسينما فإنه حتي للشِّعر منطق أيضاً كما يري تاركوفسكي Tarkovsky.
بيد أن الأهم في الأمر هو أن الوردة الأخيرة سجَّل خطوة ناضجة في رحلة السينما الروائيَّة في عُمان. إنها رحلة الرؤيا الواسعة والطويلة، وهي رحلة ننتظر من حاتم الطائي وأقران له أن يوغلوا تيهاً فيها وبها، وذلك اقتفاءً لآثار وردة الخلق والحلم إلي جذورها الضاربة بعيداً في ذاكرتنا.
1 ـ سيناريو الفيلم والنصوص الشعريَّة التي يتضمنها: سماء عيسي. قراءة النصوص: أمل الطائي وزاهر الغافري. ترجمة النصوص الشعريَّة في النسخة الإنكليزية من الفيلم: حاتم الطائي. الموسيقي التصويريَّة: سيمون شاهين. المونتاج: بيتر مارك Peter Mark. التحميض: معامل دو آرت ، نيويورك، الولايات المتحدة. الإنتاج: شخصي، 1989. التصوير: حاتم الطائي ـ إكلير ، 16 ملم، ملون. المدَّة: 20 دقيقة. الممثلون: علي الغافري، ريم السِّيابي، سماء عيسي، حمد صالح، وآخرون.
2 ـ حاتم الطائي من مواليد 17 شباط (فبراير) 1962. أنهي دراسته الجامعية في مجال القانون في المملكة المغربيَّة. أنهي دراسة الماجستير في العلوم السياسيَّة في جامعة نيويورك بالولايات المتحدة. قبل توجهه نحو السينما كتب نصوصاً شعرية، كما نشر قراءات سينمائية في صحيفة غربة المهاجرة التي كانت تصدر في مدينة نيويورك، والتي كان يحرِّر صفحتها الثقافيَّة. أصدر بياناً سينمائيَّاً بعنوان بوح حول السينما الشِّعرية (ألف ، العدد 15، 1995، ص 117 ـ 120، القاهرة). وقبل الوردة الأخيرة أنجز المخرج فيلماً سينمائياً قصيراً بعنوان Fall حيث يحيل العنوان إلي سقوط أو إلي خريف (نيويورك، 1988). وحالياً يدير الطائي دار نشر الرؤيا العُمانيَّة التي هو صاحبها.
شاعر وناقد من عمان
هذه إحدي مواد كتاب بعنوان لقطة، نظرة، نجمة بدويَّة، استشراق، أحلام، وأفلام الذي سيصدر للكاتب قريباً.
القدس العربي
15-2-2007