"عجائز الطرقات
يستجدون بسمة عابر
في وجوههم مرايانا
وفى حدبة العمر
أيامهم معلقة في ذكرى
كسنام يواجه فيض الصحراء
في العربات وعلى المصاطب والممرات
يتجمعون
تتبعهم بروق مخمدة وعواء مسحوق..."
انها أولى القصائد المنشورة في "مختارات شعرية" للشاعر العماني سيف الرحبي، ضمن سلسة "مختارات عربية" التي يرأس تحريرها د.شاكر عبدالحميد،عن هيئة قصور الثقافة بالقاهرة.
تضم المختارات العديد من الأعمال المختارة من دواوين الشاعر: "رجل من الربع الخالي"، "مدينة واحدة لا تكفى لذبح عصفور"، "مقبرة السلالة"، "يد في آخر العالم"، "الجندي الذي رأى الطائر في نومه"، "منازل الخطوة الأولى"..هذا بالإضافة الى مختارات مما كتب عن الشاعر. وسوف نتخير فقرات وربما بعض الجمل من تلك المختارات النقدية لتشكيل صورة الشاعر.
بالوعي والتفهم والتوقع الدائم ولدت شاعرية سيف الرحبي منذ ديوانه الأول "نورسة الجنون" عام 1980م. ويلاحظ أنه نشر معظم أعماله خارج حدود عمان وبما يشير الى أن هذا الشاعر الشديد العصرية -حفيد السندباد يحمل قلقه وتمرده وأشواقه، وعذاباته التي لا تنتهي، لأنها عذابات المعرفة والتواصل الحميم والحب والحرية والعدل المفتقد في كل مكان في العالم. فالأزمة الوجودية عنده هي مفتاح عالمه الشعري.
أصبح شعر "الرحى" جزءا لا يتجزأ من مشهد التجديد الشعري العربي. فالنص عنده قائما على نوع من التركيب الدلالي، فهو يجعل من الشعر حدث تفكيك للتاريخ وللواقع والنصوص. ان النص عبارة عن سيرة ذاتية، لكن السيرة تكف عن كونها سيرة فرد. بل هي ضرب من الاستحضار لثقافة تمضى قدما الى خرابها، وتأريخا لأرض كل ما فيها يتفسخ.لذلك يصفها بأرملة العصور/ ومستودع نفايات العالم، وأن هذه المدن صنعها النفط ليسرح فيها السماسرة لامتصاص ضروع الأرض.
هكذا يستل النص، من استدعاء المحلي، لكنه يفتحه من الداخل على الكوني. ومن الذاتي ينفذ الى البشري الشامل. لتصبح الكتابة إطلالة على الرعب المحتمي من المكان بأقاصيه وأصقاعه وكواه المعتمة.
برز ذلك من خلال الأسلوب والبناء. أما البناء فغالبا شذارات قصيرة ومقاطع خاطفة، انها لحظات لقطات وتعليقات وتدقيقات أحيانا، أي أنها مقاطع قوامها اللحظة، وكلاهما يوحى بنوع من أدب يومي، وبواقعية تسجيلية، ويوحى برهانية على نحو ما. الا أنها عميقة ملحمية، الشذرة تنطوي على عناصر الملحمة.كما تبدو الصورة عند الشاعر، سريالية ذات نكهة ملحمية.
الا أنه يبدو أحيانا رومانتيكيا، كما في نص "هذيان الجبال والسحرة" حيث الغنائية ويبدأ من الصحراء والجبال، وكأنه معلقة لامرئ القيس، يقول:
"لقد ذهبوا بعيدا صوب أنفسهم
وذهبوا في الوحشة
أيام تتلوها أيام
الديار تضمحل في عين عاشقها"
كما أشار النقاد الى خصوصية البناء الشعري عند الرحبي الى نحته الخاص للصورة، تلك التي تتسم بقدر وافر من التفاصيل،مع بلاغة الأسلوب، يقول في قصيدته "بركة المآتم والأصياف" :
"عظام سهرة البرحة
أتلمظها الآن مثل جيفة
بركات سر المأتم
خاصة، طبخة اللذيذ"
أما الرسم بالصورة، أو ما يطلق عليه بلغة الرؤية..كما في فن السينما، حيث الصورة المباشرة الدالة الى ما بعد مسطحها وصدمتها المباشرة. استفاد منها الشاعر ووظفها في قصيدته..كما في ديوانه "مقيرة السلالة"/ "المحاولة الأولى" يقول:
"حين كنا صغارا، كنا نلعب بين القبور، وكانت الفراشات
وجراد المقابر يطير بمرح كأنه في حديقته الغناء، كنا
نمتطى الضريح ونمسك بالشاهدة كلجام خيل أو حمار،
نركله وكأننا نمضى في الطريق المألوف للمارة والسابلة.."
تستطيع أن تلتقط نظامان (أحيانا) داخل النص الواحد في العديد من القصائد، وهو ما يعد محاولة لكسر المألوف، ولضرورة فنية (أكيد)، وهو ما يمكن أن يوصف بنظام السطر وهو المألوف، ونظام الفقرة.ففي ديوان "يد في آخر العالم"/ رقم 5..يقول:
"لا أرى شيئا
لا أسمع شيئا
غارقا في ظلام مقابري
...
شرطة بجنازير وبذلات أنيقة
يتنزهون في الحي اللاتيني
مصحوبين بالضباب المحتدم والمشردين
يعلكون اللبان على حافة المترو
بواب الأسكندرية العجوز. طيور هيتشكوك. ذرية
الأحقاف. برذون الخليفة. فراء الأميرة. جان دمو. مقهى
"اللاتيرنا". مصارعو ثيران قدماء. جلبة الذئاب والقطارات.
مخدع المضاجعة لامرأة مجهولة. غيمة النار الزرقاء في
مواقد البدو."
وللشاعر قصيدة في مدينة القاهرة، تتسم بقدر ملفت من الحميمية بلا كلفة أو افتعال، هي"نجمة البدو الراحل"، يقول فيها:
"......
وما بين "الدقي" ومقهى "ريش"
يرتجف قلب العاشق المأخوذ على مدار الصدمة
تجلسين على الرصيف
تكتبين أيامك الملأى بالتوقعات
أي ذكرى لمقاهيك وحلوانك
لمحطات القطارات الأليفة
بنحيبها الذي لا ينقطع
أي عاصفة ستخلع أبواب العالم هذه الليلة؟"
لسنا بصدد قراءة الشاعر، بقدر محاولة الاقتراب من عالمه، ومن خلال رؤية الأقلام النقدية، والتي ورد بعض فقرات منها في مؤخرة الكتاب.
ليس أفضل من مقولة الناقد د.حسام الخطيب يجمل رؤيته النقدية حول أعمال الرحبي يقول:
"ان حالة شعر الرحبي تحول شعور الفرد الموهوب بالنفي عن الكون وتجلياته المختلفة الى تأكيد أن هذا الكون باطل من أساسه، ولا تنفع فيه نظرة فلسفية أو أيديولوجية أو حتى لومة لائم منظمة أو عابرة".
ميدل ايست اونلاين