التَّوَتُّرات التي كانت قائمةً، دائماً، بين المثقف والسياسي، كانت تعبيراً عن تَناحُر الطَّرَفَيْن حول الدَّلالات والرموز، أو حول ما يمكن أن يضع كُل واحد منهما في مقدمة الآخر. فبقدر ما كان السياسيّ يسعى لفرض هيمنته على المثقف، باستعماله لصالحه ووضعه فِي جَيْبِه، وأن يَسْتَمِدَّ منه تصوُّرَه للأشياء، وما يمكن أن يُنْتِجَه من أفكار، يَسْتَعْمِلُها السياسي لصالِحِه، بقدر ما أصبح المثقف أكثر رَغْبَةً في التَّحرُّر من هيمنة السياسي، والنَّأْيِ بنفسه عنه، لأنَّه لم يكن في مستوى ما كان يطمح المثقف إليه، أو في مستوى وعي المثقف بالشروط الموضوعية التي، في سياقها كان المثقف يعمل ويُشتغل.
فإذا كان السياسيّ، يُراهِن على المسافات القصيرة، ويحرص على استخلاص المكاسب بأقل ما يمكن من وقت وجُهْدٍ، فالمثقف كان له نَفَس طويل، وكان لا يشرط فكره، وما يصدر عنه من تصوُّرات وأفكار، بما هو راهن وآنِيُّ وعابر، أي بقِصَر النظر، بقدر ما كان يذهبُ لِما هو أبْعَد، في استراتيجياته الفكرية والنظرية، وكان يعرف أنَّ البِناء الصَّلْب، يحتاج لِتَمْتِين الأساساتِ، وتقويتها، حتى لا ينهار البناء بمجرد ريحٍ عابرةٍ، تأتي على كل شيء.
استقلال المثقف، بفكره وبرأيه، وخروجه من سلطة وجُبَّة السياسي، هو تعبير عن الحاجة اليوم إلى المثقف، باعتباره، قوةً اقتراحيةً، وباعتباره مُنْتِجَ فكرو ومُنْتِج رموز ودلالاتٍ، وصاحبَ رأي ونظر، وطرفاً أساسياً في المعادلة السياسية نفسها، وليس مجرد رقم زائد لا قيمة له.
إذا كان السياسي، في ممارسته السياسية، يقبل بِلَعِبِ كل الأوراق، وهو على استعداد دائم، للتحالُف مع جميع الأطراف، دون اعتبارٍ لِما يفصله من مسافة عن هذا الطرف أو ذاك، فكرياً وعقائدياً، فالمثقف ليس رجل تحالُفاتٍ، ولا يملك هذه القدرة على التَّلَوُّن بحسب المصلحة أو الضرورة، ليس لأنَّ المثقف رجلاً صالحاً، بل لكون طبيعة عمل المثقف تفرض عليه أن يحتكم لِما بين يديه من نصوص، ووقائع، ومعطيات، وما يمكن أن يصل إليه من نتائج، أو ما يمكن أن يضع عليه يَدَه من حقائق، لا يجوز أن تكون مُنافِيَةً لطبيعة الروية والمنهج اللذين بنى عليهما قراءته. وهذا الفرق بالذَّات، هو ما جعل حَنَّا آرنت، في نظرها للسياسة، تُمَيِّز بين السياسة La politique والسياسي Le politique، مُعتَبِرَةً أنَّ السياسةَ مليئة بالكذب والمُراوَغات والأوهام، بما يعني أنَّها في جوهرها تقوم على التضليل والتعويم، أما جوهر السياسي، فهو الحياة النشطة الإنسانية، المليئة بالحيوية والفعل، والتي تتجاوز «صورة العائلة» التي بَقِيَ السياسيّ، أي رجل السياسة، غارقاً فيها، وخاضعاً لها، في تفضيله «الولاء والمصلحة والقرب، على الجدارة والكفاءة» والاستحقاق.
هذا هو الفرق نفسُه الذي كان هنري ميشونيك تَبَنَّاه، في سياق الشعرية المعاصرة، وهو بين الفُروق المهمة التي تخرج بالمثقف من مأزق السياسيّ، وتفرض عليه أن يكون ناطقاً بلسانه هو، وبصوته، وليس بما يُمْليه عليه السياسي، الذي كان يستعمل المثقف لخدمة فكره هو، ولبلوغ مصالحه، دون الإنصات للمثقف أو استشارته حتَّى.
اليوم، يفرض الواقع الجديد، الذي انهارتْ معه السياسة، وأصبح معه الخطاب السياسي مُفْعَماً بأعطابه الكثيرة، وبهشاشة قراءاته وتحليلاته التي لم تخرج من فكر الماضي، ولم تُفَكِّرِ التحوُّلات الجارية في الواقع، وعلى الأرض، أن يكون المثقف ناطقاً باسمه، ويدخل السياسة، ليس من منظور السياسي، بل من منظور المثقف، الذي هو صانع أفكارٍ، وهو من يملك بُعْد النظر، بالمعنى السقراطي، في تعريفه لمعنى القيادة. وهذا، ربما، ما دفع أفلاطون لوضع الفيلسوف على رأس «المدينة الفاضلة»، رغم أنَّ قَدَمَه زَلَّتْ، وتعثَّر في حصافَتِه، حين أقصى الشُّعراء، واعتبرَهُم خارجين عن النظام «الأخلاقي» في تربية النَّشْء، وفي ضبط سياسة «المدينة».
القدس العربي- July 9, 2014