عزيزي إبراهيم.
في ساعة متأخرة من ليلة أمس، أنهيت الصّفحة الأخيرة من ملحمتك الروائيّة المبهرة "قناديل ملك الجليل"، التي أرعبني حجمها في البداية عندما قدّمتها لي، وكنت أحسب أنني تجاوزت العُمر الذي أعكف فيه على قراءة رواية تفوق الخمسمئة صفحة. خاصّة وأنني كنت عائداً من مراجعة طبيب العيون، حاملاً بعض وصاياه الصّارمة، التي ساعدتني روايتك على أن أطيح بها دون أسف.
الأيام التي قضيتها في قراءة الرواية، مختلساً بضع ساعات من الليل، عكفت فيها على القراءة لاهثاً وبمتعة فائقة، خلقت لديّ طقساً ليلياً تضيؤه "القناديل"، لا أدري أيّ ملل سيصيب عتمتي بعد انتهائه. لقد عيّشتني قناديلك معها عشرة أيام، لكنها ستكون واحدة من الأعمال التي ستسكنني وتعيش معي في ما تبقّى لي من حياة. ولن أكون مجاملاً عندما أضع هذه الملحمة السّرديّة في مكانٍ أثير على رفّ الروايات الكبرى التي حفرت عميقاً في وعيي ووجداني منذ أن أن وقعت مبكراً في فتنة السّرد متلقياً، وحتى اللحظة.
ربما تذكر أنني أشرت في مقدِّمة كتابي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينيّة"، إلى نقطة مفصليّة في تاريخ تلك الرواية تمثّلت بصدور "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، التي شكّلت تحولاً مهماً في مسار السّرد الروائي الفلسطيني، إذ نقلته "من الخطابة إلى الكتابة". وقد راهنت في مقدِّمة الكتاب على أن الزمن ما زال مفتوحاً لظهور علامات آخرى تضاف إلى أولئك الثلاثة الذين قرأتهم. وربما أكون قد لمحت أشجاراً تتحرّك في الزمن، لعلّ ظلال ابراهيم نصر الله كانت منها.. وإن لم تكن قد أصدرتَ بعد روايتك الأولى!
عندما علمت منك قبل شهور أن روايتك التقطت، أخيراً، شخصيّة ظاهر العُمر الزيداني، تلك الشّخصيّة القياديّة التاريخيّة اللافتة (وربما الإشكاليّة) التي عرفتها أرض فلسطين على امتداد الأرباع الثلاثة الأولى للقرن الثامن عشر، تنفّست الصُّعداء، وتمنيت أن يأتي العمل في حجم أهميّة الموضوع، وقد كان.
وكنتُ، وللأمانة، قد سمعت باسم ظاهر العُمر الزيداني، أواخر ثمانينيات القرن الماضي، من الصديق الراحل عبد الله الحوراني، الذي طالما حلم وعمل على أن تتولى دائرة الثقافة في منظمة التحرير إنتاج مسلسل تلفزيوني يدور حول ذلك القائد التاريخيّ الجدير بالاهتمام، والذي كان من المحزن حقاً أن يظلّ – كما جاء في مقدمتك للرواية – مجهولاً لدى قطاع كبير من الفلسطينيين. وقد جرى الاتفاق وتوقيع العقد مع كاتب سيناريو متميِّز للشروع في الكتابة، إلاّ أن ظروفاً كثيرة تحالفت، ومنها حرب الخليج 1991، فتعثّر المشروع. وقد أغبطني وأحزنني، أن يتصادف صدور روايتك مع الذكرى الأولى لرحيل عبد الله الحوراني، الذي أوقن بأنه لو عاش وقرأ عملك هذا فسوف يكون من أكثر المحتفين به. ولعلّها مناسبة الآن لحضّ المؤسسة الفلسطينيّة (الثقافيّة والسياسيّة معاً) لأن تأخذ المبادرة لإعادة إحياء هذا المشروع الوطني الضّخم، بعد أن وفّرت لها "القناديل" أسساً فنيّة دراميّة قويّة للشروع في الأمر، فوراً، بجديّة ودون تلكؤ. فالذين يتبنون مشروعاً فلسطينياً استقلالياً، عليهم أن يلتفتوا إلى جذور مثل هذا المشروع في التاريخ، والعمل على إحيائه!
وأعود للرواية/ الملحمة، فأقول إن التقاط شخصيّة بهذا الحجم التاريخي والتأثير وطموح التحرر والدولة المستقلّة المبكِّر على أرض فلسطين، لم يكن ليصنع شيئاً دون عمل الفنان. وها أنا أستعيد مجدداً أبيات مايكل أنجلو بالغة العُمق: "لا تخطر فكرة للفنان مهما كانت عظمته/ وليس لها وجود في قشرة الصّخر/ فكل ما تستطيعه اليد التي تخدم العقل/ هو أن تفكّ سحر الرخام".
أنت فككت سحر الرخام. عملت بذهن باحث ودأب حلاّج وقلب فنان، فأعدت إحياء التاريخ بأدوات الفنّ، ورمّمت بخيالك الخصب ما قصّر عنه التدوين، على قلّته، فنهض عالمك بالتحام الحقيقة مع التخييل. وأعدك بأنني سأحاول (أقول سأحاول رغم إلحاح الباحث عن الحقيقة الذي في داخلي) أن لا أطرح عليك الأسئلة حول إذا ما كان الحادث قد حدث أم أنه لم يكن إلاّ من نسج خيالك. فالحادث حدث بالفعل طالما أنك دوّنته بهذا الشكل المدهش. ويكفي أنني أعلم (وأرجو أن لا أكون قد بُحت بأحد أسرارك في كتابة الرواية) إن إحدى شخصياتك المؤثرة في العمل، وأقصد "نجمة"، نهضت بكلّ هذا الحضور الآسر من جملة واحدة، عابرة، جاءت في أحد المراجع التي اتكأ عليها خيالك.
عندما أقول روايتك، فإنني أعنى ملحمتك. ففي الرواية نفس ملحميّ واضح. ربما تكون شخصيّة ظاهر العُمر الزيداني قد قدّمت لك جانباً منه. لكن المعمار الفني الذي بنيته كان بفضلك أنت، بأدواتك أنت، ولغتك أنت. ولم يكن ليتحقق دون دأبك وموهبتك التي تطوّرت منذ "زمن الخيول" وحتى زمن ظاهر العُمر. وقد بتّ أشعر أن الرواية السابقة كانت تدريباً ملحمياً وجد تحقيقه الأمثل في "القناديل". كما أن كتابتك للحلقات التلفزيونيّة لزمن الخيول، التي لم يقض لها أن تتحقق على الشّاشة بعد، لم تذهب هدراً، فقد رأينا أفضل استثمار لها هنا، في التقطيع المونتاجي المتقن الذي يجعل عملاً درامياً مرئياً عن حياة ظاهر العُمر، بات الآن شبه جاهز على الورق!
لا شكّ في أنك تُدرك، بأنني لا أتحدّث عن روايتك بهذه الروح المُحتفية، لأنك صديق، فأنت أعلم كم كان رأيي جافاً، بل وقاسياً، في أعمال أخرى، بعضها يقع ضمن مشروع الملهاة الفلسطينيّة الذي عكفت عليه بدأب بلغ قمته في "القناديل". رغم إنني قد أختلف معك في نسبة هذا العمل التراجيدي، تحديداً، إلى "الملهاة". ولكن هذا حديث آخر. مثلما أن كتابة عن "القناديل"، أكثر غوصاً في النّص وتأملاً في الشخصيّة والمبنى، هي عمل آخر يتعدى هذه المشاعر المُحتفية المتدفِّقة، التي ألحّت عليّ فور انتهائي من قراءة العمل، وتأبّت على التأجيل.
مهما يكن فإنني لن أقول إن الرواية الفلسطينيّة قد كُتبت أخيراً، لأن ذلك يعني أن نحكم على الزمن بالتوقف عند "القناديل"، وأن نبني جداراً أمام محاولات وتحوُّلات أخرى في المستقبل يكتبها جيل آخر قادم لا محالة. لكنني أستطيع القول، بثقة، إن هذا العمل سيشكِّل نقطة مفصليّة أخرى، تحوليّة، في تاريخ الرواية الفلسطينيّة، وربما في تاريخ البحث العلمي التاريخي عن ظاهر العُمر نفسه.
في السطور الأخيرة لهذه الملحمة.. في اللحظة التي شخب فيها الدم من جسد ظاهر وسقط على الأرض. كانت كتابتك قد أسهمت في إنهاضه وانتشاله من كبوة النسيان، إذ أوقدتَ قنديلاً هائلاً أضاء تلك الشخصيّة التاريخيّة الفذّة. وعندما لفظ ظاهر العًمر أنفاسه الأخيرة، كنتَ قد منحته، بتدوينك الإبداعي عنه، حياة أزليّة تنبض بالتفاصيل، والمشاعر، وأنفاس التاريخ.. والبشر.
19/12/2011
إقرأأيضا:-