لم ترتفع عنا اللعنة رغم أننا اشتريناها بكثير من الدم. عواقب مصر وتونس لن تكون بسهولة انتفاضتيهما. انتفاضة ليبيا تراوح وفي كل مرة يزداد الاستحقاق الدموي. ثورة اليمن تشتري الوقت بمزيد من الضحايا، اما سوريا فإن المحراث الدموي يغوص فيها مراراً وتكراراً. سوريا مفتاح المنطقة وبوابتها. سوريا الثورات الاستقلالية، سوريا الوحدة التي عاشت عمر الحلم. سوريا بدوي الجبل ونديم محمد ونزار قباني وأدونيس ومحمد الماغوط وفاتح المدرس وأنطون المقدسي وياسين الحافظ والياس مرقص. يتكلمون عن لبنان وسوريا كشعبين في بلد واحد أو بلدين لشعب واحد. يتكلمون عن الخاصرة اللبنانية. لن نذهب بعيداً في البلاغة مثلهم. لكننا نعرف أن الأرض تقول لنا واللغة والماء والطعام والشباب أن امتدادنا في سوريا وأن ما بيننا واسرار تعرفها أجساد التوائم وجلودهم أكثر مما تعرفها مداركهم وعقولهم. لأن ما بيننا أكثر من اللغة والأرض والأفق، أسرار نعرفها في قراراتنا ونفوسنا وجلودنا أكثر مما نعقلها أو تعيها مداركنا.
قلوبنا تعرف وأجسادنا تعرف قبل عقولنا بأننا تشاطرنا مع سوريا الساحل والجبل والنهر، أن بيننا بضعة آلاف سنة من التاريخ وبضع عشرات سنة من الحاضر. من يعرفون ذلك يعرفون أن التواصل معها ملازم لوجودنا وأنه في الماء والهواء ولا يحتاج إلى وصاية ليغدو حقيقة ولا إلى كفالة الأخ الصغير للكبير ولا رجوع الأقل أصالة إلى الأكثر أصالة، فهذه في الغالب لا تصنع علاقات بقدر ما نتآكل العلاقة الحقيقية، ولا تنشئ صلة بقدر ما تبدد صلات. هذه في الغالب تحصر السماء في فنجان، وتبادل وشائج عرضها السماوات والأرض بعهد موقوت، وتغلب على الوجوه المنة لعلاقاتنا وجها وحيداً ليس أثمنها ولا أنضرها، هذه نظرة ضيقة إلى فضاء واسع، وأتبّاع في علاقة مداها الحرية وحري بها أن تنمو وتنشأ من تلقائها وأن تنمو وتنشأ على الحب والصداقة لا أن تترك في مهب ضغائن ومنافسات وغلبة واثره ولا ان ترتهن بشروط متزمتة متغيرة او تنقاد لقطب واحد. انها علاقة عمرها قرون فلا يجوز أن نقفها على عقود، علاقة صنعتها الأرض وصنعتها السماء فلا يجوز رهنها لأشخاص أو مواقع أو مناصب. إن لها بدون شك وجها سياسياً لكنها السياسة التي تذهب في العمق ولا تحدّ بموقف أو حادث. المصلحة تجعل من البلدين حلفا استراتيجيا لا يتوقف على شخص او موقع او منصب، ثم ان السياسة ليست كل العلاقة فهناك الثقافة وهنك المعاش وكل هذه مجالات قد تفوق السياسة وقد تتخطاها. انها العلامة على أن العلاقة ضاربة في التاريخ وانها تقريباً بعمر وجودنا. وانها غير موقوفة على عهد أو نظام. انها سوريا الأرض والتاريخ وهي في خاصرتنا أياً كان العهد وكانت الأنظمة.
كان حظنا في الغالب قليلاً مع الأنظمة والعهود. إن هنا وهناك. عزاؤنا وحده اننا هنا او هناك، أخُذنا بالسياسة نفسها. ذات الأحابيل وذات العسف وذات الفردانية وذات الفرض. لم تكن لشعب يد على شعب آخر، ولم تكن هذه ولاية شعب على شعب. ولا سياسة شعب حيال شعب. لم تكن غلبة شعب على آخر ليحق لأحدهما ان يشعر بالضيم تجاه جاره ولكي يضطغن عليه فقد سيس الشعبان بالأسلوب نفسه، فلم يكن لأيهما فضل على الآخر ولم يكن لأيهما دين على الآخر، كانت هناك الأرض والشعب. وحدهما باقيان أبديان وكلاهما جار وكلاهما شاخص للآخر ماثل له، الأرض والشعب، هنا أم هناك، معاً متصلين ومعاً حاضرين ومعاً مستمرين في الزمن والحضور.
سوريا التي لنا وإياها ذات اللهجة وذات المائدة وذات الفولكلور وذات الأدب وذات الزجل وذات الأذواق والمشارب. سوريا هنانو وسلطان الأطرش. سوريا فيروز والرحابنة كما هي سوريا نزار قباني وأدونيس والماغوط. سوريا المثقفين الذين ذاقوا السجون الطويلة لأكثر من عقد وخرجوا بالقلب ذاته، مصرين ثابتين، وهم بذلك، دون شك، شرف ثقافتنا وكنزها، ومهما كان رأيهم ورأينا فيهم فإن نزاهتهم وإصرارهم هما بالتأكيد ذخيرتنا للمستقبل.
اغتيل سمير قصير وهو يجادل حانقاً شباناً أداروا غضبهم إلى سوريا ككل وهتفوا ضدها شعباً وأرضاً. لاحظ سمير كم ان العنصرية سهلة. كم هي قريبة المتناول عند أي تذمر، كم تسرع «الوطنيات» في العادة إلى هذا المنقلب، وكم هي قابلة للغرق فيه. ما يجري في سوريا اليوم كاف ليحررنا من هذه النعرة. كاف ليتحول احتجاج سمير قصير إلى تقليد ثقافي وسياسي. اختفى آنذاك عدد من العمال السوريين وكم كان هذا مدعاة خجل حقيقي لنا. لقد حملوا وزر غيرهم وحملوا بالدرجة الأولى أوزارنا نحن. ما يجري في سوريا اليوم كاف لرفع هذا الخجل عنا. ان الدم الذي يراق يراق عن الجميع وبالتأكيد فإنه يطهرنا كلنا. انه الألم الذي لا يغرق في البلادة اليومية وضعف الذاكرة المقيم والتسليم واللامبالاة، الألم الذي يتقاسمه الجميع ويتحول إلى خبز مقسوم على الكل.
لا يمكننا، لأي سبب كان، أن لا نصغي في الألفية الثالثة، وبعد أن انهار المعسكر الاشتراكي إلى الأصوات التي تتنادى إلى التخلي عن موضوعة الحزب القائد، بصرف النظر عما تخفيه هذه الموضوعة وعمن يقف، في الحقيقة خلفها. يصعب علينا أن لا نسلم في هذا الوقت بأن الحزب القائد مثله مثل الرئيس القائد بدعة لم تعد تناسب العصر، اننا مع بدعة كهذه لم ندخل بعد إلى الألفية الثالثة وان نظاماً هذه قاعدته يفوته ان يفهم لغة الناس وأن يخاطبهم بلغتهم.
لا يمكننا لأي سبب كان الا ان نشهد لشجاعة هؤلاء الذين ينزلون إلى الشارع ليواجهوا الموت بصدور عارية، لقد هللنا لشجاعة هؤلاء في مصر وتونس وهللنا لها بعد ذلك في ليبيا واليمن والبحرين فكيف يفوتنا أن نشهد لها في سوريا. وكيف يفوتنا أن نفهم ان هذا الدم يراق عنا أيضا وأننا بفضله ندخل ولو متأخرين إلى عصر الحريات والعالم اليوم. جاءنا من تونس البعيد قبس أضاءنا ومن مصر شهاب نور عندنا ولم نخطئ حين فهمنا ان ما يجري هنا وهناك يجري عن الجميع ويفيض على الجميع. ان الحرية التي حجبها عنا طويلاً المثال العسكري والوطنية البيسماركية، ان الحرية التي طالما قدمنا عليها مثال القوة الذي موّه حياتنا وجعل من الاستبداد مثالا ملازماً للقوة وملازماً للحرب الموعودة. حرب الاسترداد والدولة الواحدة. بدت الحرية لوقت طويل مثالاً مشبوها وبدا المطالبون بها لا مبالين بالوحدة القومية واسترداد الوطن السليب. وجد من يقول: لهم ديموقراطيتهم (أي الغربيون) ولنا ديموقراطيتنا وكأن الحرية وافد غربي لا يلائمنا فنحن طبعنا على الاستبداد وفطرنا، استبداد لم يرد وطناً ولا شيد دولة ولا حقق وحدة ولم يكن في حقيقة الأمر، سوى أثر قروسطي، ان نحن زعمنا انه من أصالاتنا فليس ذلك سوى استهانة بأنفسنا. نعم ان الدم في الشوارع كما كان يقول نيرودا. الدم في الشوارع ولا يمكن لأي مثقف ان يشيح عنه. مهما يكن من أمر ومهما اختلفنا في الرأي فإن هذا الدم أريق أولا وأخيراً عنا جميعاً، وأريق أولا وأخيراً في سبيل حريتنا. انه، مهما كان الأمر، فدية باهظة عمّا يمارسه معظم الناس كحق طبيعي، ويحصلون عليه بمجرد ولادتهم. وينالونه كحق ملازم لوجودهم وكجزء من اقامتهم في هذا العالم وكواجب لا تمنحه السلطات فحسب ولكنها تلزمهم به وتجد أن انتزاعه منهم يقوض شرعيتها ويزيل سبب وجودها. الحرية، نعم هي الحرية كقيمة مطلقة، كقيمة لا بد منها لتحقق الأفراد وخروجهم من ربقة النظام البطريركي الذي يقيم الدولة والحزب مقام المعلم والأب الراعي، ويجعل منهما عقيدة لا يمسها سوى الكفار، الدم في الشوارع ولا يمكننا أن لا نراه ومن لا يريدون رؤيته، من يرون قبله تحفظاتهم، ومن يعترضون قليلاً أو كثيراً عليه، فهم لم يصلهم بعد نداء العصر ولا يبدو أنهم يستحقونه.
السفير
3 يونيو 2011