نموت في كندا بصمت يليق بخفة ملائكة الموت. نموت في عزلة. نموت محاطين ببعض الأهل والأصدقاء-إن كنا محظوظين ولنا عائلات وأصدقاء حقيقيون. نموت من قلة الشمس وشدة الاحباط وارتفاع الضغط، والسرطان....ونموت من الأكل حتي التخمة أيضا. نموت كأبناء آدم وحواء.
كيف ستعرفون إن كنا قد متنا في كندا؟
سؤال صعب لكن الدولة والمؤسسات والمدارس جميعها تعاملت مع الموضوع بطريقة منطقية. ففي سجلات كل شخص هناك خانة يتطلب وضع معلومات فيها وهي السؤال عن اسم وهاتف الشخص الذي يجب الاتصال به في حالات الطوارئ. هذه القسائم تحضر في عقود الاستئجار، طلبات التقديم لوظيفة، وتطلب هذه المعلومات من الصغار والكبار، من البيض والسود، من المهاجرين والسكان الأصليين.
كيف يعرف الأهالي بالخبر؟
والموت طارئ حتمي. الموت لايختفي. تشي به رائحته أو برودته في حضن سرير منعزل في إحدي المشافي. يتناقلون الخبر عبر الهاتف، عبر الكنيسة أو الجامع. أما سكان البلد فأغلبهم يضع اسم المتوفي في خانة الوفيات في الصحف الرسمية اليومية الصادرة في المدينة. أنا لا أتفقد هذه الصفحات.
منذ سنوات كنت وصديقات أخريات نتحدث عن الموضوع كما تحسب لشراء كتاب أو ربطة خبز أو جزر. قلنا سوف نتبادل أرقام هواتف أهلنا في البلاد كي يتم إعلامهم بأي طارئ لكننا كأصدقاء افترقنا قبل أن نصبح أصدقاء حقيقيين. ماتت غيرتنا علي سلامة بعضنا بسرعة وأدرنا الظهر لبعضنا لأسباب شتي.
ذات قيلولة قفز هذا الموضوع ثانية حين كنت أتحدث هاتفياً مع صديقة طيبة. أعطيتها رقم هاتف أصدقاء آخرين مقربين مني كي تتصل بهم اذا لاحظت غيابي طويلا وعدم ردي علي الهاتف أو الإيميل.
ونموت في كندا بطرق سريالية وبطرق مضحكة وبطرق مقيتة. أشدها تراجيدية تلك التي تكتشف بعد أن يتفسخ المرء في شقته وينزعج الجيران من رائحة لا يعرفون مصدرها. اذكر أنني اشتريت قفلا إضافياً لأضعه علي باب شقتي، لكن مالك البناية رفض وحجته في ذلك، لو حصل لي شيء لن يستطيعون دخول الشقة بسهولة، وسيضطرون لكسر الباب للدخول إلي شقتي، وعلي أن أعرف أن ثمن الباب المسكور سيكون مطلوباً من الورثة. يضحكني موضوع الورثة لأسباب كثيرة. اذكر انني قلت للمالك، سأضع القفل علي الباب وأعطيك نسخة من المفتاح. انتهي الحديث هناك وبقي القفل مركوناً في خزانة الأحذية. علي كل، الموت لا يدخل من الباب.
الرجل الذي نزل شقة عند أصدقائي السوريين، بدأت تظهر عليه أعراض المرض/الموت. كانت صاحبة البيت تخاف عليه وترسل زوجها كل يوم كي يقرع الباب ويطمئن علي حياته، إلي أن قرع الباب ولم يجد ردا، كان الموت في الداخل يشتغل اشغاله السرية ولا أدري إن كان قد دخل من النافذة، أم من ثقب في القلب، أم أنه كان واقفاً فوق أنف المريض منذ يوم ولادته. أخبروا البوليس كي يحضر ويأخذ الجثة. اتصلوا بأولاده في مقاطعة أخري لإخبارهم ولم يحضر أحد لإجراء مراسيم الدفن وإلقاء نظرة أخيرة علي الأب. قامت الجهات المعنية بالواجب. دفن الرجل وحيداً كما عاش وحيدا لسنوات. أذكره الآن، كان أنفه كبيراً علي نحو منظور، لا يستطيع أن يشرب البيرة في كأس صغيرة لأن أنفه يعترض طريق شفاهه إلي كأسه. أذكر لكنته الفرنسية-الانكليزية. لم أكن أحبه ربما لأنه صرخ في وجهي وقال لي اخرسي حين طلبت منه أن يخفف صوته وهو يتحدث عن السياسة وأمريكا والشرق الأوسط. كان في وجهه حقد كبير علي العالم. لم أره يضحك أو يبتسم علي الإطلاق. كان يجلس في زاوية المطعم لوحده، وأحيانا يأخذه الحماس ويشارك في حديث سياسي مع رواد المقهي وهم يتابعون أخبار الـ سي ان ان ، فيتطاير الرذاذ من بين أسنانه الأمامية المقلوعة. كانت الفراغات كبيرة في فمه وأنفه ووجوده وفي صمته المريب. مات ديفيد، اليهودي الأصل قبل قدوم الصيف مخلفاً وراءه جاكيته الجلدي البني العتيق وكراكيب رثة وقناني فارغة. رواد المقهي تذكروه وشربوا مزيداً من البيرة علي روحه. قال صاحب الملك: لم أفهم لماذا كان ديفيد يقول أن جنسيته ألمانية بينما البوليس كشف لهم أن جنسيته فرنسية وهو يهودي الأصل. في هذا البلد لا أحد يعرف حقيقة أحد، ولا شيء يكشف ويخفي ملابسات الكائن إلا الموت.
تتعدد الميتات، وتتعدد القصص حول هذا وذاك. آخر أخبار الموتي في هذا الجوار موت المرحوم جورج-محمود الذي تنقل من دين إلي آخر، ليس حباً في معرفة الأديان والخيارات الحرة، بل رغبة في التكسب والبحث عن عائلة وأصدقاء يلجأ إليهم بعد أن خانته الحياة ولفظته طفلاً غير شرعي دفع ضريبة حالة لم يخترها. كان المرحوم ساخراً ضاحكاً يعشق الأكل والجنس بشدة ويرتكب المغامرات. تزوج ثلاث مرات، كل مرة امرأة من قارة. أنجب أطفالاً ملونين، اسلاما ومسيحيين. لم يعرف أحد تماماً هل مات جورج-محمود من التخمة أم من الإرهاق في الجنس، أم من العزلة والجرح المكبوت والوجود الحرج.
في مراسيم العزاء والتأبين لم يبكِ أحد بصوت عال. صمت وخشوع لراحة الميت. عيون حمراء حزينة وغريبة.
يوم لتقبل التعازي وإلقاء نظرة أخيرة علي المرحوم ويكون ذلك في إحدي الصالات العامة، ثم يتم الدفن بحضور رجل الدين. وفي هذه الحالة الاستثنائية، جرت مشاورات بين معارفه من الكنيسة ومعارفه من الجامع، وكل يريد أن يتم الدفن علي طريقته الشرعية.
الطريق بلا نزاع هو الطريق إلي المقبرة. يعيد رجل الدين بعض الصلوات (ومن التراب الي التراب تعود) يحمل كل شخص وردة يضعها فوق ضريح علي استعداد للنوم في تلك الحفرة الباهرة. جميع الحفر علي نفس المقاس تقريباً. ثم ينصرف الأصدقاء والغرباء إلي اشغالهم. وقد يذهبون إلي مطعم أو بيت ليأكلوا لقمة الرحمة علي الميت. أثناء الطعام يشعر المراقب أن الناس في فرح، الكل يحكي ويضحك ويناقش في السياسة أو الطبيخ. بعضهم يتحدث عن المرحوم ويتذكر فصوله المضحكة والمحزنة، وبعضهم صامتاً يأكل بحزن ويلتهم الصحون حتي التخمة. البعض ينزوي في ركن ما ويبكي لأسباب تاريخية وشخصية.
لهذه الأسباب نموت في كندا، ولهذه الأسباب أيضاً نهاجر إلي كندا، ونعيش في كندا وفي العالم.
القدس العربي
30-10-2007