تعالوا نتخيل كيف يكتب الشاعر قصائده. ربما يجلس في غرفته مقفلا أبوابه يحمل سيجارة وقلماً وورقة ويروح ويجيء في الغرفة منتظراً أن تأتيه الصورة التي يريد الإنطلاق منها في صناعة قصيدته. ربّما يجلس في المقهى أمامه كمبيوتر محمول يفرغ على الصفحات البيضاء ما في جعبته من الصور. ربّما يقرأ كتباً كثيرة في الشعر والرواية والصحف ثم تخطر في باله قصيدة فيدونها ويعود وينظر إليها في اليوم التالي فيبقيها على قيد الحياة أو يقتلها في سلة المهملات. ربما يحتاج الشاعر إلى كأس أو إلى أي محفز آخر ليترك القصيدة تنزلق حرة من حبر قلمه ومن بين أصابعه. هذه المشاهد جميعها قد تكون صحيحة في وصف طريقة الشاعر في كتابة قصيدته، لكن ناظم السيد في كتابه "أرض معزولة بالنوم" الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر، يكاد ينفي هذه المشاهد من مخيلة المتطفل ليوحي لقارئ الشعر النهم بطريقة واحدة لكتابة الشعر: التجوال الممزوج بالذاكرة.
وفي تجواله هذا يصير السيد عيناً. جسده كله يحيله إلى عين تلتقط الصور. التجوال في أيّ مكان، أكان في الغرفة أو في الشارع أو على كورنيش البحر أو في المساحة الفاصلة بين كرسي المقهى والطاولة، لأن تجوال المتطفل في هذه الحالة مضافاً إلى مستنقع الذاكرة وموادها هو الذي يصنع قصيدة ناظم السيد في "أرض معزولة بالنوم".
لعبة
لننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. يدأب ناظم السيد أثناء مراقبته ما يحيط به، أيّ ما نفحه أبونا آدم أسماء بعدما امتحنه الله أمام الملائكة كما جاء في سورة البقرة (...إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها...)، يدأب على إعادة الأشياء إلى أدوارها قبل أن تمنح إسماً، لكن ليس إلى أدوارها الحقيقية التي كانت لها قبل أن تسمى، بل إلى أدوارها التي يريد السيد أن يمنحها إياها. فالبحر لا يعود بحراً بل يصير "نظرة خرقاء وواسعة. أحدهم رماني هنا" (ص 20) يقول البحر بلسان الشعر. هذه اللعبة هي اللعبة الرئيسية في شعر "أرض معزولة بالنوم".
الأشجار تستريح من عروقها وتمشي في العاصفة... المرح لا يهدأ حتى يصل البحر" (ص 10). "أنا الليل يتيم نفسي. خجول لدرجة أني لا أخرج إلا في الظلمة" (ص21). "يا هواء في المرة القادمة تعال وحدك. تقدم رجلاً إلى رجل" (ص 8). في الذاكرة تكتب قصيدة التجوال والمراقبة. والذاكرة طفولية لامعة تعيد صوغ الصور الجديدة والقديمة، أيّ أنّها تخرج من رواسب الصور التي تعلق من زمن الطفولة في مخيلة الشاعر. هذه الذاكرة تغلف كلّ جملة شعرية من جمل المجموعة، بها تتكرّس الصورة الشعرية كرواية لحدث، أو كرواية لنظرة متطفلة، أو لحشرية ما. يمكن القول إن المجموعة الشعرية بأكملها تلخيص لنصّ روائيّ تلعب فيه الذاكرة الدور الأول ثم الحبكة والسرد والعقدة والمخيلة والتحرش المقصود بالأشياء وتصنيفها على غير ما هي عليه، وقراءة في عمق المعاش، تفاصيله في الزمان والمكان، في لا شيئيته التي يريدها الشاعر ناظم السيد مقصودة ومرمية عنوة في وجه القارئ.
الآن وفي المحصلة، إذا جمعنا التجوال المتقصي والذاكرة ولعبة الأدوار الجديدة الممنوحة للأشياء، ولعبة الأسماء الممنوحة للأشياء مرة جديدة، ولعبة اللغة المسبوكة برؤية الشاعر الذي آتته الفرصة كي يقول أمراً بعد انتظار طويل، والولع بالمخيلة المؤسطرة، إذا جمعنا هذا كله نحصل على قصيدة ناظم السيد المصفوفة بين دفتي كتاب "أرض معزولة بالنوم". وتضاف إلى ذلك كله اللعنة التي تمتلئ بها نفس الشاعر السيّد، لعنة الفرد الذي يعيش في داخله ويمتص من الخارج صوره فحسب، الفرد الذي يعيش على الصور ككائن طفيلي. هذه اللعنة الفاضحة لدى السيد هي التي تكتبه شعراً وهي التي تجعل من شعره سبيكة صور.
قطعة من النص
"الجار يعلن استيقاظه الباكر بالسعال. الجار ديك الحي. السعال ليس مرضاً كما عرفت لاحقاً. إنه تذكير بأن الحياة ما زالت مقيمة في الطابق الرابع. الأخت تنهض من نومها وتسقي النباتات. فكرتها: النباتات ليست ماضياً. النباتات انتقام من الوحدة. النباتات أفواه خرساء. تتقدم الشمس بخطى بطيئة وتقطع الشارع. النساء يودعنها بالأساور. يدخل الليل بالجاكيت السوداء وينام كالمذنب".
إقرأ أيضاً:-