الكتابة الشعرية تحتفظ بمرجعية “التناص” لأنها تكرار التجربة، لا تكرار النص نفسه أو المفردة ذاتها، فالنص الشعري يبني دوماً علاقته بالآتي والمستقبل كقضية إبداعية تطرح إشكالية علاقة الشاعر بالحياة. الشاعر ككائن اختباري لا ككائن اعتباري، وبين التجربة والاختبار مسافة لا تقيم للاعتبار وزناً كونه يحيل النص إلى “أمس”، فيفرض على الشاعر مدلولاً لا يتواءم مع مرجعياته الفكرية والدلالية التي تحضر في تجربته المعاصرة.
ومرجعية التناص تحيل نص “الحرير الملطخ بأدمع آخر الليل” للشاعرة نجوم الغانم إلى تجارب الشعراء الرومانسيين في النصف الأول من القرن الماضي، وإن كانت لا تكرر المدلول المفهومي ذاته الذي حملته دالات النصوص الشعرية الرومانسية في الأمس القريب، وإن كانت تستقي لغتها من بيئة تشترك مع البيئات التي عبر عن تفاصيل الحياة الوجدانية فيها، شعراء رومانسيون عديدون، لجهة قدرة الحزن كطاقة شعرية على رسم ملامح القصيدة التي تكتبها “نجوم الغانم” بكثير من الحزن والانكسار، كحافز إبداعي على استعادة التجربة ذاتها في مضمون تصعيدي يوصل إلى اللحظة الإبداعية في بنية محورية تقوم على استدراج الأنا الشاعرة إلى عالم النص فتحبسها فيها لتعلن شكلاً جديداً للرومانسية القاتمة المتشائمة بعناصر الطبيعة التي اتفق الشعراء قبلاً على اعتمادها ك”ثيمات” نمطية للقصيدة الرومانسية الحديثة كالمطر والفصول والصباح والشموس، تقول:
“تطاردنا الفصول بأمطارها
وجفاف أطرافها
فنكتوي
بصقيع صباحاتها الموحش حتى البكاء”.
تستبدل الشاعرة الصباح بشكل أقرب إلى الليل والعتمة، بما يلائم نظرتها التشاؤمية إذ تحيله موحشاً ومحفزاً على البكاء والاكتواء، يعني أنها تقلب رؤى الشعر التي سادت فتعلنها مصدر حزنٍ دائمٍ في سرديتها البكائية المنكسرة، وتفتتح عوالم قصيدتها المغايرة لجهة اعتمادها الهواجس السوريالية من سواد وليل وعتمة ودسائس وانكسار، لشاعرة تختلف ظروف بيئتها في غرابتها واستثنائيتها عن كل بيئة أخرى، فبيئتها تحفل بالقلق الوجودي والأرق لما يحاك حولها من دسائس تهرّبها الأعوام، فيقع العمر كله زمنياً في المساحة الضيقة لمكان دائري قطره حبلُ مشنقة، أو أصفاد قيد في يد سجين، تحفر عميقاً في ذاكرته قبل جلده، وتشق خنادقها تحت الجلد لتعلن الانتحار والهمّ الأزلي للنفس الشاعرة، فينيق الاحتراق وفراشة القنديل، تقول:
“نقول سنتوارى في وحدتنا
فتغافلنا الأعوام مهرّبةً
دسائسها تحت أبوابنا
ونستيقظ على كهولتنا
حيث الانكسارات تشق خنادقها
تحت جلدنا”.
نجوم الغانم شاعرة تكتب الحياة وجعاً مقيماً في أعماق الروح، تستفزّه لينطق في نصها الشعري كأنه طائر الهامة في التراث العربي الجاهلي، وهي شاعرة “الثأر” من الحياة بالحياة نفسها، والحزن بما هو أكثر مأساوية من الحزن نفسه، تثأر من الوطن بشموس الأوطان البعيدة في الغربة تستظل بها روحها، كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهي عدوة عمرها الذي يعبر سريعاً من لحظة انكسار إلى أختها، وصولاً إلى الكهولة القريبة كالولادة المسخ، ولا علامة ترشد إلى وجهة الخلاص غير الدم والتشظي.
هو الخوف الرومانسي القديم، ولكن في شكل يرتدي المعنى المحايد، الضبابي، في لا جدوى الشعرية وأولية النص نفسه على ما عداه، كأن الشاعرة تقبض على عنق المعنى ليختنق، تبعده عن محور ثلاثي الأطراف: الأنا الشاعرة والطبيعة المغايرة، والحزن المقيم. وهي شاعرة الحرف المكتوب بالدمع دلالة المعاناة الأزلية والتناص مع هذه المعاناة، بل هي نظرية التبني للضرورة الشعرية والارتكاب الواعي لفعل سرقة المعنى الأوليّ ليدل على ما يغايره في الدلالة، فالخوف يشبه اطمئنان النفس إلى مصيرها في القلق، ليصير القلق فرح الفراشة بلقاء موتها عند المصباح، ويصير الخوف شريك السكن، الجار في الغرفة المجاورة أو هو أقرب، تقول:
“قلوبنا قد أصبحت مثقوبة
وخوفنا لابث في حجرته
كالفراشة الدائخة
دون أن تجد
من يكترثُ لنجدتها”.
نص جنائزيٌ باقتدار شاعري عالٍ هو ما تكتبه نجوم الغانم، وإن ألبستهُ فساتين الزهر في شعريةٍ تحاول أن تقارب موضوعاً شائكاً كالموت، برقة فراشة، والخوف بطمأنينة المستسلم، والرعب لحظة الانكسار بأمان حصول المتوقع، ووقوع المأمول. بل هو نص يرى في موت الفراشة موت البشرية التي تعجز عن مدّ يد العون لها، أو تقف في العتمة فلا تقرأ في نبوءة الشاعرة ما أخبرتها به الليالي عن البهجة الأخيرة، والتسكع تحت خيمة الليل، وتجاذب الضحكات في خلوة الطرقات المستترة قبل النوم، عن القمر الأخير المسمّر عند شبّاك البيت، حارس السهرات.
الخليج
20-11-2007
إقرأ أيضاً: