إذا أردنا البحث، في أساطير الشعوب وآدابها، عن أب للعنف في أقصى وجوهه، والذي تطالعنا ملامحه اليوم في بعض الدول العربية، فإننا نعثر عليه في مراجع كثيرة أبرزها وأقدمها أسطورة إله القتل والدمار الذي يُعرَف تحت اسم إرّا، وهي إحدى أساطير بلاد الرافدين. في ما يأتي، ننقل ما جاء حرفياً على لسان هذا الإله الطاغية:
"ادهنوا أبدانكم بالسمّ القاتل ودمِّروا كلّ شيء.
ليخفِّف الناس المروَّعون من صخبهم
لترجع إلى التراب الحيوانات المذعورة (...)
بين القطعان، أنا الجزّار
أنا النار في منابتِ القصب والفأس في الغابة
أعصفُ كالريح وأهدرُ كالرعد (...)
سوف أقطع الأعناق.
سوف أقتل وأبيد كلّ كائن حيّ.
لن أعفو عن أحد حتى لا يتجدّد النسل.
سوف أشلّ أجنحةَ الريحِ السيئة وكأنّها طيرٌ داجن.
(...)
دارَ الزمانُ ومرّت الساعة.
سوف أزيل سطوعَ الشمس
وفي الليل سوف أحجبُ وجهَ القمر
سوف أسحقُ البلدَ وأصيِّرُه تلالاً
سوف أمسحُ المدنَ وأجعلها صحارى
سوف أهدم الجبال وأقلب البحار
سوف أطلق الأحقاد بين المدن
سوف أفسد قلوب البشر
فلا يهتمّ الأبناء بحياة آبائهم ولا الآباء بأبنائهم.
سوف أجعلُ حيواناتِ السّهوبِ تَجوبُ هائمةً في الشوارعِ.
أستولي على البيوت وأقصِّرُ الأعمار.
سوف أعطِّلُ حياةَ حماةِ العادلين
وأُجلِسُ في مكانِ الشرف الأشرارَ الذبّاحين.
سوف أشجّعُ اللصوصَ على قطعِ الطُّرُق.
سوف أحرِّضُ إلهات الأمومة على إيقافِ التّكاثُر
سوف أحرمُ المرضعات من سَماعِ تَغريدِ الأطفالِ الرُّضَّع
وسوف أنزل الناس بدون كفَنٍ إلى الجحيم (...)
أقتل الإبن وأترك والده يدفنه
ثمّ أقتل الأب فلا يدفنه أحد.
أطمر بالدم الرجالَ والنساء.
هم العصافير وأنا الفخاخ
أمسك بهم وأدمّرهم
أقتل كبيرهم وصغيرهم
ولا أعفو حتى عن الأطفال (...)
هل ثمة حقد غير حقدي؟
أريد ضربَ الأقوياءِ وإرهابَ الضعفاء.
سوف أبترُ جذورَ كلّ شجرة حتى لا تمتدَّ فروعُها
سوف أهدم قاعدة كلّ جدار
سوف أحطّم مقبضَ الدفَّة
سوف أخلع الصواري وأزيلُ التجهيزات كلّها
سوف أجعلُ الأثداءَ تجفّ لكي لا يبقى رضيع على قيد الحياة
سوف أسدُّ الينابيع لكي لا يملأ الماءُ الغزير المجاري الجافّة.
أخطفُ ألَقَ الكواكب
وأمحو الأنجمَ في السماء.
سوف أضعُ حداً لصخب البشر
وأحرمهم كلَّ بهجة.
* * *
هذه هي رسالة إرّا، إله القتل، منذ القِدَم. وإرّا، مثل كلّ الطغاة في التاريخ، ليس مجرّد اسم يتمثّل في شخص واحد فقط. إنه الاسم الذي يتحوّل إلى صفة. وهو لا يزال يقيم بيننا الآن، ومعه المصفّقون والمهلّلون، المدافعون عن مآثره الإجرامية والعاملون على تبييضها، المنتفِعون، تجّار الجثث والموت.
أسماء مثل هتلر، ستالين، بول بوت، تشاوشسكو، هي مرادف لأسماء حكام عرب مارسوا استعماراً جديداً واستعبدوا شعوبهم داخل دول حوّلوها إلى محميات أمنية وملكيات خاصّة ومزارع لهم ولأبنائهم من بعدهم. لم يبنوا جامعة واحدة حقيقية، ولم يفتحوا مركزاً علمياً حديثاً، بل صادروا الحقوق وعزلوا الناس عن العصر، وتلاعبوا بوحش التطرّف الديني، واغتالوا كلَّ من تجرّأ وأشار إلى الحقيقة الفعليّة لصورتهم "الأبدية"، المزيّفة والبائدة.
أولئك الحكام، ومهما اختلفت أسماؤهم وأشكالهم، هم حاكم واحد هو إرّا! لكن، إلى متى سيتمكّن هذا الإله من ممارسة الحكم بالحديد والنار، بالإذلال والتعذيب؟ إلى متى سيظلّ يدّعي حماية شعبه بينما يحتقره ويدوسه كلّ يوم؟ يحاصره، يتجسّس عليه ويحصي أنفاسه؟ يتركه ينزف. يقتله مراراً ويقتل حاملي نعوشه؟
فات الحاكم العربي أنّ الذي احتمل طويلاً ما عاد بإمكانه أن يحتمل، وأنه بات يرتضي الموت على المهانة. فاته أنّ الإنسان عندما يبلغ أقصى الخوف لا يعود يخاف، ولا تعود قوى القهر قادرة على قهره.
السفير
6-5-2011