يصح أن نقول في أدونيس إنه شاغل الناس، فالرجل منذ انخرط في الأدب والثقافة، وهو يخرج من معركة إلى معركة ومن خصومة إلى خصومة مع أوساط وتيارات ومدارس فكرية وأدبية، وحتى مع حكومات، رغم أن الرجل قلما يناوئ سلطة سياسية بعينها إلا أن ضلعاً سياسياً في كل خصومة تنشأ ضده. أدونيس ليس شاعراً مؤثراً وذائعاً فحسب، إنه إلى الشاعر يجمع تنظير الشعر، كما يجمع المفكّر وصاحب المواقف، وهذه جميعها لا تنجو من السياسة. أدونيس الشاعر والمفكّر والمنظّر، هو كل ذلك مجتمعاً في واحد. ذلك يمنحه حضوراً لافتاً بل أدونيس هو هذا الحضور المتعدّد المصادر والآفاق. في هذا الحضور الذي طغى على الثقافة العربية في بعض حقبها، كان سجال أدونيس حول التراث العربي والحداثة الشعرية والدين والثقافة العربية الراهنة، وهو سجال هجومي وإشكالي في آن معاً، يشكل عناوين بارزة في السجال العام، سرعان ما كانت تستفز العصبية القومية والدينية والتراثية فيتهم أدونيس بالشعوبية ومعاداة العرب والإسلام وتخريب الشعر العربي. هذه تهم قوامها سياسي رغم أنها بالدرجة نفسها ثقافية، إلا أن الركيزة الايديولوجية للخطاب القومي ـ الديني، طالما اصطدمت بأطروحات أدونيس التي لم يكن مقلاً في طرحها واستدراج الخصومات عليها. وإذا شئنا أن نلخّص قلنا إن السجال مع أدونيس لم يكن سجالاً مع شاعر فحسب، إذ لا يحتمل الشعر وحده هذا السجال بقدر ما هو سجال مع مفكّر حقبة من الثقافة الراهنة، لذا كان هذا السجال من وجوه الجدل الثقافي العربي، ومن أكثر وجوهه تواتراً وصخباً.
الشعوبي، عدو العرب والإسلام، وبسبب ذلك عمد إلى تخريب الشعر وهو درة الأدب العربي وحامل الروح العربية وحافظها. هذا الخطاب الذي يختلط فيه الشعبوي بالايديولوجي بالدعوي والديماغوجي، يمكننا القول إنه الايديولوجيا السائدة التي تكرس أصناماً لفظية ونعرات شبه غريزية، لم يتجاهله أدونيس ولم يتعالَ عليه، بل عمد إلى مواجهته مباشرة واستفزازه مراراً، فكان بذلك مناضلاً. يختار ساحته وخصمه ولغته الهجومية والاستعدائية فيجرّ هكذا الخصم إلى موقعة عامرة عارمة، ويواجهه بلغة قطعية حاسمة، إن لم نقل استفزازية. لنقل إننا هكذا أمام خطاب شعبوي يحاصره الآخر في شعبويته ولا يمانع في أن يقلب عليه منطقه، ويصيبه من داخله. أدونيس المناضل لا ينفك يثير معارك حول الموضوعات نفسها، معاركه متوقعة الصدى والردود بل والهبوب، ينتقل بها أدونيس من مكان إلى آخر، أمكنة حساسة وغير حساسة، معبّأة وغير معبّأة. كأنه بذلك يذيع أفكاره ويثبتها ويغرسها غرساً ويقرّبها من المتناول.
لنعفّ عن هذا النقاش فهو ليس موجهاً إلينا. الخطاب الشعبوي الغريزي هو خطاب النعرة البعثية والأصوليات الدينية التي حاسبت أدونيس سياسياً، فحرم من دخول العراق والسعودية، وطرد من اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، لكن تحت هذا النقاش نقاشاً آخر لا يثير معارك ولا يمر في معارك، إنه هامش نقاش أقلوي مشاركوه أفراد وأفراد فحسب.
«الثابت والمتحوّل» بأجزائه الثلاثة قد يكون رائداً في بابه. إنه من أمهات الكتب التي تتناول الثقافة العربية ككل، وتنسقها في مندرجات نظرية وفي سيستام يجتمع فيه الأدب إلى الدين إلى علم الكلام إلى الفلسفة إلى التصوّف. أضاء «الثابت والمتحول» على جوانب كانت مغمورة من التراث كبعض التجارب الصوفية، «النفري» على سبيل المثال، وعرض التراث لنقاش جديد واستخرج منه وعليه أسئلة مبتكرة. كان على هذا النحو يساهم في إحياء التراث وقراءته قراءة معاصرة، لا بد أن هذا وحده رد على التهم الشعبوية الموجّهة لأدونيس «الشعوبية بوجه خاص» إذ أن الذين وجهوا هذه التهم لم يخدموا التراث العربي بمقدار ما خدمه أدونيس، ولم يكن له علم بالتراث كالعلم الذي له، إلا أن نقاشاً آخر ومن وجهة أخرى، يأخذ على «الثابت والمتحول» منهجه. فهو في إدراج للثقافة العربية في خطين متضادين «ثابت ومتحول» كان، يدخل في مأزق منهجي هو ثنائية أطلق عليها البعض «مانوية» أي مقابلة بين متضادين. الثابت والمتحول ليسا أقنومين صافيين، في الثابت نقع على عنصر متحول أو عناصر متحولة أو في المتحول نقع على عنصر أو عناصر ثابتة، ثم إن بين الثابت والمتحول درجات من التراسل والتفاعل والتبادل. فالمتحول في تحولاته يغدو ثابتاً والثابت متحولاً، فليس الثبات والتحول أقنومين جوهرانيين. ليس لهما بهذا المعنى جوهر دائم، إنهما عرضان متحولان هما أيضاً. كان هذا نقداً للرؤية الأدونيسية يتهمها بالجوهرانية والثنائية، ويرى أنها من هذه الناحية تقع في ما تنتقده فهي إذ تصم الثقافة العربية بالثبات والصنمية تجعل من التحول والتغيير جوهراً وأقنوماً ثابتين.
لا يخفي أدونيس في نقده للثقافة العربية الراهنة اعتبارها متخلفة بل وشبه غائبة وغير موجودة، هذا رأي يصح ولا يصحّ، لكن ما يؤخذ على أدونيس انه لا يعرض لدوره في هذه الثقافة التي كان من أوائل روادها ومؤسسيها. لا يبدو اعتراض أدونيس على الثقافة العربية الراهنة نقداً ذاتياً بأي حال. إذ لا شك في أن أدونيس يكاد يخرج نفسه من الثقافة التي كان أحد بناتها الأساسيين. إنه يتبرأ منها ولا يعترف، على الأقل، بمسؤوليته فيها.
شيء آخر، كان أدونيس من أول دعاة الحداثة، حداثة الأدب وحداثة الفكر وكان له إسهامه البارز في المجالين، غير أن داعية الحداثة في الشعر ما لبث أن وجد أن الثقافة العربية والشعر العربي لم يفهما الحداثة، وكل ما فعلاه هو أنهما انتكسا إلى تقليدية، لا تقلّل منها الأشكال التي يتخذها الشعر (قصيدة النثر على سبيل المثال)، لا يقول لنا أدونيس إلا أن رؤيا وفلسفة هذه القصيدة تقليديتان، لا يهم هنا الشكل. لا يقول لنا أدونيس أي رؤيا وأي فكر تضطلع بهما الحداثة، وبالطبع يخرج نفسه من الانتكاس إلى التقليد. هنا نجد أنفسنا أمام حداثة جوهرانية أيضاً، حداثة مثالية لا يمكن بلوغها. وقد يكون الأثر الأدونيسي، في هذا السياق، مثالها العربي الوحيد. هكذا تغدو الحداثة طلسماً لا يفك سحره ولا يفتي فيه سوى أدونيس، كما يغدو سرها عنده، إنه المؤسس وله بهذه الصفة الحق في أن يتحقق من الحداثة، كما أن له ملء الحق في أن ينعاها، إذا لم يؤد الأبناء والأحفاد الرسالة كما وعاها هو ورسمها، أو ضلوا وانحرفوا واختلفوا عن نموذجها الأدونيسي.
حتى أكتب عن أدونيس أحتاج أن أعود إلى الوراء ربع قرن من السنوات، لا أعود فقط بالذاكرة، بل أذهب بكامل مشاعري، بوعي هذا العمر إلى طالب في الجامعة ينفق الليل والنهار في قراءة الثابت المتحول، ويسافر معه عبر الزمن ويتجول في التراث العربي قديمه وحديثه، كان أدونيس بالنسبة لي في تلك الأيام درعاً واقياً أرتديه للدفاع عن الخيال والتمرد ضد الرجعية والتقليد، ضد النمطية في الشعر، هذا أدونيس بالنسبة لي حين قرأته لأول مرة في نهاية الثمانينيات، تخيلته يقود جيشاً جراراً من الكلمات يهدم بها قلاعاً وحصوناً ويقيم أخرى، قلاع الشعر وحصون النثر عبر العصور، اختار أن يسلك طريقاً لم يسلكه أحد من قبل في الشعر، طريق الأسئلة، ولا يقود هذا الجيش من الكلمات والأفكار ليهاجم أو يعتدي، بل لكي يناقش ويسأل، وغالباً ما كان يعود بمجموعة من رفاق الماضي البعيد، لم يكن كما ظن البعض يهدم التراث العربي، بل كان يبحث عن أسلافه العظماء ويحاورهم ويهتدي بهم ويبعثهم من خلال كلماتهم المستنيرة وأفكارهم الحديثة، يرفض الأفكار البالية، ويرى أن لهاجس الحداثة جذوراً في نتاج ابي نواس وابي تمام، وعند ابن الرازي وابن الراوندي وابن رشد وغيرهم، وكنت أتخيله في تلك الفترة واحداً من هؤلاء يعيش معهم ويعيشون معه، وكنت آراه يحمل مصباحاً ويتجول في الماضي يضيء ظلماته ويبعثه من جديد متسلحاً بأفكاره المستنيرة والثائرة، فالتراث كما يراه هو "ما يولد بين شفتيك، ويتحرك بين يديك، التراث لا ينقل بل يخلق، وليس الماضي كل ما مضى، الماضي نقطة مضيئة في مساحة معتمة شاسعة، فإن ترتبط كمبدع بالماضي هو أن تبحث عن هذه النقطة المضيئة" ولا أفهم كيف يتهمه البعض بالشعوبية وأنه ضد التراث العربي!
وبالتوازي كنت أقرأ شعر أدونيس وأجدني أحفظ بعضه وما زال في ذاكرتي حتى الآن، ولم يختلف الأمر كثيراً فكانت شخصيات التراث العربي أبطال شعره "مهيار، علي، الحسين، عمر بن الخطاب، أبو تمام، ابو نواس، ملوك الطوائف، أبو ذر، الحلاج، النفّري" والقائمة طويلة لا تنتهي، فهو في حالة حوار دائم وسيرورة لا تنتهي مع هذا التاريخ في الشعر والنقد والنثر، وفي نهاية صدمة الحداثة يستعين بعبد القاهر الجرجاني حول رأيه في الشعر.
حين كنت أجد هذا الزحام من الأسماء والأحداث والأفكار كنت أسأل نفسي ماذا يريد من هذا الصراع العنيف مع الماضي، وبعد سنوات كنت أطرح السؤال بصيغة أخرى، ماذا لو لم يعلن أدونيس هذه الحرب ويخوض مغامرة لم يسبقه إليها أحد، ماذا لو اكتفى بكتابة الشعر، ولم يكتب هذه الكتب النظرية حول الشعر، ماذا لو لم يضع إطاراً نظريا للشعر أو للشعر عامة، هل كان يمكن أن يكتب الشعر فقط؟ والإجابة "لا" كبيرة جداً فهو لا يعرف الشعر إلا بهذا الشكل "الشعر ليس قريحة وحسب، إنما هو فن كيف يعبّر الشاعر، فالطبع وحده غير كافٍ". حتى الألم والعذاب ومشاعر الفرح والحزن والحنين لا تكفي، فلكي تكتب يخبرك أدونيس "يجب أن تعلم كل شيء، تحس به وتدركه وتحيط به، وفي هذا يكمن جانب من جوانب المعنى الحديث للكتابة".
ففي شعره قيس يترصد ليلى، وليلى صور تتفتح في أشكال مخروطية، وابن عباد يشحذ السيف بين الرأس والرأس وابن جهور ميت، أحوال ثمود تتأسس في دكان، وبابل قفر مجرورات ومفاعيل، ومات الكوفيون ومات البصريون وفي أنفسهم شيء من حتى، والتاريخ امرأة صلعاء بعين واحدة وبرأس مفتوق"، فأين يذهب أدونيس من كل هذا الإرث؟ أكتب هذه الكلمات من الذاكرة فما زلت أحتفظ بها منذ سنوات طويلة، كنت أحفظ قصائد أدونيس الموزونة وأكتب قصيدة النثر. كنت أحب قصيدة البهلول، وأهمس بملوك الطوائف التى سمعتها منه في معرض الكتاب في القاهرة، وما زلت أذكر تلك الأمسية حين وقف يؤدي ملوك الطوائف وكأنه يقف على مسرح التاريخ وهو يهمس بصوت جهوري حزين: وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو /هل تدخل الأرض في صورة عذراء، ثم يتساءل كممثلٍ حائر وحزين: من هناك يرج الشرق، يومها شاهدت الأندلس تسقط بين كلماته ونحن نصفق.
لم يكتب أدونيس الرواية أو المسرح، لم يكتب سوى الشعر وعن الشعر وحول الشعر وترجمة الشعر، ومقالاته في الصحف "مدارات" نثر بلغة الشعر، حتى المسرح الذي ترجمه يحتفي بالشعر "جورج شحادة وراسين" وحين كتب ديوانه المسرح والمرايا وهو حواريات تستعير الشكل المسرحي بين عدد من الشخصيات، لا تجد صراعاً درامياً أو أحداثاً يمكن أن تتبعها، فقط هناك جدل عنيف بين الكلمات، وكان قد بدأ هذه الحواريات في ديوان "أوراق في الريح" حيث كتب "مجنون بين الموتى، مأساة في أربعة مشاهد" ثم السديم وهي مأساة في ثلاثة أدوار كما يسميها ويهديها إلى مجانين العالم، وتناثر هذا الشكل المسرحي في بعض الدواوين، وفيها جميعاً الصراع لغوي من الدرجة الأولى، والكلمات تحاور الكلمات، فهو يحتفل باللغة حين يكتب ويمنحها أبعاداً مجازية وتصويرية غير مألوفة سواء في الشعر أو النثر، وهي مشاهد غير قابلة للتحقق أي تجسيدها على خشبة المسرح، فقد كتبها من أجل الجدل! كما فعل نجيب محفوظ في نصوصه الدرامية التى كتبها في ستينيات القرن الماضي، من خلال منهج جدلي لا يخلو من فلسفة عميقة تعكس حالة فقدان اليقين.
قراءة أدونيس
اختار أدونيس أن يترجم "فيدر" لراسين بمقدمة رولان بارت التي يحتفي فيها باللغة أيضاً، حيث يصفها بارت "أعمق تراجيديات راسين وأكثرها شكلية، ذلك أن المجازفة التراجيدية هنا في تجلي الكلام أكثر مما هي في معناه وفي اعتراف فيدر أكثر مما في حبها، فيدر على جميع الأصعدة تراجيديا الكلام السجين، والحياة المحجوزة، ذلك أن الكلام بديل من الحياة: فإن نتكلم هو أن نفقد الحياة.. ما الذي يجعل الكلام رهيباً إلى هذا الحد؟ يعود السبب إلى أن الكلام فعل. "وظني أن أدونيس ترجم هذا النص لاحتفائه باللغة، أما جورج شحادة فقد اختار أدونيس مسرحاً شعرياً، أو قل اختار الشاعر جورج شحادة.
ما زلت أعتبر نفسي محظوظاً لأنني قرأت أدونيس في سن مبكرة، وأذكر اليوم الذي حملت فيه الأعمال الشعرية الكاملة ومعها الثابت والمتحول من دار العودة، وعدت كمن حصل على كنز تمناه كثيراً، وجدت فيها ما يدهشني في تلك الفترة، وجدته يكتب ما أحب أن أقرأ، وتعرفت من خلال مصادره في الثابت والمتحول على عشرات الكتب التى سعيت للحصول عليها في ما بعد ومعظمها من التراث العربي، مثل تاريخ الطبري، والشعر والشعراء وكتاب المعارف لابن قتيبة وغيرها العشرات من كتب التراث العربي والأهم هو كيف أقيم معها حواراً، وكنت قبل أدونيس قرأت طه حسين الذي تعلمت منه كيف أقرأ الأدب العربي، وظل عندي سؤال يؤرقني حتى الآن، لماذا لم يذكر أدونيس طه حسين في الثابت والمتحول، وكلاهما يسير في الاتجاه نفسه، وكنت أسأل نفسي: أليس كتاب الشعر الجاهلي وقراءة طه حسين للأدب العربي في أعماله الأخرى تسلك الطريق نفسه؟ وخاصة أنني عرفت أن أدونيس التقى طه حسين في القاهرة عام 1966 وأجرى معه حواراً نشره في كتاب النظام والكلام تحت عنوان "تمثال يوناني في منمنمة عربية" وسؤال آخر حول أحمد شوقي الذي لم يرد ذكره في "صدمة الحداثة" واكتفى أدونيس بتناول محمود سامي البارودي نموذجاً لشعر النهضة تحت عنوان "البارودي أو النهضة / الحداثة" ثم تناول الآخرين في مصر والعالم العربي وورد ذكر شوقي فقط في سطر واحد في نهاية الكتاب، حيث يصف شعر أحمد شوقي وما سمي بشعر النهضة بأنه يدخل في باب المعاني العقلية كما حددها الجرجاني! وذلك على الرغم من أنه في ما بعد خصص له فصلاً عنوانه "شعرية الكلام القديم" في كتابه سياسة الشعر، طرحت هذين السؤالين حول طه حسين وشوقي وأنا أحتفي بأدونيس وأتذكر أياماً كان لها التأثير العميق في حياتي الشعرية حين قرأت أعماله في سن مبكرة، كمن يعاتب عزيزاً ولا يرغب أن يكون في نفسه شيء من ناحيته.
في ديسمبر العام 1961 كتب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقالاً في مجلة الكاتب المصرية مقالاً تحت عنوان "أزماتنا من الشعور بالانتماء، وكانت المجلة لها توجه قومي عروبي حادّ، وهاجم حجازي الشاعر علي أحمد سعيد الشهير بأدونيس، وكان له ميول قومية عروبية بعثية في تلك المرحلة، وأثار حجازي في مقاله ارتباط الشعر بالعصر والتراث، وشنّ هجوماً ضارياً على مجلة "شعر" التي أسسّها أدونيس مع زميله ورفيقه يوسف الخال، ورغم أن أحمد حجازي أثنى على المجلة من حيث انتظامها وقدرتها على شق طريق متميّز في الحركة الشعرية العربية، وأن تقود هذه الحركة إلى انتصارات واضحة وكبيرة، وتثير أسئلة مهمة وفاعلة في الحياة الفنية والثقافية في الوطن العربي، إلا أنه راح يكيل للمجلة وللقائمين عليها سلسلة اتهامات جسيمة، إذ أنها "اتخذت طريقاً شعوبياً يسخّر الشعر والفكر لمهاجمة العروبة، ويفتعل للشعراء والمفكرين العرب أزمات روحية، ليست هي الأزمات الروحية التي نعانيها في هذا العصر المثقل بالنهضة إلى درجة النشوة، المشدود إلى الانحطاط لدرجة اليأس، إن مجلة "شعر" تشجّع الشعراء مثلاً على أن يتمثلوا الازمات المترتبة على شعور اللاانتماء، هذا الشعور الذي يمارسه الشاعر والمفكر المعاصران في أوروبا، بينما أزماتنا نحن مترتبة على الشعور الحاّد بالانتماء. إننا ننتمي إلى وطن غير موجود في الواقع، وإن كان موجوداً في الحقيقة"، ويستطرد حجازي في تعضيد هذا النشيد القومي العروبي الذي كان يعمل بقوة آنذاك، ثم يخرج عن هذا السياق النظري والتعميمي ويخصّ أدونيس بتطبيقات نقدية وفكرية ويقتبس فقرات من قصيدته التي يبدأها بـ: "مهيار وجه خانه عاشقوه، مهيار أجراس بلا رنين، مهيار مكتوب على الوجوه، أغنية تزورنا خلسة، في طرق بيضاء منفيّة، مهيار ناقوس في التائهين، في هذه الأرض الجليلة"، وهنا يتوقف حجازي عند استدعاء أدونيس لمهيار الدمشقي، واضعاً بعض علامات الاستفهام حول هذا الاستدعاء غير المبرر فكرياً ونقدياً وشعرياً وعروبياً ومرحلياً، مما دفع أدونيس لإرسال رد إلى المجلة تحت عنوان "الثقافة العربية وآراء حرّة"، نشرته المجلة في عدد فبراير، وأعيد نشره مرة أخرى في صحيفة النهار اللبنانية في 21 فبراير 1962، ويفنّد دونيس في هدوء مقولات واتهامات حجازي واحدة واحدة، ويردّ عليها، بل يسخر منها سخرية مقنّعة وينتهي إلى قوله: "ليست الثقافة العربية خيطاً وحيد اللون، ليست باباً ترصده وتختص به فئة معينة من العرب، ليست موقفاً مذهبياً وحيداً، إن الثقافة العربية خيوط عديدة وأبواب لا حدّ لها، ومواقف حرّة منفتحة كثيرة كثرة الخلّاقين الأفذاذ".
"شعر" و"مواقف"
ولم تكن هذه التجريدة التي شنّها حجازي وحيدة وفريدة من نوعها، بل كتب الناقد المصري الشاب واللامع ـ آنذاك ـ رجاء النقاش، والذي يشارك حجازي بقوة في توجهاته الأيديولوجية، سلسلة مقالات عنيفة، ويعمل في هذه المقالات على تطوير أسلحة الاتهام، فيرفعها إلى درجة الخيانة العظمى للعروبة، وانتماء أدونيس القومي السوري، وتلمذته المعروفة للملهم أنطون سعاده، القائد والمفكر والزعيم، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وركّز النقاش على الأبعاد السياسية التي تحيط بأدونيس وأنطون سعاده، هذه الأبعاد التي لا تريد سوى هدم الوطن العربي والقومية العربية والفكرة العروبية من أساسها، ولم نعدم في مقالات النقّاش بعض التأويلات النقدية التي تجعل من الغموض في شعر أدونيس مجرد أداة لتمرير الأفكار الخبيثة التي تكمن خلف جدران الشعر اللغوية، وبالطبع راح العض يلوّحون آنذاك بأن هناك حملة شبه منظمة لاغتيال أدونيس مصرياً وعربياً، وأعتقد أن هذه الحملة حققت بعض غراضها مؤقتاً، وأزاحت أدونيس بشكل نسبي من الرواج في مصر، وهذا كان انتصاراً مؤقتاً للفكرة القومية العربية السائدة بالمفهوم الناصري فقط، واستبعاد المفاهيم الأخرى كافة لتلك القومية، وبالتالي فكان استبعاد أدونيس ورفاقه جديراً بالتأمل، لذلك لم يمنع هذا الاستبعاد التعسفي والسياسي والأيديولوجي لأدونيس وشعره واتجاهه الشعراء المصريين من النشر والتواصل مع مجلة "شعر"مثل محمد عفيفي مطر ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وابراهيم شكرالله وغالي شكري وغيرهم، بل إن المجلة نشرت في العدد 39 رواية "تلك الرائحة" المصادرة في القاهرة للكاتب صنع الله ابراهيم، وذلك في شتاء العام 1968، مما يعني أن المجلة لم تحبط ولم تيأس من التفاعل مع المثقفين والشعراء المصريين، وظلّت تتواصل مع الثقافة المصرية بشكل فاعل، رغم أن المجلة لم تكن مطروحة في مصر، ولكنها كانت تصل بطرق مختلفة، وقبل أن تتوقف مجلة شعر عن الصدور العام 1970، كان أدونيس قد غادرها لخلافات معروفة تاريخياً، ليصدر مجلة جديدة وهي مجلة "مواقف" في تشرين الأول العام 1968، وآثر أن تكون مقدمة العدد الأول بقلم مفكر مصري مرموق، وهو الدكتور زكي نجيب محمود، الذي جعل عنوان هذه المقدمة الطويلة "ميلاد جديد"، واعتبر أن بلادنا العربية في ذلك الوقت تفتقد إلى أدنى أنواع الحرية، وهو كلام جديد لزكي نجيب محمود، وهو الرجل والمفكر الذي كان يتعامل بحذر مع السياسة، ولكنه قد تخطى الحواجز في هذا المقال الذي جاء تصديراً للعدد الأول من مجلة مواقف، كذلك أجرى سمير الصائغ حواراً طويلاً وجذّاباً مع نجيب محفوظ، ولم ينس أدونيس أن يؤكد "عروبته" التي تختلف بالتأكيد مع عروبيات أخرى، واعتبر أن المجلة الجديدة "حقيقة ورمز، تفجّر جيل عربي، اختبر ما في الحياة العربية من تصدع وخلل، وقرر أن يبحث من جديد، وأن يكتشف ويبني من جديد"، واستمرت المجلة في التواصل مع الكتّاب والمثقفين المصريين، فنشرت نصوصاً ومقالات ليحيى الطاهر عبدالله وابراهيم أصلان وفرانسوا ياسيلي ومحمد مهران السيد ولطفي الخولي وفؤاد زكريا وغيرهم، وكذلك كانت المجلة تأتي إلى مصر بطرق مختلفة، وكانت أبرز هذه الطرائق، التسلل إلى المخزن الخلفي لمكتبة الحاج مدبولي، الذي كان يستورد المجلات والكتب الممنوعة من البلاد العربية كافة، وبخاصة الكتب التي تأتي من لبنان، وكان بين هذه الكتب والمجلات، مجلة "مواقف"، ودواوين أدونيس، وبرز في الساحة كتاب "زمن الشعر"، الذي افتتن به الشعراء الجدد، هؤلاء الشعراء الذين راحوا يطلقون على أنفسهم "شعراء السبعينيات"، وقرأ بعضهم شعر أدونيس بعناية فائقة، بل إن بعضهم تأثر به تأثراً بالغاً، لدرجة التماهي والنقل المشّوه لتجربته، ولكن كان كتاب "زمن الشعر" بمثابة البيان النقدي للحركة الشعرية المصرية في السبعينيات، وفي أواخر السبعينيات أجرى القاص والروائي الراحل يوسف أبو رية حواراً مع الشاعر أمل دنقل، ونشره في مجلة خاصة ومستقلة كان يصدرها رجل الأعمال "كامل الكفراوي"، هذه المجلة كان اسمها "الكراسة الثقافية"، وكان يشرف على إصدارها الشاعر أمجد ريان، وفي هذا الحوار فتح دنقل النار على الجيل الجديد، أو الشعراء الشباب، واتهمهم بأنهم يقلدون الشاعر أدونيس تقليداً أعمى، ورغم أنه يحترم تجربة أدونيس بشدة، إلا أنه لا يحترم هؤلاء الأدونيسيين الذين لا يحسن الواحد منهم كيف يقيم الشعر ولا القصيدة ولا الاستقلال، ونبّه أمل هؤلاء الشعراء الجدد بأن لا مانع لديه من التأثر بتجربة أدونيس، لكن حذار من التماهي معها، والانتحار تحت عجلاتها القوية، واعتبر أن الإغراء الأدونيسي لجذب هؤلاء الشعراء من الممكن أن يقضي عليهم إن لم ينتبهوا، ويتمحصوا التجربة الأدونيسية جيداً، لأنها تجربة أصيلة، وتقليدها صعب، وسيجعل من مقلّديها مسوخاً شوهاء لا تصلح للتقدير ولا للاحترام، وهذا الكلام لأمل دنقل جرّ ويلات عديدة عليه من الشعراء الجدد، فكتب الشاعر الراحل حلمي سالم ردّاً عنيفاً في العدد التالي من المجلة وكتب له عنواناً "أدونيسيون ودنقليون"، وشنّ على أمل دنقل هجوماً ضارياً من دون هوادة، وكذلك فعلت جماعة "أصوات" ونشرت ما يشبه البيان الذي يهاجم أمل دنقل، ويصفه بأنه شاعر رجعي، وكانت الواقعة المعلنة التي رصدها البيان هي قصيدة أمل في رثاء يوسف السباعي، ولكن كان المضمر هو هجوم أمل على الشعراء الشباب، وكل هذا يدلّ على تغلغل الروح والنظرية الأدونيسية نقدياً وفنياً لدى الشعراء المصريين، وهناك بعض الشعراء الذين هالهم هذا الحضور الأدونيسي الطاغي، فاجتنبوه، وهناك تصريح للشاعر حسن طلب يقول بأنه قرر عدم قراءة أدونيس في تلك الفترة لتجنب التأثر به تماماً، وكذلك كتب الشاعر رفعت سلام كتاباً عن التراث تناول في بعض أجزائه نقد أدونيس، بينما كتب الدكتور نصر حامد أبوزيد دراسة فاحصة وإيجابية عن قراءة أدونيس للتراث، ونشرها في أحد كتبه، وهذا الحراك الأدونيسي في القاهرة لم يكن دليلاً إلا على وجوده بقوة، بعد أن نعى الدكتور جابر عصفور الشعر المصري في مقال له بمجلة الكاتب العام 1975، وكان أدونيس محل جدل ونقاش، وكانت أفكاره مغرية جداً لاعتناق هؤلاء الشعراء الجدد، والحوار الثري الذي فجّرته كتابات هذا الشاعر، وسريان مقولاته في نقد هؤلاء الشعراء، وهناك دراسة لحلمي سالم نشرها في مجلة "إضاءة 77" في العدد الصادر في أغسطس العام 1978، تحت عنوان "نقد العقل الميكانيكي"، ورغم أن حلمي سالم أدرج بضعة كتب ارتكز عليها في هذه الدراسة، إلا أن تاثره البالغ بأفكار أدونيس ومقولاته وأطروحاته كانت واضحة تماماً، مما دفع الشاعر رفعت سلّام للرد عليه في العدد ذاته، وكان عنوان ردّه "نقد النقد الميكانيكي"، أي أن أدونيس لم يكن محل اتفاق عام، ولكنه كان محل جدل وحراك عنيف في الحياة الشعرية المصرية، ولكن كثيراً من الشعراء المنتمين إلى الماضي، كانوا ينظرون إلى الشعراء الجدد على اعتبار أنهم مسوخ أدونيسية عاطلة عن الموهبة والإبداع، وهذا ما قرره الشاعر والناقد الراحل الدكتور كمال نشأت، الذي أنشأ كتاباً كبيراً لرصد هذه الظاهرة، وتعقب قصائد الشعراء بطريقة بوليسية لإيضاح مناطق سرقة أدونيس بشكل سافر، وهو لا يرصد هذه السرقات، على حدّ زعمه، إلا لإثبات التبعية المقيتة للشعراء الجدد، وهناك ناقد آخر ينتمي للتيارات الإسلاموية المتطرفة اسمه حلمي القاعود، أنشأ كتاباً آخر ووصف هؤلاء الشعر "المتأدنسين" بالهاموش، وبالكفر، والدليل على كفرهم البيّن، اتبّاعهم لشيخهم السوري أدونيس، ولكن كل هذه الخزعبلات التي كانت تستخدم فزاعة الدين وفزاعة القومية العربية، وفزاعات أخرى كثيرة، لم تمنع شاعراً موهوباً مثل عبد المنعم رمضان أن يصف أدونيس براقص الباليه، ويكتب عنه مقالاً عاشقاً ومفتوناً به، وينشره في العدد اليتيم من مجلة "الكتابة السوداء"، الذي صدر في العام 1988.
شعر المقاومة
حالة الجدل هذه التي كانت قائمة منذ زمن بعيد في الحركة الثقافية والشعرية المصرية، لم تغفل موقف أدونيس السلبي في البدايات من شعر الأرض المحتلة، والطريقة التي رأى بها أدونيس هؤلاء الشعراء، واعتبرهم ظاهرة محض سياسية، وهذا اتضح في الحوار الذي أجراه الناقد محمد دكروب مع أدونيس في العام 1970، ونشر في مجلة "الآداب" اللبنانية، وأوضح أدونيس موقفه ونظرته من شعر وشعراء المقاومة، وهذا استدعى من محمود درويش كتابة مقال يردّ فيه على بعض الأفكار التي وردت في هذا الحوار، ولكن كان لم يذكر درويش ذلك صراحة، ولكنه ترك كل هذا لفطنة القارئ، هذه النظرات التي أوضحها أدونيس، كانت تثير حفيظة بعض دراويش الثورة الفلسطينية، ودراويش الثورة عموماً، ولكنهم كانوا يرددون بعض مقاطع شبه درويشية يتماهى فيها أدونيس مع الحالة الثورية الواضح إذ يقول:
(سمّني قيساً
وسمّ الأرض ليلى
باسم يافا
باسم شعب يرفع الشمس تحيّه
سمّني قنبلة أو بندقيه)
وكانت هذه القصيدة "هذا هو اسمي" العام 1971، بعد انفجار شعر المقاومة بطرق متعددة، وانحياز وتأثر قطاع كبير من الشعراء العرب بهذا الشعر، لكن يظل المعمل الأدونيسي ظاهرة حيّة وفاعلة وتاريخية، ومثيرة للجدل الذي يحتمل كل التوجهات التي تناصر والتي ترفض والتي تقف عن بعد، وهذا يضع كل أسئلة أدونيس الثقافية والفنية في مهب كل الرياح التي هبّت وتهبّ وستكون عاصفة في مسثقبل الثقافة العربية.
شعبان يوسف
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
أسئلة كثيرة يمكن استثارتها عند الحديث عن علاقة أدونيس بالأسطورة التي ميزت مساره الحيوي ومساره اللغوي في الشعر. ولعل أول شيء يلفتنا إلى هذه العلاقة، طبيعة اللقب الذي اختاره الشاعر ليطلقه على نفسه في بداية إقباله على نشر قصائده، أي لقب (أدونيس). وفي هذا السياق يقول: «كنت حين اتخذت هذا الاسم: أدونيس، أتابع دراستي الثانوية في اللاذقية. وكنت في حوالي السابعة عشرة من العمر. كنت أكتب نصوصا شعرية ونثرية أوقعها باسمي العادي: علي أحمد سعيد، وأرسلها إلى بعض الصحف والمجلات آنذاك للنشر. لكن أيا منها لم ينشر في أية صحيفة أو مجلة. ودام هذا الأمر فترة. فاستأت وغضبت. وفي لحظة من لحظات الاستياء والغضب، وقعت في يدي، مصادفة، مجلة أسبوعية لبنانية، على الأرجح، قرأت فيها مقالة عن أسطورة أدونيس: كيف كان جميلا وأحبته عشتار وكيف قتله الخنزير البري، وكيف كان يبعث كل سنة في الربيع... إلخ. فهزتني الأسطورة وفِكْرِتُها وقلت، فجأة، في ذات نفسي: سأستعير من الآن فصاعدا اسم أدونيس، وأوقع به، ولا شك أن هذه الصحف والمجلات التي لا تنشر لي، إنما هي بمثابة ذلك الخنزير البري الذي قتل أدونيس. وفعلا كتبت نصا شعريا وقعته باسم أدونيس وأرسلته إلى جريدة لم تكن تنشر لي، وكانت تصدر في اللاذقية. وفوجئت أنها نشرته، ثم أرسلت نصا ثانيا، فنشرته على الصفحة الأولى أرفقها المحرر بإشارة تقول: «المرجو من أدونيس أن يحضر إلى مكاتب الجريدة لأمر يهمه». (من حوار أجراه مع الشاعر كل من مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون ــ مجلة (عيون) فصلية ثقافية تصدر عن منشورات الجمل ــ ليون ــ ألمانيا ــ السنة الثالثة ــ عدد 6 ــ 1998.)
وأدونيس هو اسم إله الخلود والتجدد في الحضارات اليونانية والشرقية القديمة. فمنذ البداية يحاول الشاعر أن ينفلت من زمنيــة اسمه الحقيقــي المنــذورة للفناء، ويتعوذ بتميمة الاسم الأسطـوري المرهون للخـلود والتجـدد. وهو الذي قال في (أقاليم الليل والنهار):
يلزمني الخروج من أسمائي
أسمائي غرفة مغلقة
حب غائب
علي أسبر علي أحمد سعيد علي سعيد علي أحمد أسبر علي أحمد
سعيد أسبر
يصارع يتكسر كالبلور
وأدونيس يموت
والهواء شقائق وأعراس في جنازته
والفرق واضح بين الاسم الذي يتكسر كالبلور ولا يعود إلى الالتئام، وبـين الاسـم الذي يموت فينعـشه «هواء الشــقائق» وترافق الأعـراس جنازته.
لقد تفتح وعي أدونيس منذ الشباب على معين الأسطورة في أبعادها الإنسانية العامة وليس في مادتها الحقيقية المحكية بهذه اللغة أو تلك، بل بما تهبه للذات من حركية داخليــة تجعل الإنسان قادرا على الانفتاح والخلق. الانفتاح الذي يعطي لهوية الذات مفهوما متسعا يتجاوز نطاق القومية الضيق، بما ينحشر فيه من تراث محدود أو لغة لا ترسم سوى خُطى الماضي في نوع من التعبيرية المطابقة. وفي هذا الصدد يقول أدونيس في سيرته الشعرية الثقافية: «الهوية... ليست تماهيا مع جوهر اسمه الأمة أو الوطن، وليست تطابقا مع ماض ما ــ مع شخصية قومية ما، أو موروث ما. ليست مثالا نتطابق معه سلوكا وتفكيرا. ليست دائرة ندور فيها. ليست مطلقا نتوحد به وننصهر فيه. الهوية تفتُّح بلا نهاية. فأنت لست أنت، لمجرد أن لك اسما خاصا، ولغة مختلفة. أنت أنت لا بما كنت، بل بما تصير.. تكون الهوية صيرورة، أو لا تكون إلا سجنا. ومن هنا، فإن الاختلاف الذي يعطي الإنسان ماهيته هو في هذه الفسحة داخل الإنسان، حيث يتحرك دائما لكي يتخطى ما هو، ويغير ما هو ــ مغيرا العالم». (كتاب: ها أنت أيها الوقت ــ دار الآداب، بيروت 1993. ص20.)
ومن هذا الاستشهاد نستنتج أن انسلاخ أدونيس عن اسمه الحقيقي واتخاذ اسم أسطوري بديل، يندرج في هذا المفهوم الذي يعطيه للهوية، لا سيما أن الاسم البديل هو لإله يتجدد باستمرار من خلال لعبتَي الموت والانبعاث. ولم يكن ذلك إلا خطوة أولى مهَّد بها الشاعر لمشروعه الإبداعي الذي سيجتهد في أن يجعله مشروعا حداثيا مختلفا. هذا المشروع الذي لن يدخر جهدا في تجليته إبداعيا والدفاع عنه تنظيريا. ولذلك، فإن إقبال أدونيس على استلهام الأساطير في شعره لم تفرضه ضرورة فنية موقتة، أو رغبة في تجريب معطى جمالي جديد من أجل الخـروج من رتابة اللغة الشعرية النمطية. وإنما هو نوع من التوافق الكلي بين مفهوم الشعر لديه ككيان لغوي يتجاوز منطق التعبير عن المشاعر والفكر والعالم، وبين الأسطورة التي تتسع لاحتضان الرموز والإشارات الإيحائية المفتوحة على الزمن في صيرورته، وإن كانت في نسيجها اللغوي تتأسس على شخوص وأحداث، لما لها «من قيمة لا حد لها عند الشاعر، وذلك بما تهيئ من إطار للمرجعية الحميمية التي توجه وعي الشاعر ووعي قرائه معا، ومن ثم تُهيئ لهما سبيل التواصل بصورة أعمــق مــما يمكن أن يتم بأية طريقة أخرى..» على حد تعبــير فيليب ويلرايت (من مقال ترجمه حسن طلب ونشره في مجلة إبداع ـ العدد 10 ـ أكتوبر 1998).
الأسطورة
تحضر الأسطورة في شعر أدونيس باعتبارها عنصرا مؤازرا للغة الشعرية، أي بما هي استعارات قابلة لاحتضان الشحنات الدلالية الجديدة وبشكل يجعلها خاضعة لرؤية الشاعر وتابعة لأنساقه اللغوية، أو لنقل مع هنري ميشونـيك، وهو يتحدث عن أدونيس: «إنه يعيد من جهته ابتكار الأسطورة متبعا مسارا تخييليا. (مجلة فصول ـ المجلد 16 ـ خريف 1997). وربما كان في هذا الابتكار الجديد للأسطورة ظفراً باللغة التي طالما بشر بها أدونيس أو حلم بها. وهي لغة تعيده إلى نفسه وإلى الحياة، لغة لا يفهمها الموت، لا يفهمها على الأقل، بمثل السـرعة التي يفهـم بهـا لغة الكلام، كما يقول أدونيس نفسه في كتاب زمن الشعر.
واضح أن أدونيس يبحث عن لغة تستعصي على الموت، ولذلك فهو مطالب بأن يضمن لها عناصر الحياة الأبدية، ومن أجل ذلك، عليه أن يترك جانباً ترصيف أحداث الواقع في لغة شعرية جاهزة، ففي هذه الأحداث وفي تلك اللغة بذور موت تنمو وتعرش كلما استقام النموذج في شكله النهائي. وعليه في المقابل أن يدع التجربة وحدها تشكل لغتها المفتوحة على أفق يعج بالمتغيرات والاحتمالات، خصوصا وهو القائل: (هل تريد أن تكون شاعرا؟ إذًا، قلد بشكل شخصي جدا شعراء لم يولدوا بعد، وقد يولدون بعد أن تموت.)
(شاعر مغربي)
من وقت لآخر أعود لقراءة ديوان «أغاني مهيار الدمشقي» للشاعر أدونيس والقراءة إعادة نظر في ثلاثة: المقروء والزمن والقارئ. أختار هذا الديوان بالذات للشاعر، من دون سواه لأسباب أهمها أنه جاء بعد ديوانين أولين له هما: قصائد أولى (1947 1955) وأوراق في الريح ط1 (1958) ما كانا ليشكلا عتبة عالية في شعر الشاعر كما هي الحال في «أغاني مهيار الدمشقي» بل كان ثمّة مسحة من لغة سعيد عقل وأسلوبه في النحت اللغوي والقافية الصلبة وقد بدأت تتوارى بالتدريج من خلال التطور للأسلوب الحر والتدخل الأسطوري المكثف في شعره والتنويع الوزني والإيقاعي، فضلاً عن الرؤية الشعرية ما أوصله إلى «أغاني مهيار» سريعاً خلال مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات. فقد ظهرت الطبعة الأولى منه في العام 1961، وبعض قصائده مؤرخ في العام 1958 (قصيدة مرثية الأيام الحاضرة) وأنه شكل القمة المؤسسة لشعر الشاعر، لا بالنسبة لما سبق وحسب، بل نسبة لما لحق من دواوين من كتاب التحوّلات والهجرة.. إلى المسرح والمرايا، فـ«وقت بين الرماد والورد» فـ«الكتاب» بجزءيه.. فـ«تنبأ أيها الأعمى».... حتى آخر دواوينه.. ولعل ملامح من «أغاني مهيار..» مبثوثة في جميع ما لحق من قصائد الشاعر، من حيث هي جسد شعري واحد. او نسق أدونيسي أو طريقة شعرية. ولعله في قصيدة تالية على قصائد «أغاني مهيار..» في مجموعة «المسرح والمرايا 1968» أربع أغنيات لتيمور ومهيار «يرسخ ما يمكن أن نسمّيه العود الأبدي لمهيار من خلال قوله: «مهيار غنّى بكى برأ صلّى أدان
بارك وجه الجنون
ذوب في صوته جرح العصور
اشتهى سيلاً، وكالسيل كان»
الآثار الكاملة، دار العودة ط2_1971، المجلد الثاني ص 323)
الهاء والراء
مهيار اسم علم. ولعله أعجمي، إذ لأول وهلة، يأخذنا هذا الاسم في العنوان، إلى «مهيار الديلمي» وهو أبو الحسن مهيار بن مرزويه (متوفى 428 هـ 1037 م) كاتب وشاعر فارسي كان مجوسياً فأسلم على يد الشريف الرضي في بغداد وهو شيخه وعليه تخرّج في نظم الشعر وسُمّي بالديلمي نسبة للديلم (قرية على بحر قزوين) حيث ولد. استخدم في بغداد مترجماً عن الفارسية وتشيّع وغلا في تشيّعه حتى قال له ابن برهان: «يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية فيها». له ديوان كبير من الشعر في أربعة مجلدات ومن أشهر قصائده، بائيته التي يغنيها محمد عبد الوهاب والمعروفة بـ«أعجبت بي» وفيها يفتخر بنسبه الفارسي ودينه العربي (تسعة أبيات على «الرمل») مطلعها: «أعجبت بي بين نادي قومها أم سعد فمضت تسأل بي» ومنها:
«وأبي كسرى على إيوانه / أين في الناس أب مثل أبي
قد قبست المجد عن خير أب / وقبست الدين عن خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه/ سؤدد الفرس ودين العرب»
لا يُخفى الشبه في التسمية، بين مهيار الديلمي ومهيار الدمشقي. ولعلنا لو أخذنا اسم «مهيار» على محمل الصوت، لرأينا أن مهيار في العربية، صيغة مبالغة على وزن «مفعال». ولعلّ في ضم الهاء للراء في جذر (ه ا ر) ما يجمع بين ما هو ليّن وهشّ (حرف الهاء) وإكثار الكلام من دون إصابة المعنى، بحسب ابن منظور. فإن أدونيس، في استعماله لمهيار كصوت وقناع، شبيه باستعماله للمتنبي في «الكتاب» كقناع آخر من أقنعته المتعددة. وكاستعماله قناع صقر قريش عبد الرحمن الداخل في تحوّلات الصقر (من ديوانه كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» (ط1 1960) والغزالي في تعويذات لمدائن الغزالي من ديوان المسرح والمرايا (ط1 1965) هذا فضلاً عن مرايا كثيرة لأسماء من أساطير يونانية.. اورفيوس، سيزيف... أو سورية، يطبع عليها الشاعر صوراً لذاته. إن ثمة شيئاً ما من خلع الشعراء العرب للبوس الأمة المهترئ، وشهوة عارمة بغسل الهزائم بالنار والكبريت. (كما يقول خليل حاوي) او كشف العورة (بأسلوب مظفر النواب) أو شتيمة الأصول العربية للهزيمة (نزار قباني) أو السخرية حتى من الأبطال (مرثية جديدة على قبر صلاح الدين لأمل دنقل). سيكون من البساطة وربما من الخفّة وسم حركة الرفض في الشعر العربي الحديث والمعاصر بالشعوبية، ونقلها من أعماق القرون الوسطى إلى أواسط جديدة.
وفي كل حال، وكيفما أدرت استعارة أدونيس لاسم مهيار الديلمي، فإن جزءاً ما أكيداً وكبيراً من تاريخنا العربي لم يجد الشعراء العرب كبير حرج في إحراقه والتنكيل به..
أصغي بين كلمات أغاني مهيار الدمشقي، لنشيج لا يحتمل. لأنني موجع على امتداد 144 صوتاً وأغنية ومزموراً، وضربات فؤوس مجنونة تحطم كل ما حولها من آلهة ومقامات وترتيبات داخل الردهة العربية، ولا يهمها (في غرفة الموتى هذه) ما يملأ الغرفة من بخور مقدس، أو من أشباح الملائكة والشياطين، بل ترى الشاعر ينهال بمهاميزه على ما يحيط به من كل شيء... ممتلئاً بشبح نيتشوي أكيد، لا من أجل تمجيد الشهوة أو النشوة الديونيزيسية، والرغبات الأولية التي قدسها نيتشه. وفضلها على ترتيبات العقل وقواعد الأخلاق اليونانية والمسيحية معاً وأحلها محل الأصنام المتنوعة التي حطمها، بل من أجل ماذا؟
نسأل ونجيب: من أجل الرفض
إن الأقنعة المستعمَلة في «أغاني مهيار الدمشقي»، فضلاً عن مهيار نفسه، هي في القسم الأخير المسمّى «الموت المعاد»، على التوالي بصيغة مراثٍ لكل من عمر بن الخطاب، ابي نؤاس، الحلاج، بشار (بن برد). قد يبدر سؤال ما هو الخيط الجامع بين عمر بن الخطاب وكل من أبي نؤاس والحلاج وبشار بن برد؟ هو في مرثية ابن الخطاب، يشير إلى جبلة بن الأيهم وقصته معروفة مع عمر. يستدعي أدونيس من خلالها ما يسميه «الحجر الأخضر فوق النار». لنتفق على تسميته «العدل» المرفوع في موقع الجبروت... درة عمر بن الخطاب.
لكن مراثي كل من أبي نؤاس والحلاج وبشار بن برد، قد تحمل إلى موقع آخر من رموز للرفض في مواجهة السائد من ثقافة وسياسة ودين.... وليس هذا كافياً للقول بشعوبية مستحدثة ومنسوخة من القرون الوسطى.
نجد أطياف الرفض تطل بين طيات الأغاني وكسور المخلوقات وتضاعيف الصور، التي تحيط بالشاعر كما تحيط الألعاب المهشّمة بطفل غامض انتابته موجة من الغضب، جعلته فجأة يرفض، ويحطم جميع ما يحيط به من دمى، ثم يقف مفتوح العينين مبعثر الشعر حائر الملامح بين أنه شقي أو أنه سعيد... كمجنون في نشوة ويشير بإصبعه إلى الأنقاض.
إن مهاميز أدونيس (تيمّناً بما كتبه دريدا عن نيتشه في كتابه أساليب نيتشه: مهاميز EPERONS) فعلت فعلها على كل حال.
يقول: «ماذا إذن تهدّم وجه الأرض ترسم وجهاً آخر سواه ماذا إذن ليس لك اختيار غير طريق النار غير جحيم الرفض حين تكون الأرض مقصلة خرساء أو إله». (قصيدة ليس لك اختيار)
- ملامح مهيار
- ملامح مهيار الدمشقي أو صور مهيار في الديوان كثيرة. وتأتي من خلال أناشيد أو قصائد مقطعية، مختزلة بمعظمها، موزونة بأوزان الشعر الحر، وبعضها مرسَل، غالباً ما يُسمّى المقطع منه بـ«مزمور»..
- من النشيد الأول أو المزمور الأول يشير الشاعر إلى بطله على أنه «فيزياء الأشياء» ونفهم من ذلك أنه حركتها وتحولاتها. وأن هذا الكائن له قدرة عجائبية على التخلق أو التشكل «يخلق نوعه بدءاً من نفسه» وندرك مع القصائد التالية أنه «مدمر»، «هوذا يأتي كرمح وثني غازياً أرض الحروف» وقوته في كلماته (ليس نجماً) ومهيار ملك.. بل لغة. وأصوات «مهيار ناقوس من التائهين في هذه الأرض الجليلية» (صوت) ولعله يولد من العدم أو مما حطّمه من الوجود من المادة والغبار من «جثة المكان» (كما يقول تولد عيناه) وهو (كخالق للوجود الجديد من كسور العالم القديم) ذو قوة عنفية تدميرية، لا يؤلف بين الأشياء بقوة الحب، بل بقوة الموت.. لأنه يأكل نفسه ليولد من جديد. «باسم تاريخه في بلاد الوحول يأكل حين يجوع جبينه» (قناع الأغنيات) وهو باختصار: الملك والإله والرمز واللغة. بل لعله «كاهن مثقل باللغات البعيدة. كاهن حجري النعاس»(العهد الجديد) ولغة جديدة: «إنه فارس الكلمات الغريبة» لا ريب أن لدى أدونيس، هاجساً مردوداً من الحركة (الفيزيس) والميتفيزيك فصوره مكتظة بمفردات النبوة، الإله، السماء، الأسرار.... وحتى القدرة على التغيير، كما القدرة على الردم والتهشيم، هي ثورة إذاً على أصل ديني مستور، ولا تتجلى إلا في لغة الشاعر. والمفارقة أن لغته ذاتها لغة غيبية قرآنية «لكن لاهوتها لاهوت معكوس. أعني أن رحلة (الخارق) أو (الموعود) أو (المحول، المدمر، الماحق، الطوفاني، الرافض) لا ينتمي لمخيلته الدينية بمقدار ما ينتمي لوثنية ما... هو يسميه القديس البربري»: (لا ننس أن الشاعر واسمه علي أحمد سعيد اسبر اتخذ اسم إله وثني سوري أدونيس).
- ذاك مهيار قديسك البربري
يا بلاد الرؤى والحنين
حامل جبهتي لابس شفتي
ضد هذا الزمان الصغير على التائهين
ذاك مهيار قديسك البربري
تحت أظافره دم وإله
إنه الخالق الشقي» (البربري القديس م 1 ص 352)
وهو لا يختار «لا إله ولا هاوية الشيطان» لأنه لا يريد «أن يبدل الجدار بالجدار» (هو يريد أن يكون خارج هاتين المملكتين خارج العصيان والخطيئة (بالمعنى الديني) ليعيش في داخل جرح الكلمة الوثني.
«إنني لغة لإله يجيء إنني ساحر الغبار» (أورفيوس 377)
تأخذ لفظة «إله» لدى أدونيس معاني غير معنى اسم الجلالة (الله) في الإسلام. هي مفرد «آلهة» ومجمع الآلهة هو مجمع وثني لدى اليونان القدماء وحتى حين يذكر لفظ الجلالة بذاته «الله»، فإنه ينحو به منحى وثنياً أي يعطيه وهو في وثنيته هذه، وهي وثنية فتاكة وساحرة معاً، ليس الجمال، وليس الأخلاق، وليس الحب... إلخ وليس لأية أقانيم دينية أو أخلاقية بل هي أقانيم التحوّل القاسية. لعله الموت عينه يقول في «مزمور»: «أحمل هاويتي وأمشي... إنني الموت حقاً»، «إنني نبي وشكاك» هو «نبي ومسخ». أعرف أنني شرخ الموت أتبطن القبر وأخنخن كلماتي. لكنني حيّ... وحيث أعبر «الموت واللاممر». إذن، نحن لسنا أمام ملاك طهراني وسماوي (كما هوهلدرلن في إطار هيدغر) بل هو هادم ومدمر... باللغة. ويعطي لكلمة إله ما أعطى اليونانيون القدماء من احاسيس ورغبات لآلهتهم فهم يأكلون ويشربون ويحتربون... كالبشر تماماً. يقول:
«انتظر الله الذي يحار
يضحك يبكي ينحني يضيء
وجهك يا مهيار
ينــبئ بالــله الــذي يجــيء» (الآثــار الكــاملة رؤيا ص 379)
وهكذا يتقدم الرجل في أغانيه ومزاميره وصوره، من خلال كيمياء لغوية متلاحمة، لا ينظمها سوى الإيقاع الذي غالباً ما يندرج في الأوزان، أو يفلت منها في المزامير.
وهي إيقاعات متهاترة متآلفة متنابذة تسبح كأسماك في بحر، تنساب او تفترس بعضها البعض... وتتشكل منها جميع احتمالات الكلام. إن ثمة أطيافاً من هيدغر في كتابه عن الحركة ((la phisis وكتبه الفلسفية المتعلقة بالميتافيزيك واللغة مثل كتابه «الطريق إلى الكلام» Acheminement vers la parole Gallimard»
- رفض ماذا؟
لا نستطيع فهم بعض أبعاد أدونيس في «أغاني مهيار الدمشقي» من دون تماس مثلث فكري لغوي - تاريخي. إذ أية حوادث تاريخية أنطقت الشاعر في أواسط القرن الفائت، كما أنطقت سواه من شعراء الرفض العربي مثل محمد الماغوط بمثل هذا الجنون المدمّر للأبنية الثقافية والسياسية العربية في زمن يؤرخ له بأنه زمن الثورات القومية في مصر وسوريا والعراق والشمال الأفريقي على الاستعمار، والخروج من دهاليز عصر الظلمات الطويل (المغولي التركي الغربي) بحركات التحرر العربية؟
فحين يحشرج الماغوط، في الفترة الزمانية نفسها قائلاً في قصيدة الفائض البشري «آه لو يتم تبادل الأوطان كما الراقصات في الملهى»، الآثار الكاملة مجلد 1 ص 15، ومثله أدونيس القائل «إنني خائن أبيع حياتي للطريق الرجيمة إنني سيد الخيانة». وفي كل خطوة من خطواته ترتسم علامات الارتجاج والتدمير». وهو أكثر إلغازاً من الماغوط الذي يضع إصبعه مباشرة في الجرح ويفرك فيه وأكثر باطنية من نزار قباني وأثقل وطأة من مظفر... حين يحشرج هؤلاء الشعراء بمثل ما كتبوه ماذا يريدون؟
ماذا يريد أدونيس؟
هو يصرخ كالمجنون...: «أيها البحر أيها الأبيض أيها الفرات أيها العاصي وأنت يا بردى لقد شربتك جميعاً وما ارتويت»، ليعود فيمجّد اليأس ويناديه. علينا أن نصغي إلى أدونيس جيداً. إلى الرجع الأبدي لمهيار.
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
ذات زمان قديم، ربما أوائل ستينيات القرن الماضي، كنت قد عرفت أول الحب، وأول الحنين، وأول رغبة الذوبان في الآخر، وأول الخوف من فقدانه، كنت تلميذا بالإعدادية، كسولاً ومتدينا وغامضا، لم أسمع سوى حكايات أبي، وأغاني أمي، ولم أقرأ سوى روايات المدرسة، أيامها، ولأنني لم أقدر على كتابة الشعر الذي تخوفت منه، ولم أبح بعاطفتي لأحد لأنني خفت من البوح، أيامها، جرؤت على الرواية، وشرعت في كتابتها، ومع ذلك كنت كل يوم أحمل تحت إبطي بعض دواوين الرومانسيين، وأخرج إلى الطبيعة، كنت أظن أنهما، الرومانسية والطبيعة، هما طريقي المأمونة إلى قلب هانم، لم أكن أعلم أن شعراء الرومانسية الذين صاحبتهم كانوا محدودي التقنية، بلغة أخرى كانوا يفتقرون إلى قصدية التقنية، ولم أكن أعلم أن الطبيعة التي لجأت إليها كانت محدودة بفضاء أقل من مدينيّ، أقل من ريفيّ، أقل من أحلامي، محض حقول وطيور وحيوانات مألوفة، وترع نحيلة، ماؤها عكر أحيانا، صاف نادراً، وبضع شجرات توت، ونخيل متناثر، والأهم فتيات ونساء جريئات فى السر خجولات في العلن، ورجال مجهدون غير قادرين على الجرأة أو الخجل، وصبيان يشبهونني، كنت أتخيلهم يحبون هانم وينافسونني عليها، كان الشعر الذي أقرأه سهل المذهب سهل المأتى، كأنه هو أيضاً أقل من أحلامي، مثله مثل الطبيعة، بعد فترة هجرت الرواية التي أكتبها، وبدأت أكتب شعراً مطبوعاً يشبه الشعر الذي أقرأه، لم أفكر أن أقرأ ما أكتبه أمام الآخرين، كان شعري كله عن هانم، ولقد حسبتهما، شعري وهانم، أهم أسراري، في أوائل السبعينيات وبعد موت عبد الناصر بوقت قصير، صادفت الكتب الثلاثة: قصائد أولى وأوراق في الريح وأغاني مهيار الدمشقي، وأصبحت، وأنا في الطرق، في كل الطرق، أحملها تحت إبطي، وأنا في البيت، في كل البيت، أضعها إلى جواري، كانت هانم قد أصبحت حنينا أجوف، وكنت أبحث عن حنين عميق، حنين جارف، دواوين أدونيس الثلاثة قادتني إلى خالدة، وإلى السماء الأخرى، وإلى بيروت، وإلى زملائه جميعاً، وإلى مجلة شعر، ومعهم بدأت أكنس الأوراق الصفراء الساقطة من أشجار شعرائي الرومانسيين، في تلك الفترة تصادف أنني شاهدت الفيلم الروسي (المعلم الأول)، المأخوذ عن رواية الكاتب القرغيزي جنكيز إيتماتوف، هل شاهدته فعلا، وتصادف أنني اعتبرت عنوان الفيلم هو عنوان علاقتي بشعر أدونيس، أذكر بطلة الفيلم التيناي سليمانوفنا، أذكرها ليلة زفافها على الإقطاعي الباترون، الإقطاعي الموديل، وهي تصرخ من الألم في أثناء اغتصابه لها، وبسببها يلجأ معلمها ديوشين، يلجأ إلى الدولة والحزب والبوليس على أمل ان ينقذها، ولما يفعل، يعودان معاً، التيناي وديوشين، الفتاة والمعلم، وفي طريق العودة تمطر السماء، وتغسل الأمطار جسد الفتاة، التي فجأة تقف وتخلع ملابسها وتنطلق وتقفز لتكون في قلب البحيرة، تستحم وتتطهر، وينتهي الفيلم بأن نرى ديوشين يمسك فأسه ويضرب بها الشجرة الوحيدة الموجودة بالقرية، شجرة التقاليد القديمة، ولأنني كنت مسكونا بالقصائد الأولى، والأوراق في الريح، وأغاني مهيار، فقد اختلط عليّ مشهد الفأس، وأصبحت أرى أدونيس محل ديوشين، بل أصبحت أرى أدونيس على هيئة سيزيف، حيث تلاعبت بي الأسطورة وغيرتني إلى أن ساعدتني في العثور على ضالتي، بعدها تلاعبت بالأسطورة وغيرتها، فسيزيف يصعد الجبل من أجل أن يصل إلى قمته، ويعود بالصخرة التي هناك، ولكنه في كل مرة لا يصل، وأدونيس يصعد الجبل من أجل أن يصل إلى قمته، ويجتث بفأسه المصقولة الشجرة التي هناك، شجرة التقاليد القديمة، وينجح في الوصول والاجتثاث، ولكن شجرة جديدة بتقاليد جديدة سرعان ما تنمو وتصبح شجرة التقاليد القديمة، ويعاود أدونيس الصعود، وهكذا هكذا دون انقطاع، كانت صورة أدونيس، ونصوص دواوينه الثلاثة، وخيالات فيلم المعلم الأول، الصورة والنصوص والخيالات، كانت تقودني إلى أزمنة أقدم، حيث أواخر الأربعينيات المصرية، والتي أعتبرها، ويعتبرها معي بعض آخرين، وكأنها العصر الذهبي المغدور، الذي سرعان ما دهسته أقدام العسكر، وظلت طوال العقود التالية تدهسه، وما زالت تدهسه، بدعوى أنها تحمينا من أقدام غليظة أخرى، أقدام الإسلاميين، وبدعوى أنها تحمينا من انحلال الدولة وتفسخها، في أواخر أربعينيات القرن الماضي، خرجت من أحضان الحركة الرومانسية الغالبة آنذاك، حركة جديدة، أسموها حركة الشعر الجديد، وزعموا أنها أكثر واقعية، وزعموا أنها أكثر ثورية وحداثة، وتصادف أن الحركة الجديدة تزامنت تقريبا مع ضياع فلسطين ونشوء دولة إسرائيل، وتزامنت أيضا مع بدايات انتصار حركات الاستقلال الوطني ومع حدوث ثورة يوليو 1952 التي أنشأت حولها أنصاراً شاعت تسميتهم في ما بعد بالناصريين، وأنشأت حلفاء أغلبهم من القوميين العرب وبعضهم من الماركسيين التقليديين، وأنشأت خصوماً من الإسلاميين والليبراليين والماركسيين الأكثر تشدداً، والجميع، الأنصار والحلفاء والخصوم، عندما انتبه مفكروهم إلى ضرورة الفن تذكروا الشعر والتفتوا إليه وأجبروه على أن يكون عاماً وخطابياً، أجبروه على أن يكون شعر نضال عند أقصى نقطة، وشعراً ميسور الفهم عند أدنى نقطة، أجبروه على أن يكون بديلا لنضالهم البائس والمهزوم غالبا، حتى أن أحدهم، محمود أمين العالم، فضّل روايات محمد صدقي العمالية على روايات نجيب محفوظ التي تنشع بعرق البرجوازية الصغيرة، وفضّل شعر كمال عبد الحليم صاحب نشيد «دع سمائي فسمائي محرقه»، على شعر صلاح عبد الصبور، لعلهم كانوا معذورين لأنهم أصحاب هويات معطاة ومحددة، الأصح أصحاب هويات موروثة وجاهزة، وكانوا يكرهون من الفن أن يضل ويصبح غابة، ويفضلونه إذا اهتدى وأصبح شجرة.
المارق
هذا الموقف القديم يفسر الكراهية التي يكنها مثقفو أنصار ناصر وحلفائه وخصومه لشعر أدونيس، فأدونيس كان وما زال يتقدم بخطوات واسعة باتجاه أن يكون الكوزموبوليتاني المارق، الكوزموبوليتاني حتى النخاع، هويته متخيلة، تتحدد بكل ما يختلف هو معه، وفور تحديدها يحاربها خوف أن تستقر وتثبت، والتاريخ الشخصي لأدونيس هو تاريخ هويات متعاقبة، لا يجمعها إلا ما يمكن أن يكون نطفة وجود، ما يمكن أن يكون خلية أولى، والذي راج عن أن خروجه من جماعة شعر في أواسط ستينيات القرن الماضي، كان نتيجة صدام وخصومة، لا يمكن أن يكون سبباً حقيقياً، إنه محض دافع، السبب الأولي بالاعتبار هو أن أدونيس قرر أن يهجر سفينة جماعة شعر لأنها وصلت ميناءها الأخير، لقد قال أدونيس ليوسف الخال: يكفي، ولعله فكر في أن بقاءه دون أن يغادر سوف يجعل هويته في طور التحديد والثبات، سوف يجعلها هوية مقتول، حتى أنسي الحاج، أظنه كف مبكرا عن كتابة الشعر، بسبب ذلك الوصول إلى الميناء الأخير.
الكتاب
غابة أدونيس تناسب تمرده وشجرة الآخرين تناسب ثورتهم، والثورة عمقياً أدنى مكانة وقدراً من التمرد، التمرد مطلق لا ينحد، والثورة مرهونة بما تسعى إليه، وبعدها تتلاشى وتصبح دولة، يكفي أن نتذكر ثورة عبد الوهاب البياتي ودولته، غابة أدونيس ما زالت تنبئ عن أماكن مجهولة لم تطأها قدماه أو عيناه، وهو في غابته يسير حسب بوصلة معرفته وليس حسب بوصلة خبراته، فمعارفه تجعله يدرك أن بالغابة أراضي بكرا لا تسعفه خبراته على أن يتخيلها، أدونيس هذا الذي أصبح عدواً لكل تلك القوى، الإسلاميين والقوميين والاشتراكيين الجوف والناصريين والبعثيين ومحدودي الثقافة والجهلاء، أصبح أيضاً عدواً للقوى الجديدة المضافة التي تكاد تكون حبيسة نزعة الاستهلاك الفوري للأشياء المادية والفنون والآداب، حبيسة التفاهة، ما زلت أذكر أيام أصدر أدونيس ثلاثيته (الكتاب)، ما زلت أذكر وجوه بعض هؤلاء، تلك الوجوه المنتصرة الفرحة، وكأنه، أي أدونيس، عاد ليحمل بين يديه حقيبة آبائه، عاد ليقضي البقية من عمره فوق قبر علامتهم المشهور ومن تراب القبر يصنع تماثيل العلامة ويوزعها على مريديه، وحسبت أن سوء فهم ما قد جعلهم يظنون أنه هكذا استفاق وعاد وتاب وأناب، بعدها ظللت أحاول أن أضع استغرابي فوق طاولة بعيدة عني، إلى أن استقام استغرابي واستطال وأشرق، فالمتنبي الذي تدور الثلاثية حوله بسبب مخطوطته المتخيلة، المتنبي هذا في شعره، وكما يقول المازني الذي أحفظ قوله، المتنبي هذا توجد في شعره قوة تخطئها في من عداه من مشاهير شعراء العرب، وهو من المقلين، وعلى إقلاله لا يطيل قصائده.
انتهت كلمة المازني، الذي لا بد أن نتبعها بالقول بأن أدونيس ليس هكذا، وأن أدونيس أحد أغزر الشعراء المعاصرين، وإذا كان المتنبي يأخذ بيدك إلى ما يريد مباشرة، ولا يطيل الدوران لبلوغ غايته، حتى أنه يدفع المعنى الذي فكر فيه دون زيادة أو نقصان، كأن شعره هو شعر البديهة، وكأن حكمته مسروقة من نفوس محيطيه، وكأنها حكمتهم، لاحظ أن حكمة أدونيس هي حكمته وحده، يتبناها المحيطون به، والمتنبي ليس الشاعر الوحيد صاحب الأمثال الحكيمة، ولكن أمثاله هو ودون الآخرين أكثر سيرورة على الألسنة، وذلك بسبب إحكام التسديد إلى الغاية، والاقتصاد إلى الحد الواجب، وحسن اختيار الألفاظ، وحلاوة سبكها، وهذه كلها صفات تختلف عما يمكن لأدونيس أن يفكر فيه أو يفعله في كلا الشأنين، اللغة والمعنى، فعند أدونيس المعنى في اللغة القديمة، موجود مسبقاً، والكاتب يصوغه بشكل جديد، لكنه في اللغة الحديثة ينشأ في الكتابة وبعدها، ولذا كانت ثلاثية الكتاب مدهشة لأنها أجبرتنا على أن نراهما معا، أدونيس والمتنبي، وكأنهما صاحبان، فنحاول أن نصدق، ونحاول ألا نصدق، وسوف نظل نعتقد أن الصورة ليست مغشوشة، ولكنها مثل كل أفعال أدونيس، لها أكثر من متاهة، ولها ظاهر واحد، وعدة بواطن، الثلاثية أجبرتني كلما لمحتها أو فتحتها أو طرحتها جانبا، أن أتساءل عن علة فنية خفية أدارت زنبرك (الكتاب) بأجزائه الثلاثة، قلت لنفسي: لعل المتنبي هو التمثيل الشعري الأجلى للثقافة العربية في أغلب عهودها، باتفاق عاشقيها وكارهيها، وباتفاق القيم والقواعد الحاكمة، وباتفاق القراء والدارسين على صحة هذا التمثيل، واختيار أدونيس للمتنبي يتكئ على صواب هذا التمثيل لذا فإنه اختيار ينطوي على بعد هجائي خفيّ يخترق الثابتين، ثابت الثقافة العربية وثابت المتنبي، كما أنه ينطوي على بعد تقريظي يحيط بالمتحولين الاثنين، متحول الثقافة العربية، ومتحول غير المتنبي، الذين منهم أبو نواس وأبو تمام، خاصة أن صفحات ثلاثية الكتاب لا تكف عن نزف الدم الذي يكاد يكون طابع هذه الثقافة، إنه الكتاب الأحمر إذاً.
كان طه حسين قد كتب كتابه المتنبي بهاجس يقترب في معناه وليس في مبناه من هاجس أدونيس، وليس غريباً أن يظل طه حسين هدفا دائماً لأغلب القوى التي خاصمت أدونيس في ما بعد، عموماً أدونيس لم يؤلف الكتب والدواوين بلسانه وقلبه فقط، ولكنه ألفها أيضاً بألسنة الآخرين بعدما وضع لسانه تحت كل هذه الألسنة، فديوان الشعر العربي، وديوان النثر العربي، وديوان النهضة، وديوان البيت الواحد، لا يمكن أن تشبه في آثارها وتأثيرها على قرائها ما فعله القدماء في مختاراتهم، حماسة أبي تمام الكبرى، وحماسة البحتري، وحماسة الشجري، والحماسات الأخرى، وجمهرة الجواهري، ومختارات البارودي، كلها وغيرها تدخل ضمن شعر العرب أكثر مما تدخل ضمن شعر منتخبيها، يمكننا أن نستثني حماسة أبي تمام الصغرى، والمسماة بالوحشيات، أدونيس وحده هو الذي استطاع أن يؤلف مختاراته، سواء بالعناوين، وسواء بالترتيب، وسواء بالحذف، وسواء بالالتفات إلى المهمل فيها، وتجاهل الأكثر شيوعاً، وسواء بالهوامش، وسواء بروحه المبثوثة في كل مختاراته، حتى أن بعض مختاراته اعتمدت أيضا على رغبة صاحبها في أن تكون صادمة، لأن صدمة الحداثة فعل أدونيسي مألوف وغير مألوف، ولعلي أنصفه، وهو ليس في حاجة إلى إنصافي، إذا أشدت بإدراجه ضمن ديوان النهضة كتابه السادس الذي يضم نصوصا للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية الذي لا يمكن أن نتجاهله ما دمنا نتعقب نصوص النهضة الأكثر سريانا في زمنها وفي ما بعد زمانها وفي زمننا، نصوص النهضة باعتبارها قوسا زمانيا محايدا حيث يجب عدم تفضيل محمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي واختصاصهم بالقبول والمدح واستبعاد ابن عبد الوهاب واختصاصه بالتجريم والذم، فكلهم غرماء في الدين، وكلهم شركاء في استمرار هيمنته، بل يكاد يكون الإصلاحي منهم أكثر قدرة على إطالة عمر هذه الهيمنة، هكذا محمد عبده وليس هكذا محمد بن عبد الوهاب، وكلنا نعرف أن الماركسية عندما دخلت أوروبا الغربية كانت أقوى في البلاد التي لم تعرف الإصلاح الديني البروتستانتي عنها في البلاد التي عرفت، مع العلم أن الوهابيين هم الأكثر غلواً في معاداة أدونيس.
(كاتب مصري)
لا يمكن لباحث في قضايا التراث العربي أن يتناول مختلف الإشكاليّات التي يطرحها هذا الأخير دون الاطلاع على أطروحة أدونيس بهذا الصدد، لا لكونها أجابت عن كلّ إحراجات التراث في ضوء سؤال الحداثة بل لاعتبارها من بيْن أهمّ الأطروحات التي بحثت في جوهر العلاقة بين رُؤى الثبات ورُؤى التحوّل في الثقافة العربيّة.
لعلّ الأهمية التي تكتسيها اللحظة النقديّة الأدونيسية للتراث العربي في إشكال علاقته بالراهن تأسست عن وعي مرهف بالموروث ومكوّناته وكيفيّات تشكّلها تاريخيّا وبالراهن وتناقضاته المتراكمة وبالمستقبلي والإمكانات المنفتح عليها، وعلى هذا الأساس لا ينطلق الطرح الأدونيسي من الإسقاط النظري لمكتسبات الحداثة الغربيّة على التراث، ولا من رؤية سلفيّة تعتبر الحداثة تغريبا وانبتاتا عن الأصل، بل من تصوّر منهجي يضع نصب عينيه ضرورة فهم ميكانيزمات اشتغال العقل التراثي وبالتالي فهم مستويات تشكّله سيرورة وصيرورة من ناحية، وضرورة التأسيس لحداثة عربيّة تستمدّ مشروعيّة وجودها من هذا الفهم النقديّ والمتجاوز للتراث من ناحية ثانية.
يرى أدونيس أنّ مجمل الأسئلة التي طرحتها الثقافة العربيّة في سياق تطوّرها الحضاريّ لم يكُن خارج سيرورة تشكّل الجهاز المفاهيمي العربي، غير أنّ الفهم العميق لهذا الجهاز يستوجبُ استيعاب طبيعة هذه السيرورة التي اصطدمت في مساراتها الأوليّة بلحظة الإسلام التي كانت تأسيسا نهائيّا للرؤية العربية للكون والأشياء ونفيا لكل ما سبقها. ويعود ذلك بالأساس إلى الطبيعة الشمولية للدين باعتباره خاتمة الكمال والمعرفة فالوحي «من حيث إنه تأسيس وبدْء مطلقان، يتجاوز الأزمنة: الماضي، الحاضر، والمستقبل. فهو الماضي من حيث إنّه الأول، وهو الحاضر من حيث إنّه مستمر، وهو المستقبل من حيث إنه الآخر المُطلق». (1) وعلى هذا الأساس سيكون التعامل مع الراهن من خلال استعادة النموذج التاريخي، ونشدان المستقبل من خلال النموذج نفسه.
في هذا المناخ الثيوقراطي تشكّل الجهاز المفاهيمي العربي وتبلورت أشكال الاتّباعيّة المختلفة في السياسة والفقه والشعر والنقد، فلم يتجاوز الفعل الثقافي - وإن تعددت محاولات تجاوز مفهوم وحدة الدين في الثقافة العربية تاريخيا - طابعه الإصلاحي مما كوّن مادّة فكريّة وأدبية لا تتقابل (لا أفقيا ولا عموديا) مع المعطى العقائدي وإنما تندرج داخله متراوحة بين محاولاتِ التقويض من الداخل والارتهان إلى ما رسمه لها من حدود تتحرك في إطارها. وأصبحت الاتّباعيّة السياسيّة الإطار الجامع لتحقيق المشروع المنتهي حاضرا وماضيا ومستقبلا ومأسسته في الخلافة.
أيديولوجيا السلطة
في هذا السياق وجد الثقافيّ نفسه محاصرا بإيديولوجيا السلطة ولم تكن أمامه خيارات كثيرة: إمّا الارتهان والنكوص أو الرفض والمقاومة، هذه الأخيرة التي إن لم تؤدّ إلى تصفية المثقف نفسه (والتاريخ العربي مليء بالأمثلة على ذلك) فإنها في أحسن الحالات تؤدّي إلى عزله وقمعه.
بالإضافة إلى ذلك، تناول أدونيس قضيّة علاقة رؤى الثبات برؤى التحوّل في ضوء تشكّل مفهوم الزمن في الفكر العربي، ذلك أن قيمة الزمن التاريخي لا تتحدد إلا من حيث صدوره عن زمن الوحي على حد تعبيره، وعلى هذا الأساس لم يكن الزمن في تاريخ تطور الفكر العربي «شكلا أولانيا لحدس الإنسان، أو بعدا تكوينيا من أبعاد الشيء، وإنما هو شيء مخلوق كأي شيء آخر». (2) وهذا التناول حدّد بدقّة طبيعة العلاقة المأزومة بين الثابت والمتحوّل من ناحية وما تشكّلت في سياق هذه العلاقة من مفاهيم حدّدت الثقافي والفكري داخل إيديولوجيا المؤسّسة السياسيّة الشموليّة.
إنّ أهميّة طرح أدونيس للحظة الإسلام في سياق تناوله لقضايا التراث العربي متعلّقة بتحويل منهجي للتعامل مع الإسلام محدّدا حضاريّا، من تعامُل مع المنظومة العقائديّة التي أسّس لها دينا، إلى تناوله باعتباره موضوع بحث انثروبولوجيّ وبالتّالي محاورة تاريخيّته. وهو ما يؤدّي بنا إلى فكرة رئيسيّة مفادها أن رؤيا الثبات ليست موجودة في النص الديني (باعتباره تأسيسا مطلقا تنتفي معه تاريخيّة الممارسة الإنسانيّة) فحسب، بل بالتعاطي التاريخي مع ما هو أزلي في الدّين أي بتشريع الممارسة البشريّة استنادا إلى الفكرة الأزليّة عن الدّين. وفي هذا السياق لم تنبثق القراءات الجديدة للدّين إلا من زاوية تشكّلها مناهضا تاريخيا للسلطة الدينيّة متجسّدة في مؤسّسة الخلافة، وكان التأويل مرتبطا بوعي مختلف الفئات الاجتماعيّة بضرورة ملاءمة النصّ مع حياتها وحاجاتها وطموحها.
من هذه المنطلقات تتأسس رؤية أدونيس للحداثة بما هي فهم لمختلف ملابسات تشكّل التراث وبالتالي استيعاب أزمة الجهاز المفاهيمي العربي المتجسّدة في ضياعه بين تراثيّة التعامل مع التراث، وبين الإسقاطات النظريّة المتعسّفة على هذا الأخير.
الحداثة
والحداثة عند أدونيس لا تتشكّل إلا بكونها تجاوزاً وهدماً وتأسيساً للذات الحرة في محيطها الإنسانيّ والمنفتحة على الآخر انفتاحا يكادُ يلغي مقوّماتها الهوويّة أمام كونيّة الابداع، وبالتالي لا يتشكّل هذا الأخير إلا بوصفه جدلا حُرّا بين الثقافات. إنّ هذه المقاربة الإبداعيّة للعمل الفنّي تُغني عن إشكاليّة الشكل التي فرضتها المؤسسة في تاريخيّة تشكّلها ذلك أنّ «العلاقة بين الكلمات والأشياء متحوّلة أبدا، أي أنّ بين الكلمات والأشياء فراغ دائم لا يملؤه القول. وهذا الفراغ الذي لا يمتلئ يعني أنّ السؤال: «ما المعرفة؟» أو «ما الحقيقة؟» أو «ما الشعر؟» يبقى سؤالا مفتوحا، ويعني أنّ المعرفة لا تكتملُ، وأن الحقيقة بحثٌ دائم. وجوهرُ ذلك أن الحداثة تكون رؤية إبداعيّة بالمعنى الشامل، أو لا تكون إلا زيّا. ومنذ أن يولد الزيّ يشيخ. غير أن الإبداع لا عمر له». (3) وبهذا المعنى لا يمكن اعتبار كلّ حداثة إبداعا، على عكس الإبداع الذي هو دائما حديث.
ورغم ذلك تظلّ علاقة الابداع بالحداثة - رغم استناد طرفيْها إلى شعار المغايرة - علاقة إشكاليّة من ناحية تعلّقها بمسألة الزّمن والنضج الإبداعيّ أي بمدى استجابة الذائقة الجماليّة لإنتاج وتقبّل نصّ معبّر عن اللّحظة الابداعيّة الثوريّة لا من ناحية تأريخها ورصد محطّاتها وإنّما من خلال قدرته على استكناه القيم المغايرة التي أنتجتها هذه اللحظة والتأسيس لها جماليّا.
(شاعر مغربي)
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
لن يكونَ الحديثُ عن أدونيس، باعتقادي، إلا "سمفونية ناقصة" ما لم يتمَّ تناول المناحي الجديدة في تجربته الإبداعية والفكرية منذ أصبحت هواجسهُ أكثر كونية وانفتاحا على قلق العصر العولميِّ وانشغالاته. إنّ هذا المُبدعَ العربيَّ الذي انحاز ـ منذ بدايات نشاطه الاستثنائي ـ إلى حكاية تأسيسيَّةٍ أخرى تجعل الإنسانَ في قلب الوجود وعملية الخلق والسَّفر اللانهائيِّ إلى المعنى، حاول الخروجَ، كما هو معروفٌ، بالثقافة التي ورثها من أسر النظام المعرفيِّ القائم على المرجعية ـ المعيارية والماضوية وسلطة النص المُؤسِّس إلى زمن الخلق والإبداع و"التحول". انحاز، بمعنى ما، إلى بروميثيوس مُعلنا تمرّدَهُ على آلهة الوصاية ومُؤسَّسة التاريخ القمعية. لقد ارتبط اسمُ أدونيس بذلك الهمِّ الثقافيّ العربيِّ المُعاصر بامتياز: الحداثة. وكان وجهاً من وجوههِ البارزة إن لم يكن الأهمَّ بين كوكبةٍ من المُشتغلين في حقل الفكر والإبداع الشعريِّ. لقد قال بضرورة "الجهر بنهاية المُطلق" في ثقافتنا من أجل تحرير صوت الصَّيرورة نظيرَ ما فعل نيتشه في الثقافة الغربيَّة الحديثة. لقد رفضَ زمن السَّماء. وتحدَّث، أيضا، مثل هولدرلين عن حُبِّهِ ووفائِه للأرض. ظل باحثا عن وجه الإنسان العربيِّ المطموس تحتَ تاريخ القمع، وعن فينيق الإبداعية الدفين في رماد العصور السلطانيَّة. من هنا مُجابهتهُ الكبرى المعروفة مع التراث العربيِّ بغية كسر احتكار القراءاتِ السلطوية وتحرير أصوات الهامش المُضيء الذي غيَّبهُ التراثُ الرَّسميّ المُؤسَّسي وهو يُنتجُ "الهوية العربيَّة" باعتبارها هوية دينيَّة لا تاريخيَّة. لقد أراد أن يجهرَ أيضا "في البدء كان التعدّد" مُعلنا ضرورة الخروج من الحكايات التأسيسيَّة التي تختزل الهوية المتعدِّدة في أصل مُتعال يُبرِّرُ الهيمنة على الحاضر.
الشعر بداية
لا يخرجُ الإبداعُ الشعريّ الأدونيسيّ عن هذه الهواجس الثقافيَّة الانقلابية. ورُبَّما كان في أساسها. فالشعرُ عنده ليس تعبيرًا أو وصفا، بل هو كشفٌ وإقامة دائمة قربَ فجر الأشياء قبل أن تقعَ في أحابيل الإيديولوجية. الشعرُ بداية. وهو تنظيفٌ للغة من ذاكرتها التي تعجّ بأصناف القمع وأصداءِ الإقامة في بيت المُطلق. لقد حاول تعليمَ الشعر أن يعودَ إلى بيت الأرض وأن يحتضنَ الصَّيرورة. وكان دائبَ العمل على أن يُذكِّرَ القصيدة بمهامها المعرفيَّة والكشفية والجماليَّة الغائبة منذ تمَّ تدجينُها في سَراي الثقافة السَّائدة وتحويلها إلى جارية. أراد أن تسترجعَ القصيدة العربيَّة صوتها البرّي الأول، وأن تُعيدَ بناءَ الجُسور المنسوفة بينها وبين البدايات التي تظل بداياتٍ وإصغاءً حرًّا للكينونة. وكان في كل ذلك صاحبَ موقفٍ حداثيّ يجابهُ زمنَ التقليد والماضوية بزمن الحداثة باعتباره نظاما ثقافيا يتأسَّسُ على مركزية الإنسان وانهيار ثقافة النهايات والسرديَّات القائمة على المُتعاليات. لقد رأى أدونيس في الحداثة تجاوزا لسلطة المرجعيات المعصومة والمُسبَّقات، ورأى في مسألية المعنى مُحدِّدًا أوَّل يفصل بين عالمي التقليد والحداثة: فكريا سيكونُ المعنى "لاحقا لا سابقا"؛ وإبداعيا سيكون المعنى "نتاجا للكتابة" كما يُعبّر. هذا ما دفع به، بداية، إلى نقد المذهبيَّات والأصوليَّات جميعها ـ لاهوتية كانت أو إيديولوجية / علمانيَّة - تمهيدًا لمُمارسة نوع من "الخرق الثقافيِّ" الذي لا تستقيمُ الهواجسُ الحداثية بدونه.
لقد بدأ الأمرُ باكرًا منذ تفطن أدونيس إلى ضرورة التمييز بين الحداثة / النظام الثقافيّ التاريخيّ من جهة، والحداثة / التفكيك من جهة أخرى. لقد كان من الأوائل الذين تنبَّهوا إلى الطابع الشموليِّ ذي البنية اللاهوتيَّة في ما اعتمدناهُ من إيديولوجيات اعتقدنا أننا نلجُ بها عصرَ التقدم وتحرير الإنسان العربيِّ من وصاية الأزمنة البائدة ومُؤسَّساتها. كان ذلك وهماً. إذ إنَّ "كل مذهبيَّة حُبلى بالجلادين" كما يقول. لم تكن الحداثة الإيديولوجية تحريرًا بل سقوطا في شكل آخر من الشمولية ومرجعيَّةِ المُسبَّقاتِ التي تشل العقل وتسجنُ المعنى في الواحدية. هذا ما شكل نواة أولى عند أدونيس لتجذير هاجس التفكيك في تأملاته التي قادتهُ، مُؤخرًا، إلى نقد الوحدانيَّة وتجلياتها المُؤسَّسية. لقد انتهى به التأمل في اللوغوس العربيِّ إلى اعتباره جذرًا للنبذ ولاستبعادِ الآخر المُختلف. فمن المعروف أنَّ العصرَ يشهدُ انفجارَ الأصوليات وتنامي الخطابات التي تتمحورُ حول الهويَّة والانغلاق أمام العالم وصخبه. كل هذا شكل مدارَ التفكير حول بعض أزمات الحداثة في نسختها العولميَّة التي لم تنجح، ربما، في تحقيق نهاية سعيدةٍ للتاريخ. من هنا ضرورة المُقاربة النقدية لما كان يُسمِّيه نيتشه "ميتافيزيقا الجلاد" وهو يتحدَّثُ عن المسيحيَّة التاريخية بوصفها مُؤسَّسة مُراقبة ونبذاً واستبعاداً للآخر المُختلف هي الأخرى.
إنَّ الجلادَ يسكنُ كل منظومات الفكر الشمولية المُغلقة أمام جلبة العالم وصيرُوراتِه ومساراتِه وتعرّجاته. هذا يعني أنَّ هناك عنفا رمزيا يجدُ أساسهُ في بنية الفكر ذاتِه وهو يعتقل العالمَ والتاريخ والمعنى في منظومةٍ ثقافية قومية / عنصرية. من هنا اعتقادُ أدونيس أنَّ الفكرَ مُلزمٌ بتفكيك كل فكر يتمحورُ حول الهوية جاعلا من الذات مركزا للعالم ويُنبوعا للمعنى وطريقا ملكيَّة للخلاص. سيبقى العالمُ جُزرًا مُتنابذة ما دام الفكرُ الذي يستعيدُ الهوية مُهيمنا، وما دامت السَّماءُ تشهرُ سيفها في وجه الأرض المريضة. يكمنُ الخلل بحسب أدونيس "في الرؤية الوحدانيَّة للإنسان والعالم" كما يُعبِّر. هذا ربما ما يجعلنا نفهمُ ذلك الحلمَ الأدونيسيَّ العميق باستعادة أمجاد العصور الوثنية التي سبقت ظهورَ الوحدانيَّات في حوض المُتوسِّط. كان الإنسانُ آنذاك يعيشُ يقظة الوعي على الأسئلة الأولى ومُغامرة العقل في اكتناه الوجود بعيدًا عن اليقينيَّات والمُطلقات والمُسبَّقات اللاهوتيِة التي تفنَّنت تاريخيا في إدانة الإبداع واستقباح البحث خارج مداراتِ الجاهز. كان، بمعنى ما، جلجامش يبحثُ عن السر في ترحاله ولا يملك إلا عُدَّة ذلك الظمأ الأبديِّ إلى المعنى المليء.
ضد الوحدانية
نجدُ هذه الهواجسَ في بعض أعمال أدونيس الشعرية الأخيرة وبخاصَّة في قصيدتِه "كونشيرتو القدس" (دار الساقي ـ بيروت، 2012). هذه القصيدة البوليفونيَّة تمتلئُ بأصداء التاريخ وعذاباتِ الحاضر. كما تمتلئُ بحضور المُقدَّس الذي احتل القدسَ ومزقها إلى طوائفَ أعلنت الحربَ في ما بينها أبديا. القدسُ مدينة مريضة بهُويتها الدينيَّة الطائفية ومُحتلة من قِبل تاريخها الخاص الذي لم يتجاوز سرديّات "الشعب المُختار" العنصرية. هذا ما جعل أدونيس يعتبرُ هذه المدينة كمثل الجارية في سرير النبوات ما دامت تعيشُ زمنَ هيمنة السَّماء على الأرض. إنها مدينة ستبقى منذورة لأن يُمزقَ بعضها بعضا. وهي تجسيدٌ لجحيم التطاحن بين القبائل الكونية التي لم تستطع لملمة أوصال الذاكرة المُنقسمة على ذاتها. هذا ما يجعلنا ندرك كيف أنَّ أدونيس يقابل السَّماءَ بالأرض وثقافة الأرض: نعني بذلك ثقافة التحول والانقذاف إلى المُستقبل المُشترك بعيدًا عن سحر اللحظات التأسيسيَّة التي دشنت عهدَ الهويات المُتعالية أو"القاتلة" كما يحب أن يُعبِّرَ أمين معلوف. إنَّ هناك نقدًا عميقا لتجليات الوحدانية التاريخية هنا من خلال الحديث عن مدينة القدس. إذ إنَّ الوحدانيات تمثل زمنَ السَّماء الثابت المُتعالي الذي يجهل الصيرورة، كما تمثل شرنقة الهوية ويباسَ عُود المعنى. لقد ظلت، بمعنى ما، "حصان طروادة" السَّماويّ الذي قدَّم للأرض هدية الانغلاق والاستبداد والحرب على الآخر المُختلف. خلافا لذلك، كما رأينا، يجابهُ أدونيس الوحدانيَّة بزمن الأرض والتاريخ والانفتاح على الآخر بعيدًا عن أسر الحكايات الطائفية العتيقة. نشعرُ ونحنُ نقرأ هذا العمل الشعريَّ لأدونيس أنَّ هناك قداسا جنائزيا خفيا يرفعُ للأرض التي لم ينتصر زمنُها بعد وبقيت كحمامة ذبيحةٍ بسيف السَّماء في مشهدٍ رومانيِّ الإخراج.
الواحدية نفيٌ للتعدّد. نفيٌ للآخر. تمركز حول الذات. كما تمثل نفيا للتغير والتحول. الواحدية تأسيسٌ لزمن ثقافيّ يجهل التاريخ. إنها مبدأ يُجيز محوَ العالم واختزاله في الأنا. الواحدية زمن نرجس الذي يتملى في وجههِ أبديا. من هنا خطورتها. إنها تبريرٌ مُعلنٌ للهيمنة. هذا ما جعل أدونيس يطرحُ هنا، ضمنيا، سؤال التأسيس لزمن ثقافيّ وحضاريٍّ جديدٍ يصل بين الأطراف في أوقيانوس التاريخ المُتعثر، إلى اليوم، أمام رهان الأنسنة والانفتاح على الآخر. وربما كان هذا الرهان اليوم كونيا. إذ يعتقدُ أدونيس ـ وهو وريثُ أسلافهِ من الذين حاوروا اللانهاية برحابة قلب ولوَّحوا بالسّؤال في عتمة الأزمنة - أنَّ الشعرَ بإمكانه أن يكونَ لقاءَ الأطراف الحضارية وأرضا تعبقُ برائحة الإنسان. سيبقى الشعرُ دائما احتمال خلاص من ثقافةِ الجلاد التاريخيِّ الذي ما زال يتناسلُ طوائفَ تتناحرُ على كسب وُدِّ السَّماء وسَحق وردة الأرض.
كاتب من الجزائر
بطاقة
أدونيس
اسمه الأصلي: علي أحمد سعيد اسبر
سوري يحمل الجنسية اللبنانية
أحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين
ولد في قصابين (سوريا) في كانون الثاني 1930
تخرج من جامعة دمشق عام 1954 حائزاً إجازة في الفلسفة
دشن في الخمسينيات مرحلة الحداثة الشعرية الجديدة
تزوج الكاتبة خالدة أحمد سعيد عام 1956 وجاء معها إلى لبنان. ولهما ابنتان: أرواد ونينار
ساهم في إصدار مجلة "شعر" وأصدر بعد توقفها مجلة "مواقف"
غادر لبنان إلى باريس عام 1986
حاز الكثير من الجوائز
له العديد من المؤلفات الشعرية والنثرية.
أسمع صوتَ سعاله، يغمض عينيه، قبضة يده اليسرى بموازاة فمه، فيما اليمنى تُحكم قبضته عليه جيداً، أكتم صمتي حتى لا يسمعه أحد، أتحسسُه جيداً، صلابته، لونه، مرات عديدة أردتُ أن أضعه على شفاهي، أن أشعل تبغاً فيه؛ لكني في كل مرة كنت أخاف وأتركه، لأعاود القبض عليه براحة كفي؛ فأضعه بموازاة شفاهي كمن يغازل حبيبته، أقرّبه، أتأمل آثار أسنان الشاعر على مشربه، أُدخل رأس إصبعي في مقدمته؛ أتلمّس فيه حرارة الشهيق. تُرى كيف كان يتدلى قاب بيتين وقصيدة، أستنشق رائحة الخرس منه كتمثال فُقئت عينه، فللأشياء ذاكرة وحنين، تصرخ بجمر مَن يعيدها إلى سيرتها الأولى؟ لا أعرف كم من القصائد عاشرته؟ لكنه اليوم معي بكامل حزنه بعد أن أهداني إياه أحد الأصدقاء المقربين؛ والذي تربطه صلة قرابة بالشاعر أدونيس، فمن خلال معرفته بتقديري وحبي لأشعار صاحب «المسرح والمرايا»، قدّمه لي هذا الصديق هديةً قبل أن يغادر سورية وعائلته إلى أميركا، بينما اعتبرت «غليون» أدونيس هذا من أثمن المقتنيات الحسية والروحية التي حصلت عليها حتى تاريخ هذه السطور. لا أريد أسطرةً هنا، وليس المقصود الابتعاد عن أصل الأشياء.
عثر على المجلة التي قدمت له أسطورة أدونيس فخلع عن نفسه «قنباز» المناطقية والمذهبية والعادات والقبيلة، وخرج من الانتماء المحلي والديني إلى الانتماء الإنساني الرحب، لتبدأ ألف باء الشعر ورحلة القصيدة كأنه ذلك الطفل الذي أراد عبور النهر فأخذه زورق الشعر برحلة أبدية صوب الأسطورة، فينيقيا وما بين النهرين، الملاحم الكنعانية الأوغاريتية، الرحلة نحو الحداثة التي لا تعني تغريب الشعر وتأطيره بالنمط الأوربي بقدر ما كان المقصود به ردم الهوة بين الماضي والمستقبل؛ وذلك عبر نموذج ثقافي يحمل الطابع الحدسي، محافظاً في الوقت ذاته على العمق الحضاري والهوية القومية ليقدمها بشكل جديد يختلف عما اعتاد الشعراء تقديمه خلال عقودٍ من استظهار المحفوظات العمودية، وهذا لا يتم إلا بوصل الجذور بحاضر العالم؛ ليقدم أدونيس التراث العربي بقراءة مغايرة ضمنت الموروث الثقافي الكنعاني، والبابلي والسومري، رافضاً الوقوف على حدود الجاهلية والإسلام.
التراث
من هنا كان الاتهام له بأوربة النص الشعري، حيث إن النصوص الغربية كانت أصولها يونانية ترجع بدورها إلى الأصل السومري، البابلي، الكنعاني، لكن لا يمكن أن نغفل الدعوة النهضوية في إعادة النظر بمعنى التراث والموروث الثقافي بما يحويه من دلالة حضارية وقومية، حسب ما صرح أدونيس غير مرة في مجلة شعر العام 1962 العدد - 21: «إن تحرر الشاعر العربي الحديث من قيم الثبات في الشعر واللغة؛ يستلزم تحرره من هذه القيم في الثقافة العربية كلها». دعوة صريحة للشعر للابتعاد عن التمر والإبل كدلالة ثقافية، والاقتراب من الرسالات والنبوة كدلالة ثقافية حضارية، أو بمعنى آخر ارتقاء بمعنى التراث القومي وحدوده، لا كما ادعى البعض أنه عاد إلى الأسطورة تحت تأثير شعراء الغرب، لاسيما أن الدلالات مختلفة.
ليست وظيفة الشعر أو الشاعر نقل الواقع كما هو، أو كما يشاهده الناس، وإن حدث كانت القصيدة مجرد استنساخ أو تصوير، مجرد قصيدة فقيرة وصفية ضيقة، لكن البحث عن معانٍ وتراكيب جديدة أخذ أدونيس إلى سياقات ومنطق جديد، أحالنا إلى فلسفة الشاعر ورؤاه الخاصة، الغامضة معظم الأحيان تبعاً لدرجة ثقافة المتلقي واطلاعه أو بحثه عن الدلالات، حيث «لا يجوز أن نقرأ الشعر ونحن نفكر في أمر آخر» كما يقول باشلار؛ فهي ولادة جديدة للشعر، ولادة حرة لا استنساخ من الماضي، عبور بالقصيدة من الخطابة إلى الرؤيا، من التقريرية إلى الحدس، مع تطوير الإيقاع الشعري للقصيدة وتجاوز الغنائية الصرفة التي ابتلى فيها الشعر العربي، إضافة لإدخال عناصر درامية وأصوات جديدة غير صوت الشاعر؛ إذ وضع صاحب «كونشيرتو القدس» نصب عينيه استعادة الذاكرة المفقودة، وعلاقة الشعر باللغة بنظرة فلسفية جديدة تربط الحياة والكون والفن لتقدم فهماً جديداً للمتلقي، ومفهوماً آخر للشعر اعتمد على اللغة وجماليتها، فهو لم يتخلَّ عن الشعر الموروث ولم يهدمه كما حاول البعض أن يتهمه؛ فقد التقى فيما قدمه مع امرؤ القيس وذي الرمة ، وأبي تمام من ناحية اللغة الشعرية والصورة، والتقى مع أبي النواس في الخروج عن السائد، ومع المتنبي وغيرهم، فلم يقف ضد الوزن؛ لكنه وقف ضد النمطية سواء أكانت نثراً أم شعراً، فالمفاضلة عند «مهيار» كانت دوماً على ما تحتويه القصيدة من بنى تعبيرية، والتعويل على ثقافة تربط الماضي التراثي بالمستقبل قوامها السؤال المستمر حول الإنسان والحياة والفن والعالم، خارج كل يقين مسبق وخارج كل مثبت ووثوقي، فالبنية العقلية الوثوقية القائمة على الإيمان المطلق بحقائق مطلقة مرفوضة لدى الشاعر الكوني، وفي الوقت ذاته لا هوية للحداثة أو ركود في مكان ما، أو ضمن إطار لا يمكن اختراقه، أو أن تكون أسيرة حدود لغوية لا يمكن أن تتعداها.
قاموس اتهامات
خلافات فكرية، إيديولوجية شكلت قاموس اتهامات للشاعر، فاختلاف خصومه بالرأي معه أو بحرية التعبير لم يقبلها مَن طالبه بها، فالقانون السائد عربياً: «إن لم تكن معي فأنت ضدي» ولزاماً أن تموت بطعنة خنجر أو برصاصة جاهلية، عليك أن تخرج منها أنك رحيم، هكذا يتحول الأدب والفرد والنخب المثقفة إلى ديكتاتوريات شعارها القتل، شأنهم شأن أي طغم حاكمة بأمرها تُهدر دم القصيدة، فالدعوات التي انتشرت منذ عامين لقتل الشاعر على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تكن سوى تلك الدعوات التي نادت لحرق كتب ابن رشد وإعدام الحلاج، العداوة ذاتها قديمة جديدة، عداوة كار الحداثة، أوربة الشعر، تغريبه، آلهة الأرض الحاكمة، المقدسات، الهوية، الدين، فمع مراحل تطور القصيدة الأدونيسية تطورت التهمة الموجهة لشاعرها، وبفتوى واحدة جرّدته من قوميته وسوريته، من انتمائه، ومن شعره، وفكره، صوفيته. نعم الشعر دائماً في أزمة، لكن القصيدة لم تخبرنا أن الشاعر سيكون في أزمات وعليه أن يحمل سلاحاً غير القلم، فالاختلاف لم يعد على شكل القصيدة وتجاوز الجاهلية وبات بين هلالين ونقطة!
لا لن يتقاعد الغيم وسيستمر الدخان الأبيض في التصاعد، لن تكون مثلهم، لن يطبخوك في قِدر صلواتهم، وأعود لقول المجاهد المختار في الفيلم ذاته حين سأله الضابط الإيطالي غراتسياني قائلاً: «عمر المختار كم تحتاج من الوقت لترتيب تسليم رجالك؟». فيرد المختار وهو مكبّل بالسلاسل وبرباطة جأش وشجاعة: «نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وسيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال القادمة التي تليه، أما حياتي أنا فستكون أطول من حياة شانقي». إنها لعنة الربيع، أدونيس الجميل الذي أحبّته عشتار قتله الخنزير البري، لكنه مازال يُبعث كل ربيع، أيها الشاعر عليك أن ترابط على تخوم القصيدة، أن تحارب بربيعك الآخر قبل الأول أسطورة الغبار؛ وتعود لنا بربيع جديد، شاعر، فيلسوف، ناقد، باحث، مفكر، صوفي، مبهم، سوريالي، أو نبي، لكن لا بد أن تُبعث من جديد، إهدهِم إهدهِم أيها الشاعر.
(كاتب سوري)
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
لم يتوقف أدونيس يوماً عن إثارة المشاكل والأسئلة والسجالات، في مسيرته الثقافية الطويلة. وهذا أمرٌ يُحْسَبُ له في مستويين: شعري وفكري. وفي المستويين معاً قادهُ البحثُ في مجاهل اللغة، وقادتْهُ اللغةُ في مجاهل البحث. ولو سئلتُ اليومَ عما يثير إعجابي ـ في المقام الأول ـ في كتابات أدونيس الكثيرة والمتنوعة، لقُلْتُ إنه ذلك الخوْض البعيد في أعماق اللغة، أو التحليق البعيد في فضاءاتها.
وإني لأحسبُ أنّ الكتابة لدى أدونيس انطلقتْ من إقبال على اللغة العربية وشغف بها. ومع الوقت، ومن كتاب إلى آخَر، ترسّخت لدى أدونيس شخصيةٌ لغويةٌ فريدة، قامت على أسس من التمكّن والسلاسة والصفاء وحُسْن التصرُّف والمغامرة والتجريب والتفنُّن. ومن هذا كلِّه انبثقتْ رؤىً وأفكارٌ ومقولاتٌ لم يتعبْ أدونيس من استعادتها أو تردادها بصيغ مختلفة أو متجدِّدة.
التجديد اللغوي لدى أدونيس هو، في ما أظنّ، أساسٌ لكلِّ تجديد آخَر. لقد عبَّرَ أدونيس منذ بداياته عن هموم فكرية برزتْ في شتّى كتاباته، ومن خلال هذه الهموم أراد أن يُظْهِرَ نوعاً من التمرُّد، إزاء الشعر ومفاهيمه، بل إزاء التراث بمختلف حقوله، وكذلك إزاء الإيديولوجيات والمذاهب والقيَم الوافدة أو المقيمة، داعياً إلى التغيير انطلاقاً من التعمُّق في فهم الماضي والحاضر ونقدهما بعقلانية وانفتاح. وقد استطاع في أكثر من مرّة أنْ يكون محوراً لسجالات حامية بين المثقفين العرب. ولكنني ـ مع ذلك ـ أميلُ إلى القول إنّ الإنجاز اللغويّ هو الأكثرُ أهميةً وإقناعاً في كتابات أدونيس، أو لنقُلْ إنه الأساس لكلِّ ما أنجزه.
ليس هيِّناً أنْ يظلَّ أدونيس، منذ انطلاق حركة الحداثة العربية وحتى اليوم، شخصيةً إشكاليةً جعلت العاملين في حقول الثقافة العربية ينقسمون حوله، أو يتساجلون في شأنه. وليس هيِّناً ـ وهو الشاعر ـ أنْ يدأب على إقامة الندوات الأكثر إثارةً في شؤون الأدب والفكر والسياسة، يسجِّلُ فيها المواقف ويدعو إلى إعادة النظر ويوجِّهُ النقدَ إلى مؤسسات المجتمع على أنواعها.
ثنائيات
لقد أظهر أدونيس على الدوام ميْلاً إلى التعبير عن توجُّهاته الأدبية والفكرية من خلال ثنائيات مثل: الهدْم والبناء، المحْو والاكتشاف، التقليد والتجديد، الأصالة والحداثة، الإبداع والاتّباع، الثابت والمتحوّل، الظاهر والباطن... الخ. ومنذ بداياته مال إلى المزج بين مستويات الشعر ومستويات النثر في كتاباته المختلفة. وقد تجلّى هذا المزج، أوّلَ ما تجلّى، على نحْو جديد (أو تجديدي) في»أغاني مهيار الدمشقي»، حيث تمازج الشعر والنثر أحياناً وتجاورا أحياناً أخرى بطريقة أوحتْ بأنّ الوزن ليس فارقاً جوهرياً بين القول الشعري والقول النثري. وهذا ما قال به أسلافنا من النقاد العرب. إلا أنّ هؤلاء الأسلاف قالوا بأنّ الوزن ضروريٌّ ولكنه ليس كافياً لنظم الشعر، أي لجعل الكلام شعراً. بينما لم يجدْ بعضُ روّاد الحداثة الشعرية العربية، ومنهم أدونيس، ضرورةً للوزن في كتابة الشعر. وبسبب من ذلك صار في الإمكان أنْ تُسمّى قطعةٌ شعريةٌ خاليةٌ من الوزن «قصيدةً». وبسبب من ذلك أيضاً ظهر «شعراء» لم يعرفوا الوزن أصلاً، ولم يُحسنوا، بل لم يحاولوا استثماره في كتاباتهم. ولولا هذا النوع من التخلّي عن الوزن، كم من كُتّاب الشعر في المرحلة الحديثة، ابتداءً من منتصف القرن الماضي، لم يكونوا ليكتسبوا صفتَهم كشعراء، بل لم يكونوا ليتجرأوا على الدخول في حقل الكتابة الشعرية؟! أطرح هذا السؤال، وأنا لستُ متعصِّباً للوزن أو ضدَّه، وإنما أنا من القائلين بأنّ الوزن ليس فارقاً حاسماً أو جوهرياً بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية.
أدونيس بدأ بكتابة الشعر العمودي، ثم كتب القصائد الحديثة الموزونة، ثم كتب قصائد النثر. بل كان أوّلَ من بشّرَ بقصيدة النثر العربية، انطلاقاً من كتاب سوزان برنار حول قصيدة النثر الفرنسية ابتداءً من بودلير. وقد يصحُّ القول إنه ذهب في تجاربه الشعرية أبعدَ من أيِّ شاعر آخَرَ من شعراء الحداثة، فكان له ما لم يكنْ لغيره من اختبارات لإمكانات اللغة والإيقاع، ومن محاولات للخروج بالقصيدة من نمط بنائيّ واحد ، ليصبح في الإمكان أنْ تحظى بأشكال تعْصى، بهذه النسبة أو تلك، على الحصْر أو الوصف الدقيق.
لقد ألحَّ أدونيس على أهمية الشكل أو البناء في كتابة الشعر. بكلمة أخرى، أراد للقصيدة أنْ يكون لها نظامُها الخاصّ. وهو الذي في مجالات أخرى انتقدَ الأنظمةَ على أنواعها، لتغييرها نحْو الأفضل، وليس لاستبدالها بالفوضى. ويبدو أنه شعرَ في فترة معيّنة بما جنتْهُ بعضُ مقولات الحداثة وشعاراتها على الشعر، وما أحدثتْه من بلبلة وفوضى وانفلاش في الساحة الأدبية، فاستدرك شاكياً مما آلتْ إليه قصيدةُ النثر في مقالة بعنوان «الارتداد» نُشِرتْ في جريدة الحياة في السابع من نيسان 1994، إذْ وصفَ غالبية ما يُكتب باسم هذه القصيدة بأنه كتابةٌ بلا كاتب، أي «بلا ذاتية، لا بؤرة لها ولا نواة. هي مجموعةٌ من الجُمَل تتراكمُ وتتآلفُ أو تنتسقُ اعتباطاً. يمكن مثلاً أن تُغيِّرَ تسلسلَ هذا التراكم دون أن تشعر بأن البنية قد اختلّت عمقيّاً . فليس لها كيانية، أو لنقُلْ إنها ركامٌ وليست جسداً». أما الحداثة التي تدّعيها أغلبية الكتابات التي تسمّي نفسها قصائد نثر، فإن أدونيس يصفُها بقوله: «الحداثة في هذه الأغلبية ليس ليس لها معنى، لأنها كتابةٌ بلا شكل»، ثم يتابع قائلاً: «أخذ القارئ يتنبّهُ فعلاً إلى أنّ هذه الكتابة ثوبٌ واحدٌ جاهز، أو جملةٌ واحدةٌ جاهزة».
لقد أطلق أدونيس قصيدة النثر العربية، أو كان من مطْلقيها. ولكنه، من بينهم، راجعَ واستدركَ مُلِحّاً على أهمية الشكل أو البناء للقصيدة، موزونةً كانت أو غيرَ موزونة. ويمكنُ للقارئ أنْ يلحظَ في كلِّ قصيدة من قصائد أدونيس، الطويلة خصوصاً، نوعاً من التخطيط أو التصميم الهندسي. أنظرْ على سبيل المثال قصيدته «مفرد بصيغة الجمع»، التي أرى أنها تأتي في طليعة قصائد النثر العربية، وأرى أنها تمثِّلُ محطةً من المحطات الأساسية في مسيرة أدونيس الشعرية. ومن المحطات الأساسية أيضاً «أغاني مهيار الدمشقي»، الديوان الذي سبقتْ إليه الإشارة، والذي يتألفُ من أقسام تخضع لتصميم هندسيّ واحد، فيبدأ كلٌّ منها بمقطع نثري (أي خال من الوزن) يحمل عنوان «مزمور»، تليه مقطوعاتٌ موزونةٌ لا تتجاوزُ المقطوعةُ الصفحةَ الواحدةَ إلا في حالات ٍقليلة، ويحملُ كلٌّ منها عنواناً خاصاً. والمزامير التي تمهِّدُ للمقطوعات تتكاملُ في إعطاء صورة ٍ وافية ٍ عن مهيار، تلك الشخصية التي يجد فيها الشاعرُ تمثيلاً لشخصيته، محمِّلاً إياها ما أمكنه من الدلالات الرمزية: سيزيف، فينيق، أوديس، الخُضْر، الحلاج... الخ.
هذا التصميم الهندسي (مدخل نثري + مقطوعات موزونة) إنما هو صورةٌ لمخطَّط ٍبنائيّ، أو إطارٌ للربط بين حالات ٍمنفصلة، تعبِّرُ عنها المقطوعاتُ الموزونةُ القصيرة، ويوضحُها المزمورُ النثريُّ في سياق ٍ من البحث لا يعرفُ التداعيَ أو التشوُّش.
شعرٌ وتاريخ
ما أشرْنا إليه من دقة ٍوتخطيط ٍفي كتابات أدونيس الشعرية يبلغُ أحياناً حدودَ الاستئناس بوسائل البحث، وإنْ كان ذلك على سبيل التورية أو الإيهام. فبعض القصائد لدى أدونيس تحتوي على هوامش، وكأنه وضعها لتفسير ما جاء في المتن. إلا أن القارئ سرعان ما يلاحظ أنّ الهوامش لا تقلُّ غموضاً أو»شعريةً» عن المتن (أنظرْ على سبيل المثال قصيدته «إسماعيل»).
ولكنّ التخطيط لدى أدونيس بلغ ذروته في كتابه الضخم «الكتاب»، الذي يقع في ثلاثة أجزاء كبيرة الحجم، والذي ينطوي على مشروع ٍ شعريّ ٍ تأريخيّ، شكّلت الأربعمئة سنة الأولى من التاريخ الهجري حقلاً له. وهذا الحقل يعجُّ بمختلف أنواع المسائل الخلافية التي أنتجت المذاهب المتعددة في الأطوار الأولى للإسلام، والتي لا تزال حيةً بين المذاهب، بل كثيراً ما تزدادُ حِدّةً واحتداماً.
مشروع أدونيس في «كتابه» يقوم على مقاربة التاريخ مقاربة ًشعرية. وفي هذه المقاربة يحضر المتنبي حضوراً أساسياً، بل يمكننا القول إنّ أدونيس رأى إلى التاريخ مستهدياً بالشعر، وبرمزه العربي الكبير أبي الطيّب المتنبي. والمتنبي هو أيضاً رمزٌ للتمرّد، استهدى أدونيس بشعره وبسيرته، وذلك لِما في هذه السيرة وذاك الشعر من نزعة إلى اختراق ما تراكمَ وأصبح سائداً في زمن المتنبي من قِيَم سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية ... الخ.
في كلِّ صفحة في «الكتاب» متنٌ وهوامش. المتنُ شعريٌّ وُضعَ في إطار، والكلامُ فيه يُجريه أدونيس مرةً على لسانه ومرةً على لسان المتنبي. وعلى جوانب الإطار هوامشُ هي عبارةٌ عن إشارات تاريخية. وإذا كان الهامشُ التاريخيُّ نوعاً من السرْد أو الإخبار، فإنه لا يخلو من قيَم شعرية، بل هو مفعَمٌ بها. وهذا عائدٌ أوّلاً إلى نوعية في اختيار المادة (الإخبارية) التي أراد لها أدونيس أن تكون متلائمةً مع المتن الشعري، أي مع رؤيته الخاصة إلى تلك المادة. وهو عائدٌ ثانياً إلى طريقة التصرُّف بالمادة التاريخية المقتبَسة من مراجعها تصرُّفاً لغوياً ووزنياً. هذا التصرُّفُ يُتيحُ للكاتب ـ الشاعر أنْ يؤكّدَ حضورَهُ في ما يقتبسُهُ أيضاً، وليس في ما يؤلفُهُ فقط.
يصعبُ على القارئ أنْ يَصْرفَ همَّهُ، وهو يتصفّحُ كتاب أدونيس، إلى البحث عن القِيَم الشعرية لهذا العمل في معزل عن غيرها من قِيَم تأريخية أو سردية أو رؤيوية ـ فكرية. وتصميمُ الصفحة الذي اعتمده أدونيس في كتابه يقترحُ على القارئ أكثر من طريقة ٍواحدة ٍ للقراءة. فلو أسلمَ هذا القارئُ نفسَهُ للهامش التاريخي، الذي يقدِّمُ فيه أدونيس المعلومات عاماً فعاماً وينتهي بها إلى العام 354ه، لوجدَ ما يجذبُهُ ويدْعوهُ إلى المتابعة، مؤجِّلاً قراءة المتن الشعري.
ولو أسلمَ نفسَهُ ـ في تصفُّح ٍثان ٍ ـ للمتن الشعري، متجنِّباً أو محاذياً الهامش التاريخي، لوجدَ من الصياغات ما يوحي بأنّ صناعةَ التاريخ هي في جانب ٍمن جوانبها صناعةٌ لغوية، وبأنّ هذه الأخيرة إذا امتلكت طاقةَ التجديد تعطي المسوِّغات القوية للأفكار الجديدة. في هذا المتن الشعري يحضرُ المتنبي كضوء ٍغامر ٍيزهو بألق اللغة، ويومئُ نحْو الهامش التاريخي كالغامز من قناته.
في تصفُّح ٍمن نوع ثالث، يمكنُ للقارئ أنْ يتنقّلَ بين المتن والهامش ملاحظاً التشابكَ بين القيَم التصويرية والقيَم التقريرية، بين الرؤى والوقائع. وملاحظاً أيضاً دقّةَ المخطَّط أو التصميم الذي انطلقَ منه أدونيس لتحقيق هذا التشابك.
إنّ «كتاب» أدونيس يُقْنِعُ قارئه بأنّ الخطة المرسومة لا تعمل دائماً على إعاقة «الشعرية»، ولا تجعلُها تتراجعُ أمام جفاف التدبُّر والإحكام. إنه لأمرٌ ليس بالهيِّن أنْ يتصدّى شاعرٌ معاصرٌ لتاريخ يعجُّ بالتناقضات، ناظراً إليه بعين الباحث والناقد، ومعبِّراً عن رؤيته إليه بلغة شعرية على درجة عالية من التكثيف والعُمْق.
لقد أثار «كتاب» أدونيس جدلاً في الأوساط الثقافية العربية. ولكنّ معظم الذين خاضوا في هذا الجدل إنما رَمَوْا إلى تبيُّن موقف أدونيس من التاريخ العربي، أو بالأحرى من التراث العربي بأبعاده الدينية والفكرية والأدبية... وغيرها. رَمَوْا إلى تبيُّن ذاك الموقف لكي يعبِّروا عن تأييد أو إدانة له. وأظنُّ أنّ معظم هؤلاء لم يتنبَّهوا على نحْو كاف إلى أبرز ميزة من مزاياه، وهي في نظري فتْحُ الكتابة الشعرية على مجالات ٍ وآفاق ٍلا حدود لها.
الشاعر هو الموضوع
من الصعب جدّاً الكلام في مقالة واحدة على الجوانب العديدة لشخصية أدونيس، الشاعر المفكّر الباحث الناقد المترجم المحاور... الخ. وهو المؤلف الغزير الذي لا يسعُنا في مقالة كهذه سوى الإشارة إلى بعض مؤلفاته. إلا أنَّ كتاباته، على اختلاف أنواعها، تدورُ على محاورَ أساسية، قد يكونُ أبرزُها محورُ الشاعر نفسه. نعم، الشاعر بما يمثِّلُهُ من مواجهةٍ بين الفرد والجماعة، بين الذات والآخَر، بين الرائي والعالم.
هذه المواجهات التي يخوضُها الشاعر، والتي يحملُ بها لواء التغيير على كلِّ الأصعدة، متقمِّصاً شخصية النبي أو الثائر أو المتمرِّد أو المجنون أو البهلول... الخ، تشكِّلُ موضوعات ٍأساسيةً، أو خلفيّات ٍلموضوعات، في كلِّ ما وضعَهُ أدونيس من مؤلفات ٍ شعرية ٍأو غير شعرية.
الشعر: معناه، ماهيتُهُ، دورُه، مكانتُهُ، تأثيرُهُ... قضايا أو هواجسُ لا تغيبُ
عن قصائد أدونيس، ولا عن دراساته ومقالاته. في قصائده الكثيرُ من الشعر على الشعر، أي أنه يدأبُ على اتخاذ الشعر ـ أو الشاعر ـ موضوعاً لقصيدته. وفي دراساته ومقالاته آراءٌ في الشعر وتنظيراتٌ يمكننا عدُّها الأكثر تعبيراً عن مشروع الحداثة في الشعر العربي المعاصر.
الحداثة عند أدونيس تجربةٌ مستمرّة. وخصوصاً عندما ينظرُ إلى الظاهرة الأدبية نظرةً تنمُّ عن حسّ ٍ تاريخيّ، إذْ يرى إلى كلام الحاضر في علاقته بكلام الماضي، ويرى أنّ فكرَ الحاضر يجبُ أنْ ينطلقَ من نقد ٍلفكر الماضي. والحداثةُ لذلك رؤيةٌ متجدِّدةٌ تعيدُ تشكيلَ الماضي والحاضر، فيما هي تنظر إلى المستقبل. وهو إذْ يدعو إلى التأريخ لأدب الماضي إنما يدعو إلى التأريخ لأدب الحاضر.
يرى أدونيس إلى نفسه وكلامه عندما يتناول بالدراسة نماذجَ من الكلام في الماضي (أنظرْ على سبيل المثال كتابه «كلام البدايات» الذي يتضمّنُ تحليلات ٍلبعض القصائد من الشعر الجاهلي). فهو في دراساته إنما يسعى إلى التعبير عن نفسه، وإلى التعرُّف بذاته أكثر فأكثر. وإذا كان هذا التعرُّف وذاك التعبير من الشؤون التي تخصُّ االشعرَ أكثر من غيره، فقد يصحُّ القول إنّ أدونيس قد نحا بالكتابة النثرية، في النقد والدراسة الأدبية والتنظير للأدب وغيره، منحىً شعرياً، محقِّقاً في ذلك قدْراً لا يستهانُ به من التكامل بين شعره ونثره.
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
عندما يتحدث جيلنا عن الشعر، يبرز أدونيس في مقدمة المشهد؛ مبدعاً ومفكراً وناطقاً بالحقيقة. هو المبدع لأن شعره شاهين يحلق في فضاءات الكون فيما كثير من شعر أمتنا ماء يسيل مستسلماً لبحوره. هو المفكر لأنه تجرأ ويتجرأ ببصيرته النافذة، على إحاطة الضوء بمأزقنا التاريخي الموحل من كل جانب. هو المختلف صاحب الرؤية، الذي ينطق بالحقيقة مهما بلغت مرارتها، ويرسم الصورة بأدق تفاصيلها، ويمضي بالقول الى غايته ومنتهاه.
في هذا الزمن الذي تُحزُّ فيه رؤوس البشر وتقطع أوصالهم لمجرد أن الله لم يخلقهم من قبيلة داعش، يجرؤ أدونيس على التفكير فيقول كما لو أنه لم يعرف الخوف يوماً: «إنه بمجرد اعتبار أن النبي محمد هو آخر الأنبياء وأن الحقائق التي قام بتبليغها هي آخر الحقائق؛ فإن ذلك يعني أن لا نبي آخر ولا أفكار أخرى. وهذا يعني أيضاً أن ليس على الإنسان أن يبدل؛ وإنما يجب أن يطيع ويطبق. هذا يعني أن الآخر غير موجود إلا بوصفه منبوذاً. فإذا ذهبنا بهذا الاتجاه فإن الله لم يعد لديه شيء يقوله، لأنه قال آخر الكلام لآخر نبي». أجل من سوى أدونيس يجرؤ على كشف عرينا الطاغي؟
«نحن المسلمين العرب نعيش في عالم ديني بلا ثقافة، ونعيش في ذروة استلابية قد لا يكون لها مثيل. لسنا أنفسنا، ولسنا غيرنا، ونحن في الفراغ، وفي نقطة الصفر».
كلما قرأت نصاً لأدونيس أوقنت أنه يريد أن يرتقي بنا لنصبح أعمق حساً وأذكى عقلاً وأجمل إنساناً، فهو كما كل المنذورين للبحث عن حقيقة زمنهم، ذهب ويذهب إلى أقصى الفكرة لا ليواجه نقيضها وحسب؛ بل ليبحث عن امتداد ذلك النقيض في آثار قدميه ولون عينيه وترددات صوته.
من شائع القول إن الشعر هو ديوان العرب، فالشعراء كانوا «وزراء إعلام قبائلهم» وبسبب تسيد الثقافة الشفوية كان من الطبيعي أن يهيمن الشعر على تاريخ العرب الأدبي لأن طبيعته الإيقاعية تسهّل على الرواة حفظه وتداوله على أوسع نطاق. ومع أن أدونيس هو الأكثر غوصاً في التراث الشعري العربي ومعرفةً به؛ إلا أنه لم يستسلم للمألوف من الاستعارات والتشبيهات والكنايات وصنوف البديع، بل صنع منها ما يشبهه في فرادة نظرته إلى العالم، بحيث لم تأت تجربته الشعرية امتداداً للتراث بل نتيجة تمرده عليه.
التراث
من المعروف أن صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» لم يترك شكلاً شعرياً إلا وسبر أغواره، فقد كتب الشعر المقفى والشعر المرسل والشعر الحر، كما كتب شعر التفعيلة وما عُرِفَ بقصيدة النثر، وهو في كل مستويات تجربته ومراحلها كان مجدداً حتى في الأشكال التقليدية الأكثر صرامة ورسوخاً. وقد تمثّل تجربة الشعراء الصوفيين وسبك لنفسه أسلوباً لا يحيد عنه لا - في شعره ولا في نثره - تتجاوز الكلمة فيه معناها القاموسي، لتكتسب مدلولات جديدة تفتح الأبواب على مصراعيها لتعدد الظلال والتأويلات.
صحيح أن مبدع «المرايا» متمرد على التراث من طرازٍ رفيع، لكن تمرده لم يمنعه من أن يستفيد منه ويبني عليه، ففي «ديوان الشعر العربي» ساير أدونيس تجربة أبو تمام في حماستيه، الكبرى والصغرى، فاختار جيد الأبيات من القصائد ولم يختر القصائد برُمّتها. وعندما اتهمه أحد النقاد في ثمانينيات القرن الماضي بالغموض وسأله «لمَ لا تقول من الشعر ما يُفهم؟» رد عليه بقول أبي تمام: «وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟»، أدونيس المولود عام 1930 لأسرة فلاحية بسيطة في قرية قصابين، محافظة اللاذقية أسموه علياً. واسمه الكامل في بطاقة الهوية: علي أحمد سعيد إسبر. ولأن التعليم كان يتمركز في المدن البعيدة ويقتصر على أبناء الأغنياء، لم يعرف المدرسة في طفولته، لكنه حفظ القرآن على يد أبيه، كما حفظ عددًا كبيرًا من نفائس الشعر العربي القديم. فأعلنت مواهبه عن نفسها في وقت مبكر.
في ربيع 1944، زار أبو الاستقلال السوري الزعيم شكري القوتلي المنطقة الساحلية من سوريا فكان أن أتيح لذلك الطفل أن يلقي أمام الرئيس الزائر قصيدة وطنية من شعره، فحازت القصيدة على إعجاب الرئيس القوتلي، ولما علم الزعيم أن الفتى الشاعر لم يذهب إلى المدرسة يوماً، ازداد إعجاباً به، وقرر أن يوفده على نفقة الدولة إلى المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس؛ حيث قطع مراحل الدراسة قفزًا، وتخرّج من الجامعة مجازًا في الفلسفة.
في الثامنة عشرة، قرر الشاعر أن يتمرد على اسمه الموروث وأن يختار لنفسه اسماً يشبهه، فكان أن أسمى نفسه أدونيس، وأدونيس كما تعلمون هو الاسم الأخير لإله أسطوري جميل ولد بين النهرين كان اسمه تموز، الإبن المُخْلِص للماء العميق، انتقل من بابل إلى آشور؛ ومن آشور إلى أوغاريت ومنها إلى قبرص، ومن قبرص الى الإغريق، الذين أسموه أدونيس، اشتقاقاً من كلمة آدون التي تعني اللورد، أي السيد، أو الشريف السامي.
من تموز الى أدونيس تغير الاسم؛ لكن الحكاية ظلت هي الحكاية! وفي كل الحكايات يخرج الشاب الجميل تموز أو أدونيس للصيد فيقتله خنزير بري؛ لتنبت من دمه أزهار الريح، أي شقائق النعمان، وعندما يغيب في النصف الثاني من العام تغادر حبيبته آلهة الأرض والخصب عشتار أو أفروديت العالم كي تبحث عنه، فتفقد الطبيعة خضرتها ويفقد البشر رغباتهم ويظلون كذلك إلى أن تعيد أفروديت أدونيس ليتفتح دمه أزهاراً في الريح من جديد.
كذا أصبح أدونيس الأسطورة رمزاً لتجدد الحياة، ولا أغالي إذا قلت إن أدونيس الإنسان الشاعر ابن قصابين، استطاع على مدى عمر من الإبداع أن يفرض نفسه رمزاً للتجدد الإبداعي أيضاً، إذ ما تزال أطروحة (الثابت والمتحول) التي نال عليها شهادة دكتوراه الدولة في الأدب عام 1973، تثير سجالاً طويلاً حتى يومنا هذا، كما كل أعماله، التي لا تكف عن العصف في العقول.
ليس أدونيس مجرد شاعر، إنه خلاصة حضارة عريقة تتجسد في رجل، هو ابن المعلم الأول الذي أبدع في الساحل السوري أول نوتة موسيقية وأول أبجدية؛ ألف باء جيم دال، وهو ابن قدمس شقيق أوروبا الذي حمل الأبجدية من أوغاريت إلى الإغريق لتصبح: ألفا، بيتا، جاما، دلتا. ومن الإغريق إلى العالم برمته.
في شعره يضبط أدونيس وجداننا متلبساً بحقيقته، وهو في أحيان كثيرة يقرأ اللحظة قبل وقوعها لنندهش عند وقوعها بيقظتها فينا، كما لو أنها كانت وستبقى محفوظة في مرايا إبداعه إلى الأبد!
(كاتب سوري)
تاريخ المقال: 31-10-2014 01:51 AM
كثِيرونَ هُم الذين يعرفون جيدًا من هو أدونيس الشاعر، من خلال مُجمل منجزه الشعري ونصوصه الفصوص أو من خلال منجزه النّقدي المتين. لكن قلة هم الذين يعرفون علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) الإنسان عن قرب.
ومؤكد أن أدونيس الإنسان الطيّب الودود المنطلق المرح المتوقد، هوّ نفسه الذي اختار ومنذ سنوات شبابه الأولى، وتحديدًا منذ سنة 1948 أن يتوارى خلف لافِتةِ أدونيس الشاعر، المفكر المهموم، الباحث، الرائي الحذر الرصين المسكون، الصوفي، الفيلسوف، حتى عاد الجميع يستحضرونه في ذاكرتهم، اسمًا ورسمًا، كعلامة مميزة للجدية والعمق والنفاذ والحكمة.
ويكبر علي أحمد سعيد، وينجو من النهر الذي كاد مرات أن يبتلعه وهو هائم في تقدير المسافة الفاصلة والممكنة بين ضفتيه. يكبر وصوت أمه يمسح عن عينيه رغوة الصّابون، مذكرة إياه بأنّ عليه أن يُغمض عينيه حين يُغسل رأسه.
يكبر، دون أن ينسى الوصية أبدًا، فتعود أن يُغمض عينيه حين تحرقه العبارة أو المعنى، فيراها غير ما نراها، ويستدرجها فتطيع، ويناديها فتحضر، ويلاطفها فتلين، ويشكو لها فتذبل وتتنهد وتهيم:
استعارة أدونيس
حين بلغ السّابعة عشرة من عمره، كانت روحه المستوفزة شعلة متوقدة محصورة في جسد نحيل مشدود بين أصابع أقدام متورمة من كثرة الارتطام بالصخور وهو يقدح بها الأرض ذاهلاً ومستغرقًا، وشعر فاحمٍ منفوش كعش من الشوك على ربوة.
ذلك الفتى الأسطوري الجميل الذي عشقته عشتار وهامت به، وكيف قتله الخنزير البري، ثم كيف كان يُبعث كل سنة في فصل الربيع، فأثّرت فيه الأسطورة بشدة ورجّته رجًا وقرر من يومها أن يبادر، وفورًا إلى إستعارة هذا الاسم الملهم ويوقّع به نصوصه.. وحدّث نفسه، أنّ ما يحدث له شبيه بما يحدث لأدونيس في الأسطورة، وبأنّ هذه المنابر والصحف التافهة المتعالية الظالمة مثلها كمثل الخنزير البري، تحاول أن تصرعه وتقتله بهذا التجاهل الموجع. ومن يومها، كان أدونيس.
السجن
وما أن بلغ العشرين من العمر، حتى قرّر أن تكون وجهته دمشق.
في هذه الفترة، وتحديدًا في بداية سنة 1955، كانت دمشق تغلي وتمور سياسيًّا وأدبيًّا. كان نزار قباني قد بدأ يفرض نفسه كشاعر متفرّد يحلّق بعيدًا عن السرب بلغة نافذة وقاموس ليّن كالماء وصلب كالصّخر، يفيض فيهدر، ويتجمّع لينتشر ويضوع ليلهب ويخطف الدّهشة والإعجاب من الجميع، يتطلّع له الشرق والمغرب العربي كلّه وهو يهمهم، أنّ الشعر هذه المرّة سيبزغ من جديد من هناك. من سوريا. ومن قصور وحدائق وحرائق دمشق.
في هذا الوقت المبكّر من مسيرة أدونيس وهو في أوجّ سنوات الشباب الأولى، كان قد بدأ يلفت له الانتباه بعد أن نشر في مجلّة الجيثار باللاذقيّة، قصيدته الرائعة المطوّلة (الفراغ). ولكن وبسبب إنتمائه إلى الحزب القومي السوري المحظور، زجّ به في سجن القنيطرة، ليقضى به سنة، كانت ضروريّة ليعيد التأمل في كلّ قناعاته السياسية وبدأت تتوضح شيئًا فشيئًا، ليخفت فيه السياسي الجامح المتهور وليعلو في أعماقه ووجدانه صوت الشاعر المتأمّل الرصين العميق والباحث الألمعي الذي سيربك العالم وهو يحاوره ويجادله بقسوة وحضور بديهة وعمق نادر، متقدمًا وهو يشهر رايتين: منجز نقدي باذخ ومُنجز شعري مُجدّد مقوّض مُؤسس مُدينًا ومقترحًا في آن.
وكان لا بدّ من أن يلتقي بيوسف الخال، وكان لا بدّ وأن ينتج عن لقاءهما مجلّة (شعر) التي مثّلت علامة فارقة حرّكت الساحة ورجّتها رجًّا، ودامت ستة سنوات، لتتوقّف سنة 1963. ليصدر بعدها مجلّة (مواقف) إثر نكسة 1967، لكنه لم يتحمّس لها حماسته لمجلّة (شعر) ولم يكن الوقت يشجع على أية حماسة في الحقيقة، كان جميع شعراء الوطن العربي يمرون بفترة إحباط وقنوط ويأس. كانت هزيمة مصر أعمق من كلّ جرح يمكن تصوره. وكان السبيل الوحيد المتاح للمواساة، هو السكوت والحزن وابتلاع علقم المرارة.
سنة 1973 كانت سنة أدونيس بامتياز، فقد عاد فيها بقوّة، من خلال عدّة نصوص شعرية وترجمات وهي السنة التي نال خلالها شهادة دكتوراه الدّولة عن بحث، نشره تحت عنوان (الثابت والمتحولّ)، وهو الكتاب الذي رجّ العالم العربي أيّامها رجًّا، وما زال إلى اليوم وسيبقى كإحدى أمهات المراجع والمباحث النقدية الجادة في مدوّنة الشعر العربي.. ومنذ ذلك الوقت، عاش سندبادًا محاضرًا ومرتحلاً بين جامعات ومراكز البحث في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وإسبانيا وهولندا والبرتغال وغيرها، وتلقى عددًا من الجوائز العربية والعالمية وعشرات من ألقاب التكريم، كما تُرجمت أعماله إلى ما يقارب العشرين لغة. حتى انتهى به الترحال إلى عاصمة النور باريس، حيث التجأ إليها مع عائلته، بسبب ظروف الحرب، ليستقر بها منذ قرابة الثلاثين سنة.
(كاتب مصري)
السفير : 31-10-2014