الزمن تخييل
(بورخيس)
الدولة هي أكثر الوحوش بروداً
(نيتشه)
السرد، الزمن، النسيان،
الأُمَّة، الدولة، السينما
لعل من حسن طالع هذه المادة عن فيلم تحديقة عوليس ((1995 ان المخرج، وهو اليوناني الاستثنائي والمُقِل ثيو (اختصاراً لثيودوروس) أنجيلوبولوس يعمل علي فيلم جديد يحمل عنواناً ذا مغزى في سياقي هذا وهو غُبَار الزَّمن الذي سيبدأ تصويره في ايطاليا مع مطلع 2007، والذي سيقوم ببطولته الممثل القدير هارفي كيتيل الذي قام كذلك بدور البطولة في تحديقة عوليس .
لقد استأثر سؤال الزمن بالقسط الأوفر من اهتمامات أنجيلوبولوس. والحقيقة ان المنظِّر السينمائي الفرنسي المهم أندريه بازان الذي ارتبطت كتاباته التأسيسية في مجلة دفاتر السينما بالفتوحات المذهلة لمدرسة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية يذهب في كتابه المرجعي ما السينما؟ الي القول بأن الديانة المصرية القديمة في سعيها للقبض علي الزمن (ألم تُعَمِّر الأهرامات مثلاً؟)، ومواجهة الموت من خلال الإبقاء علي الوجود الجسدي أو الفيزيقي للإنسان عبر التحنيط الفرعوني، إنما أرست الَّلبنات النفسية (والعاطفيَّة؟) للفنون التشكيلية والنحــت من خلال عقدة المومياء حسب الاصطلاح الشهير الذي وضعه. والحقيقة ان ذلك ينطبق علي السينما أيضاً، وبالتأكيد بصورة أكبر وأعمق، وذلك من حيث ان سؤال الزمن وإشكالاته المتشابكة وغير القليلة إنما تقع جميعاً في صلب الطبيعة الوجودية والأنطولوجية للسينما منذ بدايتها؛ فقلق القبض علي الزمن، وإضاءته، وجَعْل مُشَاهَدَتِهِ ممكنة، وكذلك هاجس نسيانه وهَجْرِه من خلال تأسيس زمن بديل، وعلاقة الكائن بالوجود في الذاكرة وفي النسيان من خلال صنع التاريخ الذي تأتي به الصورة السينمائية، إنما تشكل جميعاً أداة الكشف الثاقب الذي تقوم به السينما باعتبارها وسيلة معرفيَّة وليست فنيَّة فحسب.
وفي ما يعتبر أهم كتاب في فلسفة السينما حتى اليوم بِجُزْأيهِ سينما 1: الحركة-الصورة و سينما 2: الزمن-الصورة (الذي صدرت ترجمته العربية في سلسلة الفن السابع عن المؤسسة العامة للسينما ضمن منشورات وزارة الثقافية السورية في 1999؛ ولا بد هنا من إكبار المترجم، حسن عودة، لاختياره هذا الكتاب الصعب للترجمة ومكابدته الواضحة للعمل، ولا بد كذلك من معاتبته في نفس الوقت لدي قراءة الترجمة).. في هذا الكتاب، إذا، يتكئ الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز علي الأطروحات الثلاث لمواطِنِهِ وزميله هنري بريغسون الخاصة بالزمن وذلك في رؤية الأول للسينما بوصفها نشاطاً فلسفيَّاً من الطراز الرفيع. أما شاعر السينما الأكبر أندريه تاركوفسكي فانه يُعَرِّف السينما بأنها النحت في الزمن في كتابه المعنون بهذه العبارة الشِّعرية الرشيقة، والذي أصبح في وسع القارئ العربي الاطلاع عليه أخيراً بترجمة أمين صالح الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة في البحرين (2006). ولا يذهب بازوليني بعيداً عن ذلك حين يري بأن السينما هي خلق الواقع في الواقع . أما المؤرخ السينمائي الفرنسي الفَذُّ مارك فيرو فانه يري من خلال قراءته العميقة لتاريخ السينما السوفييتية في كتابه السينما والتاريخ ان السينما لا تعمل بوصفها مصدراً للتاريخ فحسب-فهذا مفروغ منه-ولكنها تعمل أيضاً بوصفها أداة للتاريخ، وصائغة له، ومُوَجِّهَة لحركته. ولا شك أن هذه الأطروحة الجديرة بالاهتمام إنما تُلْحِقُ إرباكا لا بأس به للمقولة الماركسيَّة التقليديَّة القائلة ان البنية الفوقيَّة (الثقافة عموماً) هي انعكاس مباشر للبنية التحتِّيَّة (الاقتصاد تحديداً)، هذا علي الرغم من ان المرء يجد في المجموعة الكاملة للمراسلات المتبادَلة بين ماركس وانجاز ما يشير في بعض المواضع الي ان العلاقة بين البُنْيَتَين يمكن في بعض الأحيان أن تكون تبادليِّة ومشترَكة؛ أي أنها ذات اتجاهين وليس اتجاهاً واحداً، وبهذا فإنها علاقة تأثُّرٍ وتأثير، وليست علاقة تأثير فحسب.
إنسان، نسيان
ومهما يكن من أمر، تتجاذر المفردتان العربيتان إنسان و نسيان في علاقة جِنَاِسيَّة تشي بالكثير حول ما يربط الكائن بالذاكرة، وحول ما يربط السارد بالسرد، وحول ما يربط السارد بالنسيان. وهو رباط يُصَرِّح به بكفاءة بليغة، وبالغة، وجارحة، القول العربي الشهير ما سُمِّيَ الانسان الا لِنَسْيِهِ . لقد قيل هذا المأثور الحكيم في ثقافة ترفع بصورةٍ بارادوكسيَّة كلمة اقرأ (فِعْلُ أمر صريح) في مقدمة خطابها الابيستميولوجي والحضاري لأكثر من ألف وأربعمائة عام، وفي هذا ما يستدعي التوقف والتَّأمل. وفي الوجه الآخر من عُملة الانسان والنسيان هذه تطرح قصة أهل الكهف الواردة في القرآن أسئلة أُمثوليَّة ومجازيَّة ورمزيَّة صعبة علي علاقة الانسان بالزمن.
أما الشاعر الأمريكي بول أوستر فقد أصَرَّ بطريقة قد تبدو نَزِقَةً بعض الشيء كعادة تصريحاته المتطرِّفة لكنها ليست بعيدة أبداً عن الوجاهة أن كل ما نستدعيه عبر الذاكرة ليس الا خيالاً . ان العلاقة بين الكينونة والنسيان هنا أكبر بكثير من مجرَّد كونها رمزيَّة فحسب. ويذهب مُنَظِّرُ علم كتابة التاريخ هيدن وايت في كتابه الأشهر ميتا-تاريخ الي القول ان هناك دوماً عنصرٌ تَخَيُّلِيٌّ حين يتعلق الأمر بما يسميِّه إعادة تركيب التاريخ . أما اللاتينية فإنها تستخدم مفردة historia للإشارة الي القصة (كما في النوع الأدبي المعروف)، والي التاريخ (كما في هذا الذي جئنا منه وتورَّطنا فيه بلا خيار) معاً. وقد عملت هذه الايتيميولوجيا لاحقاً علي سَكِّ مفردتي قصة و تاريخ بتنويعات طفيفة في أغلب اللغات الهندو-أوروبية بما في ذلك اللغات الجيرمانيَّة؛ فالانكليزية، مثلاً، تستعمل كلمة story للإشارة الي الخبر (بالمعني الإعلامي والتاريخي) والي القصَّة (بالمعني الأدبي والسردي). وقد تسرب هذا الدمج الي القنوات الإخبارية العربية في السنوات الأخيرة بما في ذلك قناة الجزيرة الرائدة حقَّاً في الاجتراحات اللغويَّة الإعلامية، حيث شاعت مفردة قصة للإشارة الي الخبر ، وقد صار من المألوف في تلك القنوات أن تسمع تعبير إننا نُغَطِّي هذه القصة بمعني إننا نحاول الكشف عن حيثيَّات الخبر وذلك في تعريبٍ ثقافي للتعبير الانكليزي. كما انه من المثير للاهتمام في الانكليزية أيضاً ان كلمة صورة (image) بمعني الصورة الفوتوغرافيَّة أو السينمائيَّة أو التشكيليَّة وهي شيء مادي محسوس تتعاشق مع كلمة خيال (imagination) الذي لا يصرُّ البعض علي انه تجريد.
وفي 1990 صدرت بالانكليزية أنثولوجيا أكاديمية مهمة تحمل عنوان السرد والأمَّة ، وقد كتب في الأنثولوجيا تلك بعض أهم من لهم باع طويل في هذا المجال بمن في ذلك المفكِّر ما بَعْدَ الكولونيالي الهندي الأصل هومي بابا، الذي حرَّر تلك الأنثولوجيا، والذي ذهب الي القول فيها بأن المجتَمَعات والقَصص إنما تفقد أصولها في أساطير الزمن ولا تحقِّقُ آفاقها الا في المخيِّلة . وفي دراسته للأنواع الأدبية الروسيَّة القديمة عمد الناقد والمفكِّر الروسي الشهير ميخائيل باختين في كتابه الخيال الحِواري الي استعارة مفهوم الكرونوتوب chronotope من نظرية النسبيَّة لآينشتاين (يعني المفهوم حرفياً: زَمَانْمَكَان ، وهذا مختلف عن فكرة الزَّمكان التي شاع تداولها لفترة في الثقافة العربية، وأظن ان الأمر قد التبس علي بعض من كتبوا عن باختين بالعربية). وقد أصبح هذا المفهوم ـ الكرونوتوب ـ يعني لدي باختين اللحظة التي يَثْخُنُ فيها الزمن كما لو أنه يكتسي لحما"ً، ويصبح بالإمكان رؤيته فنيَّاً؛ وبالمِثلُ يصير المكان مشحوناً بالزمن ومستجيباً لحركته وحركة الحبكة الروائية والتاريخ . وفي كتابه أنواع الكلام وبحوث أخري أخيرة يذهب باختين في سياق حديثه عن غوته بأن في العالم الفنيُّ الهائل الذي بناه الشاعر الألماني الأشهر يصير كل شيء كرونوتوباً . ولأسباب هي أوضح من أن تُذكَر فان السينما أقدرُ بكثير من الأدب علي استيعاب مفهوم الكرونوتوب وإضاءته وتطويره.
وهكذا، في عَوْدٍ علي بدء، فان المشروع السينمائي الطامح للقبض علي الزمن، أو تفكيكه وإعادة بنائه، أو فك إساره وإطلاقه أمام الكاميرا، قد تَعَاشَقَ بصورة أصبح يستحيل فصم عراها مع مفهوم الأمَّة، ومع سيرورة وصيرورة إنتاج الأمَّة من خلال إنتاج سردها التاريخي والوطني، أو قصتها. ويستحيل أن تَجِدَ اليوم في برامج دكتوراه مُحْتَرَمَة للدراسات النقدية والنظرية السينمائية في الجامعات الغربية برنامجاً لا يخصص سيميناراً الزامياً يبحث علاقة علم كتابة التاريخ بالسينما، كما يستحيل أن لا يتضمن الامتحان التأهيلي التحريري الشامل سؤالاً (صعباً في الغالب) عن الموضوع. حسن جداً، ان ما أردت قوله هو أن تاريخ الأمم هو مُحَصِّلَةُ سردها؛ غير انه، في المقابل، ليس هناك من سردٍ نهائي شاملٍ جامعٍ مانعٍ ومطلَق لا يأتيه الباطل التاريخي لا من بين يديه ولا من أمامه ولا من خلفه؛ فالسرد بطبيعته انتقائي، وجدلي، ومراوغ، ونافٍ، وإقصائي، وملتبس، وغير خطِّيٍّ، وغير مستقيم. وفي ما يخص تاريخ أي مجتمع بشري فان السرد-عودةً الي هيغل في فلسفة التاريخ ـ هو سرد الطرف الذي ينتصر في انتزاع الاعتراف به من الطرف الآخر في سياق ما حدث في الغابة وما حدث بعد ذلك؛ انه سرد السَّيد وليس سرد العَبْد . وبذلك فانه ينبغي النظر الي تاريخ الأمم والشعوب علي انه سرد يناور الحدث في التفافه-ضمن أشياء أخرى-علي الاقتلاع، والإقصاء، والتهميش، والترحيل، والتذويب، والطحن، والنفي، والسحق، والهزيمة؛ وكل هذا لم تتأسس أي أمة في تاريخ البشرية من دونه. ليس هناك من أُمَّة لم تَقُمْ علي أنقاض هزيمةٍ ما. وهذا يعني تماماً وبالضبط وبالإصرار القول ان: ليس هناك من أُمَّةٍ لم تَقُمْ علي أنقاض نصرٍ ما.
أُمَّة، نسيان
وقبل أكثر من مئة سنة، وتحديداً في 11 آذار (مارس) 1882 ـ أي قُبَيل ولادة السينما ـ ألقي المؤرخ والفيلولوجي الفرنسي أرنيست رينان محاضرة جليلة في جامعة السوربون بعنوان ما الأمة؟ ، وهي محاضرة أصبح نصُّها الآن من كلاسيكيَّات دراسات السرد في الأدب والتاريخ والسينما. ومما قاله رينان (الذي لا أظن انه ينبغي لي أن أحفل في هذا السياق ببعض آرائه العنصريَّة والشوفينيَّة بوصفي عربيَّاً) في تلك المحاضرة، ببساطة واختصار، ان الأمم مبنيَّة أصلاً علي فكرة النسيان، فليس هناك من أمَّة ذات ذاكرة قوية، وإلا لكانت قد أخفقت في أن تكون أُمَّة، أي ان الأُمَّة لا تستطيع أن تكون أُمَّة من دون أن يكون النسيان جزءاً من تاريخها السياسي وبرنامجها الوطني . وأعتقد إننا نستطيع أن نري ذلك بوضوح شديد حتى في قصص بلداننا و تاريخها حيث ظهرت أجيال لا تعرف شيئاً عما حدث طوال عقد كامل من الزمن مثلاً. واستطراداً: عَكَفَ كثير من المستشرقين والمؤرخين الغربيين علي عَزْوِ جزء كبير من مشاكل منطقة الشرق الأوسط الي ان دولة الأُمَّة أو دولة الشعب (nation state) ظاهرة جديدة فيها؛ ولعل هذا ما يفسر انه في النسخة التي تم تداولها مؤخراً لخارطة الشرق الأوسط الجديد (من جديد!) تظهر بغداد بوصفها دولة مدينة (city state) بعد ان تم تذويب العراق باعتبارها دولة أُمَّة أو دولة شعب. لكننا لحسن الحظ، وبمعيار الثِقَل النظري الوجيه للأفكار، لم نعد نسمع الكثير عن أولئك المؤرخين والمستشرقين بعد أن حدث ما حدث في أعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي وتتابع ظهور دُوَلِ أُمَّةٍ أو دُوَلِ شَعبٍ في ما كان يُعْرَف بالاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وذلك قبل أن يحدث ما حدث وما يحدث وسيحدث في العراق.
ولعلنا لا نجد صعوبة في استحضار مقولة رينان تلك حول علاقة الأمة بالنسيان تلك حين نشاهد فيلماً شاعريَّاً أُشيدَ به كثيراً باستحقاق مثل قيثارة بورميَّة (نسبة الي بورما) للمخرج الياباني المتميِّز كُوْنْ ايتشيكاوا (1956)؛ حيث السرد الذي يقدمه الجندي الياباني في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية ليس بالسرد الشنيع الذي خَبِرَتْهُ عن كثبٍ ساحق آلاف النساء الكوريَّات اللائي اغتصبهن جنود الجيش الإمبراطوري جماعياً (هناك حالات اغتصاب موثَّقة في الأرشيف المكتوب للحرب العالمية الثانية لخمس وعشرين مرَّة قام بها خمسة وعشرون جندياً مختلِفاً لنفس المرأة وبصورة متتالية)، ولا القرى التي أحرقت عن بكرة أمها وأبيها، ولا ملايين البشر الذي سُخِّروا وجُوِّعوا وقضوا مرضاً وانهاكاً وبؤساً وجنوناً وانتحاراً في بعض الحالات؛ ولكنه، بالأحرى، سرد الجندي الياباني الوسيم، الشاب، المتأمل والحالم، الذي ينفصل عن كتيبته ومهماتها الحربيَّة لينخرط في رحلة بحث عن الذات يشهد فيها مثالاً من فظائع الحرب وأهوالها في الأكداس المكدَّسة من عظام وجماجم زملائه القتلي، فيتحول من جندي مستعد للقتل في أية لحظة الي قِسٍّ بوذيٍّ زاهد متصوف يصادق الأشجار والطيور والأنهار والهواء والموسيقي، ويؤثِرُ، بعد انتهاء الحرب الطاحنة، البقاء في أرض أجنبيَّة ليحرس أرواح وعظام رفاق السلاح الذين قضوا عوضاً عن العودة الي أرض الوطن بعد طول غياب. حسن جداً، ان قيثارة بورميَّة لَفيلمٌ شاعري و أنساني و رومانسي و جميل حقاً؛ لكنه أيضاً، من الناحية السياسية والتاريخية، فيلم ليس بالبراءة التي يتظاهر بها في ما يخص النسيان ، فهو وثيقة وطنيَّة بصريَّة تريد أن تقوم بدورها في كتابة تاريخ أمَّتها من خلال استخدام أهم عنصر سردي في تاريخ الأمم: أعني النسيان؛ وهو هنا نسيان واستبدال الفظاعات التي اقترفها الجيش الإمبراطوري الياباني في المناطق التي وطأتها أقدام جنوده؛ أي أننا هنا بصدد تأسيس ذاكرة جديدة تليق بالسرد الوطني المُراد علي أنقاض النسيان، ذلك ان النسيان مَلَكَةٌ و موهبة كما أخبرنا نيتشه في الفلسفة من زمان. وهي قطعاً ليست صدفة ان انجاز فيلم قيثارة بورميَّة قد تزامن مع انجاز عدة أفلام (أو، فلأَقُل وهذا أفضل، وثائق وطنيَّة بصريَّة للأُمَّة) في البلدان التي كانت في المعسكر المعادي لليابان خلال تلك الحرب المروِّعة؛ وهي أفلام تقدم فيها تلك الأمم سردها لما حدث، وتقدم الجندي الياباني بصورة مختلفة تماماً عن الصورة التي يعزف عليها برومانسيَّة مفرِطة فيلم قيثارة بورميَّة .
وفي المقابل فان النسيان هذا نفسه في تَجَلٍّ آخر، كما في إدارته لدفَّة السرد الكولونيالي البغيض، هو ما يؤسس في النتيجة ردَّاً عليه متمثلاً في السرد الوطني المغاير والبديل كما في الفيلم الأسطوري معركة الجزائر للايطالي جيلو بونتيكورفو (1966) الذي مَوَّلَت إنتاجه جبهة التحرير الوطني الجزائرية لأنها أرادت أن تنقل للعالم ما حدث في الجزائر من وجهة نظرها؛ ذلك ان الانبثاق التاريخي للأمة المستقلة علي اثر حرب تحرير طاحنة كلَّفت أكثر من مليون شهيد أنما يستند هنا الي ذاكرة نضاليَّة يريد السرد أن ينقلها للأجيال القادمة في رد علي طمسها وتشويهها ودفعها للنسيان من قِبَل السرد المعادي الذي يصوِّر الحدث الوطني التاريخي، من وجهة نظره، باعتباره حرباً حضاريَّة ضد مجرمين و لصوص و قُطَّاع طرق همجيين ، و بدائيين ، و برابرة ، و متوحشين .
هذا، إذا، ما يخطر لي وأنا بصدد كتابة هذه المادة عن فيلم المخرج اليوناني القدير ثيو أنجيلوبولوس تحديقة عوليس ؛ فالفيلم هذا يتقاطع مع تلك الأسئلة ويُمَشْكِلَها بطريقته، إذ ان هاجسه هو هاجس العلاقة الشائكة بين السينما والتاريخ، وبين النسيان والذاكرة، وبين مفهوم الأمَّة ومفهوم السرد. وبعد هذه التوطئة سأحاول، إذا، الحوار مع الفيلم تحديقة عوليس اعتباراً من الحلقة القادمة وذلك ضمن الأقاليم النظرية والثيماتيَّة التي حاولتُ رسم حدودها في هذه الحلقة.
عن أنجيلوبولوس
تخبرنا الطبعة الثانية من موسوعة كاتز السينمائية المنشورة في 1994 ان ثيو أنجيلوبولوس ولد في أثينا بتاريخ 27 نيسان (ابريل) 1935، ودرس القانون في جامعة أثينا، ومارس المحاماة لوقت قصير بعد تخرجه من الدراسة. ثم ما لبث ان انجذب الي الفنِّ والإبداع فأخذ يكتب وينشر قصصاً قصيرة وأشعاراً ومقالات. أدي أنجيلوبولوس الخدمة العسكرية الإلزامية قبل أن يشد الرحال الي فرنسا في ستينيات القرن الماضي بغرض الدراسة العليا للأدب في السوربون. لكنه تململ في دراسة الأدب أيضاً، وتركها بعد مدة قصيرة ملتحقاً بأهم معهد سينمائي فرنسي في حينه IDHEC. وقد تَمَهَّن أنجيلوبولوس بعد ذلك علي المخرج السينمائي الفرنسي المعروف جان روش في متحف الانسان في باريس. وبعد عودته الي اليونان عكف أنجيلوبولوس علي كتابة مقالات سينمائية نقدية لعدد من المطبوعات اليونانية الطليعية. وقد شهد العام 1965 محاولته الأولي للإخراج السينمائي، غير ان خلافات مع المنتج أجهضت المحاولة. وبذلك لم يتمكن أنجيلوبولوس من انجاز تجربته السينمائية الأولي الا في العام 1968، وقد كانت تلك التجربة فيلماً وثائقياً مدته نصف ساعة. وقد أنجز أنجيلوبولوس فيلمه الروائي الأول في 1970، وهو فيلم أسَّس لأعماله السينمائية القادمة التي ستجعله يُلَقَّب بأهم مخرج سينمائي يوناني معاصر. تتميز أعماله عموماً بأنها تتبع أسلوب التراجيديا الإغريقية الكلاسيكية (الايبسود) ويصعب تصنيفها ثيماتياً. فاز فيلمه لاعبون مسافرون (1975) بلقب أفضل فيلم في تقييم المعهد البريطاني للسينما لذلك العام. أما فيلمه ألكسندر العظيم (1980) فقد فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي لعام 1980، بينما فاز فيلمه الآسر حقا منظر طبيعي في السديم (1988) بالجائزة الفضية لنفس المهرجان عن تلك السنة. ومن أفلامه الأخرى أيام 36 (1972)، و الصيَّادون ((1977، و إبحار الي سيثيرا ((1984، النحال (1986)، و الأبديَِّة ويوم (1998)، و المَرْجُ الباكي ((2004.
وقد فاز فيلم تحديقة عوليس بجائزة المُحَكِّمين الكبرى لمهرجان كان في 1995. وقد كان الفيلم هذا يستحق بالتأكيد أكثر من الإشارات التقتيريَّة ـ بل والاستخفافيَّة ـ والعابرة التي نالها في الصحافة الأمريكية العامة، والتي أبدي بعضها امتعاضه من تَحَذلُق الحوار في الفيلم. وفي الحقيقة لا يعني هذا الامتعاض أكثر من أن الحوار في الفيلم ليس سوقياً، وليس سطحياًَّ، وليس مبتذَلاً، علي شاكلة الحوار الفَجِّ في الأفلام الأمريكية أو النموذج الأمريكي (الهوليوودي) للسينما. كما ذهب بعض تلك الصحافة، مثل ديلي فرايتي في عددها الصادر في 25 مايو 1995، الي دسِّ السُّمِّ في طبق الرز الدسم وذلك في مقالة لم تتمكن من إخفاء إعجابها بالفيلم الذي سيرضي المشاهدين لكنه سيستنزفهم ، أي أنه سيتطلب منهم بذل بعض الجهود الإنسانية والفكريَّة والعقليَّة، وهي جهود لا تتطلبها مشاهدة أي فيلم هوليوودي. والأكثر من ذلك تذهب هذه الصحيفة الي القيام بدعاية سلبية للفيلم عبر التشكيك مقدماً في إمكانية حصوله علي توزيع جيد. نعم، هكذا استقبلت الصحافة الأمريكية فيلماً دأب كبار النقاد السينمائيين علي وضع مُخْرِجِه في مرتبة شاعر السينما الراحل أندريه تاركوفسكي، ولكن هذا ليس بمستَغرَب في أية حال. وأود أن أضيف هنا حادساً الي ان جزءاً من سبب الفتور الفظيع هذا قد يكون عائداً الي أن ثلث أحداث الفيلم تقريباً يدور في البوسنة ويَلْهَجُ بلسانها ومعاناتها في ذلك التشظي الرهيب الذي حدث للتاريخ، وللذاكرة، وللسرد، وللأيديولوجيا، حيث ان البوسنه ليست قطعاً لاس فيغاس خلال الفترة الزمنيَّة التي يتعرض لها الفيلم.
أي عوليس؟
ليس عوليس في عنوان الفيلم هو عوليس الياذة هوميروس، ولا عوليس جيمس جويس أو نيكوس كازانتزاكي (ما دام المخرج مهتما بالتاريخ والزمن في كافة أفلامه) كما قد يتبادر الي الذهن للوهلة الأولي. في الحقيقة ليس هناك شخصية باسم عوليس في الفيلم الذي لا تدور أحداثه أصلاً في عصر الملاحم الإغريقية مثلاً، بل في تسعينيات القرن الماضي. وبذلك فان الاسم الأسطوري العتيد عوليس قد يكون الكاميرا الملحمية التي تقدِّم لمدة ثلاث ساعات تقريباً رؤيا هوميروسية معاصرة لتاريخ حديث لكنه غارق في ضباب ملغز مثل ضباب الأسطورة الإغريقية القديمة. أو قد يكون عوليس هو التجسيد الرمزي في بطل العمل، أي شخصية المخرج السينمائي اليوناني التي قام بدورها باقتدار استثنائي هارفي كيتيل، والتي ليس لها اسم في الفيلم نفسه؛ ولكن عندما ينتهي الفيلم، وتظهر التترات حاملة أسماء الممثلين مقابل أسماء الشخصيات التي قاموا بأدوارها فإننا نكتشف للمرة الأولي ان هارفي كيتيل قد قام بدور شخصية تدعي أ وبما أن أ هو أول حروف اسم أنجيلوبولوس المخرج، فربما كان عوليس الفيلم هو أنجيلوبولوس نفسه، خاصة وأن هذا المخرج معروف ببصماته البيوغرافية في أفلامه.
ولكن، أليس من شأن تسمية شخص بحرف واحد فقط هو الحرف الأول من اسمه أن يُذَكر المرء تلقائياً بمبدع كبير آخر، أعني كافكا الذي أسمي احدي شخصياته في عدة أعمال بالحرف الأول من اسمه: ك ؛ نعم انه ك الذي تاهَ في زمن القلعة الملغز مثلاً، والذي يتوه عندما تكون فكرة الرحلة ـ كما هو الحال في تحديقة عوليس ـ بنية للحبكة السردية. أنحن هنا، إذن، بصدد فيلم ٍهوميروسيٍّ مُعَمَّدٍ ببصيرة كافكاويَّة؟. أعتقد أن الأمر كذلك.
يسرد فيلم تحديقة عوليس ، إذن، قصة مخرج سينمائي يوناني يعود الي بلاده في ليلة ماطرة بعد أن قضي خمساً وثلاثين سنة في المنفي في الولايات المتحدة ليشهد في مدينته الأم العرض الافتتاحي لفيلمه الأخير. نحن لا نعلم شيئاً عن هذا الفيلم، لكننا نعلم ان دخول قصة فيلم في فيلم يأتي بمثابة الماح أصبح استخدامه مكروراً بعض الشيء في السينما الطليعية والبديلة منذ سينما الموجة الجديدة فصاعداً. لكن ينبغي هنا أن نحفل لهذا الأمر لجهة سياقيته من حيث ارتباطه بالثيمة الأساس للفيلم التي تنفي فوراً تهمة اللجوء الي الكلاشيه الطليعي.
كما إننا، في سياق الفيلم الأكبر الذي نشاهِدُ، نستطيع أن نحدس بمضمون الفيلم الأصغر ذاك حتى ولو لم، ولن، نشاهده، وذلك عبر مشاهدة عشرات من العربات المدرعة، ومئات من رجال الشرطة ومكافحة الشغب مدججين بالسلاح والدروع الواقية في شوارع المدينة التي يجري فيها عرض الفيلم الأصغر، ومن خلال معرفتنا ـ التي تحدث بالتزامن مع معرفة المخرج نفسه من طريق أحد أصدقائه ـ بأن جميع دور السينما في المدينة قد اعتذرت (أو أُجبرت علي الاعتذار) عن عرض الفيلم.. تكفينا كل هذه المعطيات، إذن، من أجل استنتاج أن الفيلم مثير للجدل من الناحية السياسية. ولذلك لم يكن هناك بديل لإقامة العرض السينمائي في الهواء الطلق علي الرغم من هطول الأمطار الغزيرة. ويا لهذا من مَجَازٍ حاذق وكثيف لدور الطبيعة في أفلام أنجيلوبولس (سأعود الي هذه النقطة في الحلقة القادمة من هذه المادة).
لا تنقل لنا كاميرا الفيلم الأكبر شيئاً من أحداث الفيلم الأصغر علي الإطلاق، بل تكتفي بأن ترينا التوتر الذي يتسبب به الثاني من خلال تقابُل المعترضين عليه ومؤيديه؛ أي تلك الحشود التي تشاهده تحت المطر باستغراق يبدو مغناطيسياً تحت المظلات الفرديَّة عبر ترتيب المشهد إخراجيا بشيء من الأسلبة stylization؛ ذلك ان الفيلم الأكبر هذا لا يريد أن يُري ما هو مؤسس، بل يطمح الي أن يَري ما يتأسس. والالماحة هذي تكفي المُشاهد الفَطِن. ومع فضاء السرد الذي يتسع تحت زخات المطر في لقطات تتساوي فيها درجات التركيز البؤري في المناطق الكلاسيكية الثلاث للكادر السينمائي (الخلفية والوسط والمقدمة) فإننا نكون بصدد بعض خصائص لغة أنجيلوبولوس السينمائية: ضَمُّ الزمان والمكان الواقعين في خارج الكادر السينمائي الي السرد (أو قذف السرد الي خارج الشاشة)، وإضفاء الصبغة الملحمية علي اللقطات الكبيرة من خلال استخدام تقنية التركيز البؤري العميق؛ وهما تقنيتان يقول أنجيلوبولوس في حوار صحافي قديم انه تعلمهما بالتتابع من الياباني كينجي ميزوغيشي ـ الذي تحدث بعض مشاهِدِهِ خارج الشاشة حقاً ـ والأمريكي التشريعي في هذه التقنية أرسون ويلز في فيلمه الأشهر المواطن كين ((1941. (وان كان من الممكن لي الاستطراد فسأقترح بسرعة ان المصوِّر السينمائي الأمريكي العتيد جريج تولاند الذي لا تذكره الا قِلّة اليوم، والذي تعاون مع ويلز في المواطن كين ، يستحق أن يُذْكَرَ بنفس المقدار الذي يُذْكَرُ به ويلز الجدير بالتأكيد بكل احترام. لكن لا بأس في ذلك، فنظرية المؤلِّف السينمائي ، مثل نظرية السرد ونظرية الأُمة ونظرية الدولة، لها ضحاياها غير النظريين وغير القليلين أيضاً!)، هذا إضافة الي التعامل مع الطبيعة (المطر مثلاً) بوصفها عنصراً سردياً فاعلاً وليس ديكوراً مكانياً أو طبيعياً لتزويق السرد بصرياً.
وفي هذه الأثناء يلتقي المخرج السينمائي اليوناني العائد الي وطنه بعد منفي طويل بامرأة غامضة لا نستطيع أن نعلم الكثير عن علاقته السابقة أو الحالية بها من خلال حديثهما العابر في حنينه وتوتره، خاصة وان الكاميرا تلتقط لقاءهما بحيادٍ لَقَطاتي. ان المُشاهدَ هنا مُغَيَّبٌ تماماً عن سؤال الزمن في العلاقة، بل انه مضطر الي التساؤل عما اذا كان لذلك أي أهميَّة. غير ان ما يتضح بعد قليل هو ان مناسبة عرض الفيلم الأصغر ليس بِكُلِّ ما أعاد المخرج السينمائي المنفي الي بلاده في تلك الليلة السينمائية الماطرة (هذا اذا كان بين الأمرين أدني علاقة أصلاً)؛ حيث نبدأ هنا في التعرف الي ما هو واقع وراء هذا الأثر الطفيف من تقنية المجافن في أفلام هيتشكوك؛ بمعني الذريعة الحدَثيَّة التي تقدم السرد للوهلة الأولي باعتبارها العنصر السردي الأهم، لكنها لا تلبث الا أن تنسحب مفسحة المجال لعناصر سرديِّة أخري سيتضح ان الأهمية تكمن فيها في إرباكها للقارب والصيَّاد والسمك جميعاً (وقد قلت ان ذلك الأثر طفيف فحسب لأن الذريعة التي تؤسس السرد هنا لن تنفصل لاحقاً عن جوهر الهاجس الثيماتي؛ فـ المجافن هنا ممزوج بـ الليتموتيف أو الفكرة الثيماتية المهيمنة من حيث تعاقب ظهورها علي الرغم من اختفائها أحياناً).
يتضح لنا من السرد الفيلميِّ والتاريخي في تحديقة عوليس ، إذن، انه في بدايات القرن العشرين، وبُعَيْدَ اختراع السينما في نهاية القرن التاسع عشر، كان الأَخَوان ماناكياس يجوبان منطقة البلقان بحرية وانطلاق تامين، ويصوران أفلاماً وثائقية حول أنشطة حياة الناس القاطنين فيها (وفي ما يخص البلقان لا ينبغي من أحد أن لا يقرأ رواية جنكيز ايتماتوف الكلب الراكض علي طول البلقان ). حسن جداً، فالأمر يتعلق بتاريخ السينما في رقعةٍ ما من هذا العالم في نقطة يتعالق معها تاريخ المنطقة نفسه. ولذلك فاني لا أستطيع أبدا أن أغض النظر والسمع والذاكرة عن حقيقة ان اسم الأخوان ماناكياس يجلب، تاريخياً، صدي اسمياً للأخوان لوميير، مخترعا السينما. وفي هذا الصدى ما يقابل أهمية الأخوان ماناكياس التأسيسية علي الصعيد البلقاني بأهمية الأخوان لوميير علي الصعيد الفرنسي أو الأوروبي.
وفي دأبهما للتوثيق السينمائي للأنشطة الحياتية ـ اقتصاديَّة واجتماعيّة وثقافيَّة ـ في البلقان لم يكن الأخوان ماناكياس يُفَرِّقان أو يُمَيِّزان بين سكان المنطقة الواسعة بناء علي اعتبارات الدين، أو اللغة، أو اللون، أو الاثنية، أو العرق، أو الطائفة، أو غيرها من الاعتبارات التي نعلم أنها ستدخل لاحقاً في تشكيل النسيج الخصائصي للأُمّم التي انبثقت في البلقان؛ ذلك أنهما كانا يتحركان علي أرض بلا حدود سياسية أو وطنية أو ثقافية بالمعاني المعاصرة لهذه اللكلمات. وفي هذا السياق يتقاطع السرد عدة مرات في تحديقة عوليس مع ادخالٍ ((insertion لشريط وثائقي قديم بالأبيض والأسود في نسيج الفيلم الملون نري فيه نساء يغزلن النسيج بطريقة بدائية كما كانت تفعل النساء في مختلف أنحاء الوطن العربي مثلاً. وليس أمامنا هنا سوي تصديق أننا نشاهد أحد أعمال الأخوان ماناكياس الوثائقية. لقد عاد المخرج الي بلاده، إذن، لأن لديه مشروع لعمل فيلم وثائقي عن ذينك الرائدين السينمائيين في منطقة البلقان يوم كانت البلقان بلقاناً فحسب وليست دولاً وأمماً. وهو قد حصل علي معلومات وثيقة مؤداها ان ثلاثة من أشرطتهما التسجيلية السينمائية القصيرة التي لم تُحَمَّض بعد مفقودة، وأنها ربما كانت موجودة في الأرشيف الوطني السينمائي في رومانيا، أو في البوسنه، وانه مقتفٍ أثرها الي هناك.
أوديسة التحديقة العوليسيَّة يا له من بحث هائل ذاك الذي سيقود المخرج العائد من المنفي في رحلته الأوديسيَّة من اليونان الي ألبانيا، ومقدونيا، وبلغراد، ورومانيا، وأوكرانيا، وصربيا، وكرواتيا، والبوسنة. لا شك أنكم لاحظتم معي ان هذه الدول لم تكن موجودة علي خريطة العالم حين كان الأخوان ماناكياس يصوران أفلامهما الوثائقية في بدايات القرن الماضي وفي نفس المنطقة. بلي، لقد كان الناس هناك، وكانت المواشي هناك، وكانت الأنهار والبحار والأسماك والطحالب والقواقع هناك، وكانت الأحلام والشموس والنجوم والأقمار والخبز والأجبان والنبيذ والآلام هناك، وكان العشّاق وجراحاتهم هناك؛ كانت الأماكن هناك، لكن الدول والحدود السياسية لم تكن هناك؛ ويا له من فرق!. وفي البحث المضني هذا سيستمع المخرج السينمائي، وسنستمع معه بدورنا، الي عدد كبير من اللغات واللهجات التي تتهجي تاريخاً ممزَّقاً ومسفوحاً في سرد المكان وذاكرة الزمن؛ إذ ان البحث عن الأفلام المفقودة حول الأنشطة الحياتية لسكان منطقة البلقان سيكون بحثاً من خلال السرد السينمائي عن تاريخ المنطقة التي يتشكل فيها الآن تاريخ جديد علي أنقاض السرد التاريخي السابق، وعلي أنقاض الذاكرة القديمة.
وفي رحلته من اليونان الي ألبانيا يستقل المخرج السينمائي اليوناني العائد من المنفي عربة أجرة يقودها سائقٌ زورباويّ الحساسيِّة والطباع من حيث توفر قنينة المشروب وكرعها أثناء القيادة علي الطريق الجبليَّة الخطرة، ومن حيث توفر اللسان اللاذع بكميَّة وفيرة، ومن حيث إمكانية الإدلاء بالحكمة البليغة والعفوية، ومن حيث فَوَرَان النزعة الصداقية الفائرة. ان اليونان تموت! ، هكذا يتفجع السائق الزورباويّ بحشرجةٍ أليمة كانت قد نَخَرَت صدر نيكوس كازانتزاكيس لزمنٍ طويل! وفي هذه الرحلة التي يستفيق فيها هوميروس الإغريقي سينمائيَّاً يساعدُ المخرج السينمائي اليوناني المعاصر امرأة مسنَّة علي عبور الحدود بين اليونان وألبانيا بحثاً عن أختها التي تقول أنها لم ترها منذ سبع وأربعين سنة؛ فهي مثله منفيَّة أيضاً، وهي مثله تبحث عن زمن ضائع في ما استجدَّ علي سرد المكان؛ إذ ان المرأة تلك، في بحثها عن أختها الضائعة والمفقودة، إنما تحاول العثور علي مُعادِلها الشخصيٍّ للسرد التاريخي الجمعي الذي أصبحت تفصله حدود بين الدول والأمم الجديدة. هذه الإشارة لإقامة الحدود ونفي الانسان في سرد الأمة وتبرؤ الذاكرة هي قطعاً مُرَاد مشاهدتنا مع المخرج المسافر في الفيلم، وفي التاريخ أيضاً، عشرات من العمال الألبان الذين تم طردهم من مكان عملهم في اليونان الي بلادهم التي لم يعد فيها اشتراكية موهومة ولا يوجد بها رأسمالية واهمة. أنها لحظة طاحنة ومطحونة معاً؛ فقد كان نظام تشاوتشيسكو قد إصر علي ضرورة هدم كل دور العبادة اليهودية (المعابد) والمسيحية (الكنائس) والإسلامية (المساجد). غير انه في ألبانيا تلك تحديداً ها هي المرأة العجوز تترجَّلُ من السيارة في ساحة المدينة الحدوديَّة حيث نسمع معها في الخلفية الزمانيّة لذاكرة الفيلم أذاناً يُرفع وآيات قرآنية تتلي مُذَكِّرة بأحد مكونات السرد الثقافي لتاريخ المنطقة.
وبعد أن تكون السماء قد أمطرت لدي عودة المخرج السينمائي اليوناني المنفي الي بلاده في بداية الفيلم، تواصل الطبيعة حضورها الغامر في السرد علي اثر مغادرة السيارة الي ألبانيا، حيث نري عبر لقطات بانوراميَّة الجبال المغطاة بالثلوج وهي تشكل لوحة مقفرة، وشاحبة، و باردة في ما هو مثال نموذجي لدور الطبيعة في السرد لدي أنجيلوبولوس؛ حيث غالباً ما تقوم الطبيعة لديه مقام الشخصية الموازية، وذلك من حيث تعبير الطبيعة عما يعتمل في أعماق الشخصيات الآدمية التي تسافر فيها وعبرها وتجوس. وهذا يختلف تماماً عما يحدث في أفلام مخرج سينمائي كبير يهتم بالطبيعة اهتماماً خاصاً؛ أعني الياباني أكيرا كوروساوا الذي يلجأ الي الطبيعة من باب النذير والتهكن والاستباق والتنبؤ، بمعني أن هبوب عاصفة في أفلامه الساموراييَّة خاصةً يعني أن العاصفة القوية في هذا المشهد ستتبعها قريباً معركة ضروس في المشهد التالي أو الذي بعده (فيلمه الأشهر الساموراي السبعة 1954 مثلاً). لدي أنجيلوبولس، إذا، تفصح الطبيعة عن جوانيَّة الشخصيات ومناخاتها غير المرئيَّة، وأحياناً غير المعروفة، الغائرة، كما أنها تبوح بما يعتمل في روح المكان وذاكرته. وفي ذلك فان عناصر الطبيعة في السرد السينمائي لدي أنجيلوبولوس عناصر شتائيَّة في الغالب: المطر أو الرذاذ؛ البَرَدُ أو الثلج؛ الصقيع؛ الضباب أو الغيوم؛ السَّديم؛ الوحل؛ والستائر البيضاء التي تحركها الريح في ما يبدو انه لمسةُ تقديرٍ وعرفان (homage) الي بيرغمان وتاركوفسكي المعروفين بولعهما بلقطات الستائر البيض التي يحركها الهواء. والحقيقة ان فيلم أنجيلوبولوس منظر طبيعي في السديم (1988) كان بمثابة عرض عملي للقوة الإبداعية في القدرة علي إنطاق تلك العناصر بصورة بليغة للغاية.
وإشراك الطبيعة في السرد والذاكرة في تحديقة عوليس إنما يتم بصريَّاً عبر طرائق من قبيل الاعتماد علي العدسات العريضة، ولقطات الرافعة في تحركها أفقياً ورأسياً، يميناً ويساراً، أماماً وخلفاً، علي المِحور. وفي هذا فان النَّفَس الملحمي لبصريات الفيلم عَزَّزَه الاقتصاد في القطع، وتكريس اللقطات الطويلة والكبيرة التي تنتقل مباشرة الي تالياتها من دون كثير اضاءات تدريجية (fade-ins) أو أفولات تدريجية (fade-outs) للكادرات الأولي والأخيرة من كل لقطة. ولن يكون من الإنصاف الحديث عن الحضور الجمالي الاستثنائي للطبيعة لدي أنجيلوبولوس من دون ذكر الدور الذي قام به المصور السينمائي البارع يورجوس أرفانيتيس (تماماً كما اعتقدتُ في الحلقة السابقة انه من غير الإنصاف ذكر أرسون ويلز من دون الإشارة الي جريج تولاند).
وفي ألبانيا يتجه المخرج السينمائي اليوناني العائد من المنفي الي رحلة عبر ذاكرة السرد والمكان والأُمَّة والزمان الي مقر الأرشيف الوطني للسينما، لكنه لا يجد ما يعنيه كثيراً في ما يخص شرائط الأخوان ماناكياس المفقودة، بل يجد بدلاً من ذلك المرأة الغامضة التي قابلها فور العودة الي بلاده وقد تجسدت في شخصية امرأة أخري. وسوف تواصل المرأة الغامضة هذي تناسخها المتجدد دوماً بظلال مختلفة لكل شخصية في المحطات القادمة من رحلة المخرج. أنها الانسان نفسه وقد أصبح تمرئياً حنينيَّاً مثل السرد والزمان والمكان والأمة (وقد قيل كلام كثير في نظرية السينما سلباً وإيجابا حول شَخْصَنَةِ الأمة في شخصية المرأة). والمرأة هذي، في الحقيقة، تُذَكِّرُ المرء الي حدٍّ ما بالتمرئيات المختلفة لزوجة الراوي في فيلم المرآة (1975) لتاركوفسكي؛ غير ان هذه المرأة تجلب معها أيضاً أصداء وترانيم فِقْدٍ غائرٍ لعلاقات بعيدة من التاريخ الشخصي للمخرج الذي يعيد الآن التعرف علي تعالق ماضيه مع ماضي وسرد وذاكرة المنطقة التي جاء منها. قد تكون تلك المرأة الحبّ الذي يجيء فجأة حيث نري ما يأتي به من رغبة وحنان في لقطات مقرَّبة واسعة، ولقطات متوسطة، ويختفي فجأة في اللقطات البانوراميَّة الكبيرة التي يتضاءل فيها كل شيء أمام الحضور الغامر للأرض، محرِّضاً علي التنقيب عنه في سياق قراءة الوجدان الجمعي، وسرد الذاكرة الجمعيَّة. كما ان الحضور والغياب اللذين تجسدهما المرأة تلك في صورها وتجلياتها المختلفة إنما يحيلان الي الطبيعة الجوهريَّة للحب، والعذاب والشفافية اللذين يغلِّفاه بحثاً، ولقاءً، وفراقاً.
أنجيلوبولوس وأوفيد
وفي منطقة كونزتانسا الرومانيَّة (المكان) يلتقي المخرج بعائلته التي يراها ونراها معه وهي تحتفل بالسنة الجديدة للأعوام من 1945 الي 1950 (الزمان)، ويحدث ذلك استرسالاً في لقطة واحدة مُتَّصِلة طويلة (sequence shot). ليس هناك فلاشباك ، ولا تغيير لدرجة اللون أو درجة التركيز البؤري للحقل البصري أو نوعية الفيلم الخام المستخدَم في تصوير تلك اللقطة/المشهد، ولا مزجاً احلاليَّاً (diolve) وذلك من أجل الايحاء بزمنٍ آخر. ليس هناك أي استخدام لأي من تقنيات الانتقال السردي أو الزمني التقليدية، وذلك لأن السرد هنا-ببساطة شديدة- لا ينتقل من زمن الي آخر، بل يوحد زمنين تاريخيين في المكان وفي الزمن السينمائي، حيث ان المخرج حين يدخل الي البيت القديم لعائلته بثيابه التي عرفناه بها في الفيلم، وبهيئته الفيزيقية والعُمْرِيَّة الحالية، فانه إنما يدلف في الحاضر الأبدي للسرد السينمائي الي الزمنين التاريخي والعاطفي اللذين كانا يؤثثان البيت من منتصف أربعينيات القرن الماضي وحتى نهايتها. أنها اللحظة الأكثر كرونوتوبيَّة بالمعني الباختيني للكلمة بامتياز شديد في الفيلم، وهي لحظة تدفع الروح فوراً الي التعلق بأحد أغصان أقرب شجرة في مقبرة من أجل الانتحاب حتى الصباح. والمُخرج بذلك يعود شاهد عيان للذاكرة علي ما كان ومن كانوا، تماماً كما عاد العجوز المتقاعد الي بيت طفولته ليجد كل شيء كما كان عليه، بمن في ذلك البشر المحتفظون بنفس هيئاتهم الفيزيقية القديمة قبل عقود طويلة من الزمن ولكن في الزمن الحاضر، وذلك في فيلم انغمار بيرغمان الفراولة البريَّة (1957) الذي يشير معناه المستتر في السويدية الي الذهاب الي مكانٍ بعيد ، والذي يسرد بدوره قصة رحلة الي الماضي. لكن الدخول الي المكان الأليف (بالمعني الباشلاريِّ للتعبير) في تحديقة عوليس هو أيضاً دخول في منفي الزمن وذاكرة السرد والمكان التاريخي. ولعلها ليست صدفة ان منطقة كونزتانسا التي تقوم فيها هذه القيامة السرديَّة الآن هي نفسها المنطقة التي نُفِيَ إليها أوفيد الشاعر صاحب تَحَوّل الكائنات (هكذا يقترح أدونيس ترجمة العنوان عوضاً عن الترجمة العربية القديمة وهي مَسْخُ الكائنات )، وذلك يوم كانت المنطقة هذي تقع علي أطراف الإمبراطورية الرومانية البائدة.
وفي واحد من أقوي مشاهد الفيلم يسافر المخرج الي بلغراد عبر نهر الدانوب في مركب شحن لا يحمل غيره سوي قبطانه وتمثال عملاق مهشَّم للينين الذي ترقد أوصاله علي طول سطح المركب، بينما المخرج متكئ علي احدي تلك المِزَق الخرسانيَّة وهو يقرأ كتاباً. يا للمشهد الرهيب حقاً الذي يقرأ فيه المبدع سرداً مهشِّماً ومهشَّماً ومغدوراً لمشروع تاريخي ضخم لم يُقَيَّض له الاكتمال؛ فمشروع الأمَّة والذاكرة الجديدة للسرد لمشروع غير مكتمل دوماً وأبداً علي الرغم من كل شيء. وفي ما قد يكون العاصمة الصربيَّة أو بوخاريست يلتقي المخرج بصديقٍ صحفيٍّ قديم حيث يكرعان ذكرياتهما في حانة، ثم يخرجان في حالة تَرَنُّحٍ الي الشارع المقفر وهما يشربان أنخاب شخصيات رحلت بعد أن تركت بصماتها علي السينما والأدب والفكر الثوري في قصة وذاكرة القرن العشرين مثل أرسون ويلز، ودريير، ودوستويفسكي، ومايكوفسكي، وتشي غيفارا.
ويصل المخرج بعد ساعتين من الزمن الفيلمي الي المحطة النهائية لرحلته، أي سراييفو التي نراها وهي تحترق بنيران الحرب المسعورة. أهذه هي سراييفو؟! ، هكذا يسأل المخرج أحد المارَّة الهاربين من نيران القصف المجنون وذلك من باب الدهشة لفظاعة ما يحدث وليس من باب رغبة المسافر في التيقن من محطَّته. أهذه هي سراييفو؟! سؤال استنكاري يُلَخِّص حال المدينة وسردها الجديد، وذاكرتها الجديدة. وسأتجرأ هنا علي القول بأن هذا السؤال البسيط والجارح الذي يستهلُّ الفصل البوسنيَّ من الفيلم يَبُزُّ كامل فيلم تحت الأرض (1996) للمخرج البوسني أمير كوستاريكا الذي كان فيلمه المخيِّب للآمال من الناحية الأخلاقيَّة والسياسيَّة كرنفالاً باذخاً من الصور يتحاشى الإدانة، بل انه يرينا صوراً من مآسي تلك الحرب-المُجْمَع علي بواعثها الدينيَّة والعرقيَّة- في مجسَّمات لكنائس تحترق!. انه إلقاء اللوم علي الضحيَّة كما قال ادوارد سعيد في سياق مختلف ولكن ليس بالكامل. لقد كان تحت الأرض فيلماً جعل كوستريكا يستحق بجدارة مؤسفة اللقب الذي أطلقه عليه أبناء بلده: ريفنشتايل كرادتش! نسبة الي المخرجة السينمائية الألمانية النازيَّة ليني ريفنشتايل التي كان هتلر يتباهي بها باعتبارها امرأتي الألمانيَّة المُفَضَّلة . (وان أنتم سمحتم لي مشكورين باستطرادٍ شخصيٍّ صغير فسأبوح أني كنت مقيماً في مسقط يوم فاز فيلم تحت الأرض بجائزة مهرجان كان السينمائي. ولأن أهل البوسنة كانوا يُذبحون ويُغتصبون ويُطمرون في المقابر الجماعيَّة في ذلك الوقت، ولأني معجب بأفلام كوستريكا السابقة خاصة زمن للغجر (1989) فقد سارعت الي كتابة مقالة بعينين مغرورقتين بالرماد والدموع علي شكل رسالة تهنئة لكوستريكا، حيث اعتبرتُ فوز فيلمه في المهرجان العتيد نصراً ثقافياً للبوسنة في الوقت الذي كان فيه أهلها يُبادون عبر تلك المجازر الرهيبة. لكن قبيل تسليم مقالتي/التهنئة للنشر في احدي الصحف العمانية، والتي لم أتعرض فيها للفيلم نفسه لأني ببساطة لم أشاهده بل كتبت حول السياق الثقافي والفكري والسياسي الذي يتموضع فيه فوز الفيلم بجائزة عالمية كبري، خطر لي فجأة انه من الحماقة أن أنشر مادة باعِثها فيلمٌ لم أشاهده حتى وان كنت أحترم المخرج و أَثِق به. بهذا تراجعت في اللحظة الأخيرة عن نشر المادة. وحين سافرت الي الولايات المتحدة بعد ذلك كان من أوائل الأشياء التي فعلتُ مشاهدة فيلم تحت الأرض التي سبَّبت لي ليلة طويلة من الغضب والخذلان والمرارة. لكني، علي الأقل، شعرت بسعادة رمزيَّة أني لم أنشر تلك المادة التي مزَّقتُها في نفس الليلة من غير أدني أسف).
لكن، عودة الي سراييفو التي تحترق، في التاريخ وفي فيلم تحديقة عوليس ثمة في المدينة قبو يحتوي علي ما أمكن إنقاذه من الأرشيف السينمائي. ومن ضمن محفوظات هذا الأرشيف توجد فعلاً الأشرطة السينمائية الثلاثة للأَخوان ماناكياس التي تم تصويرها في بدايات القرن الماضي التي يبحث عنها المخرج اليوناني العائد من المنفي، ولم يخطر ببال الأَخوان ماناكياس يومها إنهما كانا يحفظان جزءاً من ذاكرة القرن التي ستهشم نفسها في تفاقم السرد البربري لدولة الأمَّة أو دولة الشعب في أوروبا، حيث يلتقي المخرج بالقَيِّم علي الأرشيف الذي قام بدوره باقتدار معهود السويدي ايرلاند جوزيفسون الذي يقترن اسمه ببعض أهم أفلام بيرغمان. (وللمفارقة ذات المغزى فان دور القيِّم علي الأرشيف هذا كان في الأصل مناطاً بالممثل الايطالي الطليعي جيان ماريا فولونتي الذي مات فجأة أثناء تصوير الفيلم، فاستُبدل بجوزيفسون الذي كان قد حلَّ محل الممثل الروسي أناتولي سولونيزين الذي توفي فجأة عندما كان يتهيأ للقيام بالدور الرئيسي في فيلم تاركوفسكي الوداعي القربان (1985) الذي لم يحضر تاركوفسكي عرضه الجاهيري الأول لأنه نفسه مات فور الانتهاء من عمل مونتاج الفيلم الذي كان قد أهداه الي ولده. ولذلك أهدي أنجيلوبولوس تحديقة عوليس الي ذكري جيان ماريا فولنتي في لمسة وفاء وعرفان نبيلة).
ونعود الي القيِّم علي الأرشيف السينمائي في سراييفو الذي يتم اعتقاله، ويلاقي حتفه رمياً برصاص الإعدام من دون محاكمة، والذي نسمع دويه من دون أن نتمكن من رؤية وجوه القتلة بسبب الضباب الكثيف الذي هو أيضاً ضباب الذاكرة في الانسان، وضباب النسيان والسرد السياسي والتاريخي الجديد، وان كانت هويَّات أولئك القَتَلَة قد كشفها تجهيز أسيرهم للقتل بعبارات مقتبسة من الأدبيات المأتميَّة المسيحية.
لقد حدث ذلك كله بصورة ملحميَّة، هوميروسيَّة وكافكاويَّة، في الضباب الكثيف الذي يمتد من الكادر السينمائي في فيلم تحديقة عوليس ليغَلِّف بالكامل الفصل الجديد من سرد الأُمَّة حيث هناك انسانٌ ونسيان، وحيث هناك، في المقابل، بَشَرٌ يُقتَلون، وحيث هناك سرد جديد وأمم جديدة وحدود دوليَّة يتم ترسيمها بالدم والنار علي آثار خطوات الأَخوين ماناكياس اللذين كانا يتنقلان عبر أنحاء المنطقة نفسها لنقل سرد المكان عبر سرد السينما بلا جوازات سفر. وكان أحد الشعراء من ضحايا السرد الوحشي للدولة في المنطقة العربية، محمود درويش، قد صرخ (من جديد) في احدي قصائده (القديمة) التي تحمل عنوان جواز سفر التي أري انه من المناسب، بل من السياقيِّ والضروري تماماً، اقتباسها كاملة كخلاصة شعرية لهذا الفيلم الشاعري وكخاتمة لهذه المادة:
(1)
لم يعرفوني في الظِّلال التي
تمتصُّ لوني في جواز السفر
وكان جرحي عندهم معرِضاً
لسائحٍ يعشق جمع الصُّور
لم يعرفوني، آه.. لا تتركي
كفِّي بلا شمس، لأن الشجر يعرفني
تعرفني كل أغاني المطر
لا تتركيني شاحباً كالقمر!
(2)
كل العصافير التي لاحقت
كفّي علي باب المطار البعيد
كل حقول القمح، كل السجون.. كل القبور البيض
كل الحدود.. كل المناديل التي لوَّحت
كل العيون كانت معي، لكنهم
قد أسقطوها من جواز السفر!
(3)
عارٍ من الاسم، من الانتماء؟
في تربة ربَّيتها باليدين؟
أيُّوب صاح اليوم ملء السماء:
لا تجعلوني عبرة مرتين!
يا سادتي! يا سادتي الأنبياء
لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أمها
من جبهتي ينشقُّ سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس جنسيتي
فلتُسقطوا عني جواز السفر!
حقَّاً.
(4)
تضيء الشوارع فيه
بأشجار أفراحنا
ومعانقة الأخوة الشاردين
أخيرا أريد سلاما
لنفسي، وللأرض، والآخرين!
القدس العربي
09/01/2007