.......
فدخلتُ،
و لَمْ أَجِدْ أحَداً...
و دَخَلتُ ووجَدْتُ صَبِياً يَلْهُو..
و لَمَّا رَأَيْتُنِي هُناك
كُنتُ أنا و هو في الصُّورة، و لا أَحَدَ آخَر،
لا أَحَدَ
إلى درجَة أنَّ غيابَكَ كان لَهُ صَوْتٌ،
فَصِرْنا ننامُ و نَتَعَانق
[1]
لا أَطْمَئِنُّ، كما أُؤَكِّدُ دائماً، إلى تصنيف الشُّعراء ، بالنَّثر، أو بالوزن. هذا في ظَنِّي، من التَّصْنيفَات التي لم تَعُد اليوم تَصْمُدُ أمام القراءة و التَّحليل. ما كُنَّا نكتفي به من دَوَالّ في تعريف الشِّعر، لم يعد هو نفسُه ما يَتَسَمَّى به الشِّعر اليوم. ليس المجرى هو نفسه، و النَّهر لا يَفْتَأُ يُغَيِّر مَجْرَاهُ.
بهذا المعنى أرى أنَّ الشِّعر هو مَفْهُومٌ أوسع مِمَّا حَصَرْناه فـي " القصيدة "، و ما حَصَرْناهُ في لغةٍ لـ " النثر "، و أخرى لـ " الشِّعر ".
" قصيدة النَّثر "، بهذا المفهوم، لا تستطيع، اليومَ، أن تَتَمَثَّلَ الأُفُقَ الأوْسَع لِما آلتْ إليه النصوص الشِّعرية، عند مَنْ نَذْهَب إلـى النَّظَر إليهم بهذه الصِّفَةِ، أو نُسَمِّي بها، جِزَافاً، ما يكتُبُونَه.
[2]
نوري الجَرَّاح هو أحد الشُّعراء الذين عادةً ما نَضَعُهُم فـي مُرَبَّع النَّثر! أعني " قصيدة النَّثر "، إلى جانب شُعَراء آخرين، مثل، محمد بنطلحة، أمجد ناصر، حلمي سالم، عبد الله زريقة .. و غيرهم مِمَّن لا نقرأ كتاباتِهم إلاَّ وفق هذه التَّسْمِيَة.
لعلَّ في هذا ما يُعيق المعرفةَ بتجارب هؤلاء الشُّعراء، و بما تفتحه كتاباتهم من إمكاناتٍ، ليس في النَّظَر إلى الإيقاع وحده، باعتباره أحَد دوالّ التَّسْمِيَة، بل بما تُتِيحُهُ من علائق جديدة بين الشيء، و ما يَدُلُّ عليه. أي بما يجعل من اللغةِ أرْضَ مَجَازاتٍ، لا يَطَالُها مَعْنًى، بالمعنى الذي يجعل اللُّغَةَ أداة للتعبير فقط.
اللغة، في تجربة هؤلاء، و تعنيني هنا بشكل خاصٍّ، تجربة نوري الجَرَّاح، هي احْتِمالٌ و اخْتِبارٌ دائمٌ لِقُدْرَةِ الكلام على تَمَثُّلِ ما يجري في نفس الشَّاعر من آلامٍ، و ما طَالَها من جِراحٍ.
أليس الوُجُودُ جُرْحاً ؟
في الشِّعر ثمَّةَ، دائماً، ما يُشيرُ إلى هذا الجُرْح، لكن، حين يكون الشَّاعرُ على قَدْرٍ من الرَّهافَةِ، و يكون لسانُهُ قابلاً للصَّيْرُورَةِ، الُّلغَةُ، آنذاك، تصيرُ مَجَازاً لهذا الجٌرْح، أو يصير الجُرْحُ هو المِرْآةُ التـي فيها ترى اللغة نفسها عاريةً، لا معنى و لا طريق، بل طُرُقٌ، بعضُها يُفْضِي إلى بعض. ليس الوُصول هو الهدف، بل خَـوْضُ الطُّـرُقِ بِكُـلِّ اشْتِبَاكَاتِـها، و بما تَحْتَمِلُـه من صُدَفٍ و مُفارقاتٍ.
[3]
وفق هذه الرؤية يكتُبُ نوري الجراح، و وفقَها يسعى لاقتراح طريقةٍ في الكتابة، لا تَعْنِيها الفواصل، أو الحُدود، بين ما قد يكون نثراً، و ما قد يكون شعراً، بمعنى الوزن، أو النَّظْم، كما تذهبُ إلى ذلك الشِّعريةُ التقليدية، في النظر إلى الشِّعر.
ما يعنيه، بالدَّرَجَة الأولى، هو أن يكتب بطريقة تجعل الكلامَ يفيض عن المعنى، أي أنَّ نوري، لا يَمْتَثِلُ لِأَعْرَافِ اللُّغَةِ، و لعاداتِها في قول الأشياء. فهو في مُوَاجَهَةٍ دائِمَةٍ مع اللغة، مع ماضيها الذي لا يفتأ يُسْفِرُ عن حُضُوره، أو يسعى للحضور من خلال كثير من الصِّيَغِ و التَّعبيرات.
و لعلَّ في أعمال نوري، الشِّعرية، بجُزْأَيْها، ما يكشف عن هذه المُوَاجَهَة، أي مواجهة هذا الحضور تحديداً. ما يذهبُ إليه النص عند نوري أَوْسَع مِمَّا تَحْتَمِلُهُ عِبَارَةُ الماضي، أو هذه الذاكرة اللُّغَوِيَة المُشْتَرَكَة. و هذا ما يجعل من العودة إلى " الطفولة "، إلى السيرة الشَّخْصِيَة، و إلى " الموت " تحديداً، في هذه التجربة، أحد منافذ اسْتِبَاحَةِ ماضي اللغة، و كتابة هذا الماضي بطريقة حديثة، أو بطريقة شخصية، بالأحرى.
مَنْ يقرأ أعمال نوري، و مختاراته الشِّعرية " رسائل أوديسيوس "، سَيَضَع يَدَهُ على هذا التَّوْقِيع الشِّخْصَيِّ، هذه اللغة التي تَفْتَحُ سَوَاقِي مَجازاتِها على جراحاتِ الماضي، على ما تَحْفَلُ به الذَّاكرة مِنْ صُوَرٍ و خيـالاتٍ؛ الأمْكِنَة و الأشْخَاص، و هو ما يُعيدُ نوري تَمَثُّلَهُ من خلال أقْنِعَتِه الكثيرة. الأسطورةُ، هي إحدى هذه الأقنعة أو اللُّبُوسات التي اختار نوري العودة إليها، ربما، لأنَّها ذات صِلَة بهذه " الطفولة "، التي ما يزال يَسْتَعِيدُها باستمرار، و في أكثر من وَضْعٍ، بما فيها صورة " الابن " التي هي صورة الشَّاعر ذاته، أعنـي الشَّاعر في مَضَاعِفَاتِه، و في مختلف التَّمَظْهُرَات التي ما فتيء نوري يَسْتَعِيدُ من خلالها التفاصيلَ الصغيرةَ، البعيدة، التي يبدو أنَّها شَرَعَت فـي الانْفِرَاطِ، و النَّأْيِ بِحُكْم الاغتراب الذي أصبح واقعاً، فَرَضَ على الشَّاعر أن يُعيدَ ترتيب انْتِسَاباته، أو تَشْعِيبِها في أكثر من مكان.
هذا الواقع الذي صار مَحْضَ أشياء بعيدة، أو بقايا أشياء، هو ما تعمل مجازات نوري على استعادته بطريقة تجعل الكلامَ يَفِي بشرط الاستعادة، في معناها الشِّعريِّ.
فالمجازات هي مُعَادِلٌ شِعريٌّ للواقع، و هي مُعادل لا يخضع لمنطق الواقع، كمـا لا يخضع لمنطق اللغـة ذاتـها، فهـي تَخْضَعُ لمنطـق الاستعـادة، و لِمَآلاتِ " الحكاية "، أي الصيغة التي بها يَتِمُّ سَرْدُ ما جرى، و وفق الزمن الذي يَخْتَلِقُه " الراوي " أو " السَّارد ". الزمن هنا ارْتِدَادِيٌّ، و ليس خَطِّياً مُتَوَاصِلاً، تَحْكُمُه طبيعة الأشياء التي يُعيد الراوي تأليفَها، أو كتابتها.
[4]
التَّوْقِيع الشَّخْصِيُّ، بهذا المعنى، هو توقيع مُضَاعَفٌ:
ـ الواقع باعتباره حكايةً، أي لُغَةً تُعيد صياغة و قائعها.
ـ و اللغـة باعتبارها واقعـاً، تُعيـدُ سَـرْدَ حكايته وفق منظور السارد، و أقنعته المختلفة، و المتنوعة.
هذا ما يجعل من اللغة تَنْأَى بنفسها عند نوري عن ماضي التَّعبيرات اللغوية القديمة، التي لا تصلح، في تصوُّرِي، لهذا النوع من الاختيار الشِّعري. كما يجعل من الواقع، يَنْأَى هو الآخر، بنفسه عن الاستعادةِ الحَـرفية لما جرى، أو حَدَثَ.
فالواقعُ هنا، يصير افتراضياً، رغم أنَّ ما يجري في النص، أو في " الحكاية " بالأحرى، يَشِي بحقيقة ما جرى.
إنَّ في مفهوم الوجود الذي أشرتُ إليه، ما يُشير إلى هذا الوجود الشَّخصي، الذي مهما كانت صلته بالواقع، يبقى توقيع الشَّاعر دون غيـره، و هو نفسُه وُجُود اللغة، إذا كانت لُغَة مجازات و استعارات بعيدة، و ليست لغة مُقارَبَة، أو وِشَايَة بما حَدَثَ.
مَنْ يقرأ لُغَةَ نوري، سيقع في شَرَك حكايته، كما سيجد نفسه أمام طريقة في التعبير، الأشياءُ و الأصواتُ، فيها تَتَصَادَى، و تَنُوبُ عن بعضها في فَضْح الجُرْحِ الذي يَسْتَحِثُّ الذَّاتَ، و يقذفُ بها في مجاهل وُجُودٍ، ما يزالُ السَّارد نفسه، لو يَبْرَحْ رَمادَهُ.
[5]
الشِّعرُ كَذِبٌ. هذا هو المعنى القديم للخيال، كما ذهب إليه الشَّاعِرِيُّونَ العرب. في تجربة نوري الجراح، الكذب هو أحد شُروط الكتابة، و هو أيضاً، أحد شروط الواقع. هل ما يجـري من أمـورٍ، فـي ما نُسَمِّيه واقعاً، هي حقائق و أشياء حادثة بالفعل، أم هي مجـرد استهامات، نحـن مَنْ نَسْتَحْضِـرُها، أو نَفْتَرض وُجُودَها ؟
تُجيبُ تجربة نوري عن هذا، بتأكيد هذا الافتراض. ليس الواقع هو ما نحياه و نراه، الواقـع هو ما نتصوَّرُهُ، و نعمل على إيقاظه فـي نُفُوسِنا، و هو هذا " الرماد " الذي نَسْتَحِثُّ جِمارَهُ. فالنصُّ الشِّعريُّ حين يلجأ إلى المجاز، فهو يسعى للقبض على انْسِرابات الواقع، و على إعادة كتابة ما يجري، من منظور إبداعي، لا تبقـى فيه الأشياء هـي نفسها، بل تصير حياةً، و واقعاً لا يقبل الحياةَ إلاَّ في واقع النص، و في نَصِّيَتِهِ.
[6]
لُجُوء الشُّعراء إلى هذه الالتباسات في استحضار الأشياء، هو من قبيل رفض ما جرى، و إعادة تصوير " الحقائق "، بطريقةٍ، هي ما كان الشَّاعر يرغب فـي وُجُوده. لا علاقةَ لهذا بالرغبة المثالية فـي تَصَوُّر الوقائع و الأحداث، أو تَمَثُّلِها بطريقة ٍطوبائية. الأمر أكبر من هذا بكثير، فاللغة التي نَكْتُبُ بها تجاربَنا هي من تعمل على خلق هذه الالتباسات، و على إعادة كتابة الواقع وفق منظورٍ مُغَايِرٍ لـ " حكاية " الواقع كما جرتْ في الواقع نفسه.
أليست الأسطورة، كما يستعيدها، مثلاً، نوري الجَرَّاح، في تجربته، بما فيها العودة إلـى قِنـاع " هاملت " هـي نـوع من مُضَاعَفَـة التباسات الواقع، و الاعتراف الضمني بصعوبة تفسير ما جرى، لمجرَّد واقعيته، أو حدوثه الزمني فقط ؟
أين يمكن مَوْضَعَةُ الذات، في علاقتها بما جرى، و دورها في إعادة نَسْجِ خيوط " الحكاية "، و صيغ سردها لِما ترويه، أو تُعيد قوله ؟
[7]
ثمَّة إشكالات كثيرة تطرحُها كتابة الشِّعر اليوم، و ثمَّة رٌؤَى لم يعد يكفي في قراءتها، أن نكتفي ببعض ما تُزَوِّدُنا به مجريات الأحداث، فَلِلُّغَةِ أيضاً مُجْرَيَاتُها التي هي المُعادِل الشِّعريُّ للواقع، أي الحكاية، كما يرويها الشاعر، لا كما كانت تجري و تحدث في الواقع.
في مثل وضع نوري الجَرَّاح، هذا المُتَرَحِّلُ باستمرار، تبقى اللغة هي المسكن الذي يأوي إليه، أو هي السَّكَن الذي فيه يُزَاوِلُ استقراره، رغم أنَّ معنى الاستقرار هنا، لا يعني الإقامةَ الجبريةَ في نَسَقٍ لُغَويِّ ثابت وقارٍّ، أو في شكلٍ مُغْلَقٍ للكتابة، فهو حتى داخل هذا المسكن ذاته، يسعى لوضع اللغة في مَهَبِّ انْشِرِاحِها، أي في أفق ديناميتها، و انفتاحها الشِّعْرِيَيْن.
اللغة في هذه التجربة الشعرية هي مَسْكَنٌ رمزي، و هي اختبارٌ دائم لقدرة الشاعر على تَشْقِيقِ استعاراته، و على توليد ما يكفي من المجازات لمُوَاجَهَةِ وُجُودٍ لا يفتأ يُضَاعِفُ جراحاته، و يرفع من وتيرة آلامها.
[8]
نوري الجراح، كما أعرفه، لا يحتمل كُلَّ هذا الألم، أو هذه الجراح، لكنه يُصِرُّ على مواجهة الوجود، لأنَّ في شَفَافَة نوري ما يكفي لجعل الوجود يتنازلُ على بعض كبريائـه، فـي مقابل مَوْجُـودٍ عَرَفَ كيف يُعيـد سرد " الحكاية "، أو عَرَفَ كيف يضع الوجود في مواجهةِ ذاتِه، لكن وفق منظور، ليس هو ما يأتـي من جهة الوجـود ذاتِهِ، إذا حاولنا تبسيطَ الأمور أكثـر، و سَمَّيْنا الوجودَ واقعاً، بالمعنى الذي أشرتُ إليه سابقاً.