احتفلت ثانوية صيدا الرسمية للبنات بإطلاق اسم ‘ثانوية حكمت الصباغ الرسمية للبنات يمنى العيد’ بناءً على قرار وزارة التربية اللبنانية، وذلك في احتفال أقيم في قاعة ‘بهية الحريري’ التي قلّدتها وشاح العلم اللبناني ودرعاً تكريمية.
حضر الحفل حشد كبير من الشخصيات والفعاليات الثقافية والتربوية، وتخلّلته كلمات منها كلمة مديرة الثانوية فاديا الجبيلي، الباحثة الدكتورة أنيسة الأمين مرعي، الأديب ، الفنانة التشكيلية فاطمة الحاج، بالإضافة إلى كلمة النائب بهية الحريري. أمّا مسك الختام فكان مع المحتفى بها الناقدة والأديبة يمنى العيد.
ننشر، في ما يأتي، كلمة ، وقد انطلق فيها من كتاب يمنى العيد ‘أرق الروح’ الصادر حديثاً عن ‘دار الآداب’ في بيروت.
يشكّل كتاب ‘أرق الروح’ وثيقة ذاتية وأدبية زاخرة ببعديها الإنساني والجمالي. فهذا الكتاب هو مدى مفتوح على أمكنة الماضي والتعليم والمرأة والثقافة والسياسة، وعلى تلك الرؤية الإنسانية العالية التي تحيط بالكائنات والأشياء.
لا تعود السيرة سيرةً ذاتيّة عندما تبلغ هذا الحدّ من الرهافة وهذا المستوى من السرد، تُصَعِّد عَبره الواقع وأحداث التاريخ الفردي والعامّ على السواء. بلوغ الذات العميقة أليس هو أيضاً بلوغ الجهات التي تتلاشى معها المسافة بين الذات والآخر؟
في هذا الكتاب تصبح ذاكرة الفرد جزءاً من ذاكرة المدينة. لكنّ الكتابة، هنا، ليست مجرّد عمليّة تذكُّر، والطفولة ليست أحد مظاهر الماضي فحسب. إنّها أفق مشرَّع على البدايات والأسئلة والدهشة. كأنّ الحياة كلّها – في هذا السياق طَبعاً – رحلةٌ القصد منها هو الفوز مجدداً بالطفولة والعثور على الطفل الذي في أعماقنا. في هذه المنطقة الأولى، البعيدة الغَور، توجد ينابيع الكتابة.
تبدأ الرحلة إذاً في المدينة القديمة، وهي، على نحو ما، الكون الأول. ها هو مكان الطفولة بفضاءاته وساكنيه: أفنية واسعة مفتوحة على السماء، سلالمُ حجرية، أحواش ودهاليز، أبواب وقناطر، عقود وأقبية. يمسي المكان، لفرط التأنّي في وصفه، كأنه مكان متخيّل العلاقة به أكبر من الحنين إليه.
يتمثّل الوصف، أحياناً، الصورةَ الفوتوغرافية، لكنها الصورة التي تكسِر وَهْمَ الواقع، تجسّد اللحظة الهاربة وتَدُلّ عليها.
في موازاة المدينة، تحضُر الطبيعة. تطالعنا في ‘خضرة البساتين وزرقة البحر’، وفي ‘الغيوم التي يتلوّن الماء تحتها’. كما يطالعنا في الصيغة التي تجعل الطفلة ‘تعانق ساقَي أمّها كمن يعانق الشجرة’ وتجعل البرتقال ‘قناديلَ أرجوانيّة’. نراها أيضاً في امتزاجها بالأنوثة عندما يستوي ‘الياسمين في الصدر، بين الثديين’. أما مفتتح الصبا فيتبدّى في ‘الرائحة العطرة (التي) توقظ الجنس′.
من المدينة والطبيعة والطفولة والوالدَين ورصاص الانتداب، إلى المرأة في مواجهتها لعبء التقاليد، والمجتمع الذكوري، ومجتمع النظام الطائفي، إلى أحلام الحداثة والتغيير… تحضر السياسة وانعكاسها على النفس والجسد. يحضر السيِّدُ الموت. تقول الكاتبة: ‘كنتُ أعيش طفولتي في صورة من يموتون حولي’. ولقد عاشتها بالتحديد في الموت الذي اقترب منها. والاقتراب من الموت، لا سيّما في تلك السنّ المبكّرة، يضع المأساة واللعب في مركب واحد: ‘أتأرجح نحو موتي وأمدّ يدي خوفاً على فردة حذائي’. وإذا كانت الطفلة غفلت، لوهلة، عن حياتها وأرادت أن تُنقذ فردة حذائها، فإنّ رؤية الموت عن هذا القرب لا يعطّل الحلم بل يفتح العين على ‘الحقيقة الأساسيّة’!
في هذا الكتاب، ثمة انحياز دائم إلى الحياة ضدّ الموت. في هذا الاستقصاء الذاتيّ الداخليّ نشهد على الولادة الثانية، الولادة التي يصنعها الإنسان بنفسه ولا يرثها من أبويه. المرأة التي تبحث عن ذاتها تولد من جديد. تشير إلى ما يقف عائقاً دون التقدّم ولا يتّسع لها أفق.
صفحة بعد صفحة، يرافق القارئ هذا الشغفَ الكبير بتغيير المعطيات الثابتة والانطلاق نحو المدى الأرحب، ومن علاماته: التوق إلى الحرية، الخروج من المحيط الضيّق، التأمل في المجهول الذي يَبُثّ الرغبة في الحياة، استعادة الحقّ في الأنا وفي الجسد، وذاك المنام في الصفحة 143، والذي رأت فيه الكاتبة شاباً فرنسياً يَلُفّ ذراعه على خصرها ويراقصها. تقول: ‘وكأني وأنا أدور معه، أطير، ويطير ثوبي، ويعلو عن جسدي كما كان يعلو يوم كنّا أطفالاً نَركَب مرجوحة العيد’. ينتمي هذا الحلم إلى ‘الأحلام التي نتحرّر فيها من كوابتنا’، وقد جاء في سياق الحديث عن عَلاقة الحب والثقافة والهوية والانتماء، وفي سياق الرغبة في السفر إلى فرنسا لمتابعة التحصيل العلمي. العلم والسفر، هنا، مرادفان للجسد الحر، المتخلّص من أغلاله، القادر على الحب والعمل، على التوثب والانطلاق. ألا يقول بول كلوديل ‘إنّ الفراشة تحتاج إلى السماء بأكملها لكي يتحقّق خبط جناح واحد’.
الكتابة عند يمنى العيد هي المكان الذي تتبلور فيه الهوية الأكثر حميمية. وهي تعرف أنّ الانوجاد في العالم اليوم لا يستقيم خارج التفكير والمساءلة والنقد، وخارج المعرفة أساساً لبناء مجتمع جديد يقوم على القانون والعدل ويتسع لوجه المرأة دون حجاب: ‘نمتلك الدواخل ونَعرِض وجوهنا للنور’. كأنني أسمع تلك العبارة الآتية من ألوف السنين على لسان جلجامش: ‘دع عينيّ تعاينان الشمس / فأمتلئ بالنور / الظلمة تنقشع حين يكفي النور…’.
ما جاء في الفصل المخصص لتجربتها في ثانوية صيدا الرسمية للبنات يؤكّد على هذا التوجّه. كانت مديرة الثانوية الشابة تراهن على العلم بصفته قضية مركزية في الثقافة، منطلقاً للمساواة وللحدّ من الهوة بين المرأة والرجل، ومدخلاً للخروج من الأنساق القديمة القائمة على الانتماء الطائفي والعصبيات المريضة.
وكانت تنطلق من رؤية لا تحصُر المرأة في وظيفتها البيولوجية وفي الجنس فحسب، فضلاً عن أنها كانت تعي أهمية التعليم، وتعليم المرأة بالأخصّ، في التغيير الاجتماعي. فالتعليم يعطي المرأة ثقة بنفسها فتزهو، وينمّي طاقاتها، وله انعكاسات عميقة على المجتمع، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. إنه عامل أساسي من عوامل النموّ والتقدّم.
التعليم يزيل الحجُب.
ما طالبت به يمنى العيد لنفسها يوم كانت لا تزال طالبة، نراها تسعى إلى تحقيقه عندما أصبحت في موقع المسؤولية، فكانت تنظر إلى الطالبات كما لو انها تنظر إلى نفسها في مرآة. تريد أن توفّر لهنّ ما لم يتوفّر لها. بفرح كانت تفتح النوافذ على الفكر والشعر والفنون التشكيلية والموسيقى كأنها ترسم لهن خريطة المستقبل وتدعوهنّ إلى العَبِّ من سحر الهواء والبحر. كان التحدّي الذي فرضته على نفسها في مهمتها تلك، شكلاً من أشكال النضال، لكنه النضال الذي لا يعوّل على الإيديولوجيا بقدر تعويله على الإبداع في علاقته بالإنسان الفرد وتوسيع إمكاناته وآفاقه. وهذا ما يحصّن الديموقراطية طالما أنّ الديموقراطية ترتبط بالمعارف والممارسة العلمية ومجالات الإبداع ولا يمكن أن تستمرّ بدونها. ألا تقول هانّا أرنت: ‘في فراغ الفكر، تستوطنُ الويلات’؟
هذا الوعي لدور التربية والتعليم عند يمنى العيد لا ينفصل عن تصوّرها للفعل النقدي، وعن إيمان بقوّة العقل وضرورة الخروج من الفكر التقليديّ الغيبيّ إلى الفكر المتحرّك الحيّ الذي ينتصر لثقافة السؤال ضدّ الإجابات الجاهزة. هكذا يصبح العلم والمعرفة شيئاً عضوياً في تفاعله مع البيئة وإلا أصبحت الثقافة مشروعاً معزولاً والحداثة حديث إلهاء وتسلية.
ما أقدمت عليه يمنى العيد في تجربتها التربوية يكشف عن رؤية ثقافية لا تنحصر في الثانوية فقط، وقد جاءت في الحقبة الذهبية التي عرفها لبنان منذ الستينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين يوم كانت بيروت مكاناً للتفاعل بين التيارات المختلفة في الفكر والأدب والسياسة.
في تلك المرحلة، كان ثمة من يحلُم بلبنان آخر معاكس للمؤسسات الرسمية التي كانت تنغلق على الثقافة وعلى الفكر النقدي. وكانت تلك الحقبة، في الوقت نفسه، عتَبَة الحرب.
في الأسطر الأخيرة من كتابها ‘أرق الروح’ وهو كتاب آخر لمواجهة الرّكام – تعود الكاتبة إلى المكان الأول، المكان الشاهد. تلجُ عتَمَة الذكريات، وحدها، مع عود ثِقاب. تستقبلها رائحة البحر التي تخترق النوافذ المغلقة. تعود مثلما عاد هيراقليطس إلى منزله بعد غياب طويل وطلب الاختلاء بنفسه.
هنا ينتهي الماضي، وتبدأ الكتابة. الكتابة الأدبية التي ستُلقي على مشروعها النقدي أضواء جديدة، تلمّعه وتكشِف عن أبعاده ومراميه. ومثلما أفادت التجربة النقدية من معرفتها الأدبية، فكشفت عن حسّ قادر على استقراء الخصائص والفروقات، نرى، في المقابل، أنّ الكتابة الأدبية، كما تبدّت في ‘أرق الروح’، تستند إلى ذاك الوعي النقدي وإلى معرفتها العميقة باللغة وثقافتها وأساليب صوغها في الماضي والحاضر، داخل بيئتها، وكذلك في مرآة ثقافة الآخر.
في هذا التكامل، تطالعنا تجربة يمنى العيد اليوم، أي في الموقع الذي يجعل الكتابة علامةَ وجود، وعداً بالمستقبل وبارقةَ أملٍ متجدّد.
القدس الغربي-May 29, 2013