حاوره: عمر شبانة
يظل سيف الرحبي وفياً لعوالمه التي شكلت قاموس مفرداته ورؤاه وهمومه الفنية والإنسانية، هذا القاموس الذي بات يمتلك خصوصية تميزه وسط تجارب قصيدة النثر العربية، خصوصية يجسدها الحفر المركز في أرض عذراء، والتعمق في تجربة الحفر الى امداء جديدة دائما، في كل مجموعة جديدة، بحثا عن معانٍ ودلالات جديدة للأشياء، للصور وللكلمات، للتجربة المعيوشة والمحلومة، وللشعر أيضا- الشعر في القصيدة، لا الشعر المطلق- حيث حلم من أحلام الشاعر أن يكتب قصيدة "لا تنسف العالم لكنها تزيح قليلا صخرة الحنين.. وحيث لم يعد الشعر قادرا، كما
نراه في مراهقتنا، على تغيير العالم، فلا أقل- إذن من أن يخفف من وطأة الحياة وأعبائها... وأن يمنحنا قوة تحمينا من الانهيارات المجانية والعبثية التي تدهمنا". وإذا لم تكن كتابة القصيدة تمتلك هذه القدرة- على الأقل- فما جدوى الكتابة إذن؟! ما جدوى الشعر؟ هل يكون بلا جدوى، من أجل العبث مثلا؟ لا، ليس بلا جدوى... تقول نصوص وقصائد سيف الرحبي، تقوله في صور شتى، هاجسها بناء رؤية شاملة إلى هذا الكون، تنبثق من وعي شعري في الأساس، وتتكئ على تجربة فردية تحتشد بالرؤى والأفكار وشهوات البوح والكشف والتمرد وروح المغامرة والتجوال.
في تجربة سيف الرحبي، كما في تجارب شعراء آخرين من جوانب معينة، نشهد العلاقة مع المكان الاول في حال الاغتراب عنه، وفي حال "العودة" اليه، ففي المجموعات الشعرية التي أصدرها حتى الآن، ثمة هذا الحضور الكثيف لأماكن الطفولة، كما لأماكن الترحال. في مجموعته "جبال"، يعبر سيف عن ارتطامه بالمكان الأول، كما لو كان يسقط من الترحال الى هوة صخرية ليس فيها من مكان الطفولة و"طفولة المكان" سوى أشباح الماضي وروائح عناصره الهالكة والمندثرة، فالمكان الأول يختفي وراء المكان الجديد، وحتى ان "الديار" تضمحل في عين عاشقها. وكأننا، حين نقرأ نصوص هذه المجموعة نلمس حجم الهوة بين الشاعر العائد بكل ما فيه من حنين الى أشياء الطفولة وبين ما صارت اليه أشياؤه هذه من ظلال، حتى لتنقطع أي لغة للاتصال فتغدو العلاقة مع هذه "الساحرة الولود" وقد قطعتها الكثبان الممتدة والأزمنة المكدسة، وما من وسيلة سوى الهذيان عبر قدرته على فتح أبواب الماضي، أما الكلام العادي فيصبح غير مفهوم.
عن هذه العوالم وعن الشعر ووحشية هذا العالم المعاصر وغيرها نحاور الشاعر سيف الرحبي:
* عوالمك تتوزع على الجبال والطفولة والتجوال في الدول والعواصم. لنتحدث أولاً عن هذا التجوال شعرياً، ماذا عن علاقة التجوال والشعر؟ ما الذي أعطى لقصيدتك، وماذا ربحت أنت نفسياً وروحياً من التجوال؟
التجوال بالمعنى الجغرافي والمكاني استنفد تماماً وما عاد يعني شيئاً، وهذا طبيعي مع تقدم العمر والتجربة. بالنسبة لي بات التجوال الأهم هو الذي قد يحدث في المكان الواحد، أو داخل الروح البشرية، أو بحثاً عن علائق عاطفية، أو تجوال في التأمل والتخيل. وللترحل الآن أبعاد شاسعة وعميقة لن نستغني عنها. أما الترحل الجغرافي فقد يسهم في توليد الإبداع إذا ما اقترن بتجربة روحية. ثم إن الحياة نفسها هي الترحل منذ الولادة حتى الموت وما بينهما. وعلى الكتابة أن تلتقط هذا المسرح الواسع من صراعات وتناقضات تفضي إلى عدم لا ينتهي.
* تشكلت تجربتك في الترحال منذ مجموعتك الأولى حتى التاسعة تقريباً، وكان حضور المكان الأول، أعني مكان الولادة باهتاً، كيف يوظف الشاعر ترحاله وطوافه في كتابة القصيدة؟
هذا هو السؤال، كيف أوظف الترحال ورؤيتي للمكان بأبعاده المختلفة، هذا المكان المسكون والمخترق بالكائنات والشخوص الحاضرة والغائبة، كيف أوظف هذه العناصر توظيفاً إبداعياً في سياقات القصيدة والإبداع عموماً. مكان الولادة الأول كان حاضراً على الدوام في قصيدتي، ولكن بشكل أقل كما ذكرت، ولكنه بدأ يظهر بقوة في مجموعة "الجبال"، وهنا أشير إلى أنني أوظف المكان من خلال استحضار عناصره الخرافية المدهشة. فمع العودة من الترحال بدا لي المكان الأول أشد حضوراً وتوهجاً وضراوة مما كان في الذاكرة، ومن خلال تجلي هذا المكان حاولت قراءته بصورة مختلفة، ليس على نحو نوستالجي كما كان في أثناء غيابي عنه، بل عبر قراءة تأملية، فهو مكان لو يصغي إليه الشاعر لاكتشف أنه مكان ملهم على نحو هائل وأكثر من أي مكان آخر، ومن فرط غرائبيته وما يحتوي من عناصر مدهشة حد الترويع. ففيه من التنوع الجغرافي ما يجمع الصحراء والبحر والجبل، ما جعلني أحاول قراءته من جديد، وأستنطقه وجودياً، وأطرح عليه أسئلتي الوجودية حول العالم والحياة والموت والغياب والحب. هذا المكان الذي يبدو على قدر كبير من القسوة، هذه القسوة تنطوي على حنان بالغ.
* الأمكنة التي تجولت فيها، من دمشق إلى القاهرة وبيروت والمدن الأوروبية، ما الذي منحته للقصيدة، وكيف استطاع الشعر التعامل معها؟ كيف أسهمت في صوغ تجربتك؟
لا شك أن الشاعر والكاتب يكتب بخلفية معينة، ولا يكتب تهويمات من الفراغ، أو تهويمات لغوية، بل يكتب من واقع تجربته فيحولها إلى نص، ولهذا فلا شك أن تجارب الشاعر الحياتية تؤثر في صوغ تجربته الإبداعية ونصوصه. وفي نصوصي تجد الأمكنة حاضرة بمستويات مختلفة، بعضها مباشر وبعضها تجد ظلاله فقط. لكن في الشكل الأساسي يجيء المكان ضرورياً في بناء قصيدتي.
* هل ثمة مكان أشد تأثيراً فيك وفي شعرك من الآخر؟
يمكن القول إنني الآن اشد تأثراً بالمكان العماني، وهو الأقدر على تفجير الحالة الشعرية لدي. فهذا المكان المقذوف في العراء الميتافيزيقي للعالم هو معين للصور والأخيلة لا ينضب. واعتقد أن المتأمل فيه يجد وقوداً لتجارب شعرية لا تنتهي. بطبيعة الحال هناك أمكنة أخرى تستفز الكتابة كالقاهرة وبيروت. وأخيراً اكتشفت المكان الأمريكي اللاتيني، في الطرف الآخر من عالمنا. فقد اكتشفت في كولومبيا التي دعيت إلى مهرجان للشعر فيها كم هي بلاد ساحرة، خصبة وشديدة الخضرة وشاسعة ومدهشة الجمال، وطبيعتها باهرة، ومفتوحة على المحيطين الهادي والأطلسي، وهنا بدأت أقارنها مع بلادنا المفتوحة على محيطين، ولكن لا مجال للمقارنة. هناك مفارقات وتباينات تحفز المخيلة وتغري بالكتابة. هناك وجدت ما يمكن أن أسميه الضربة الغرائبية للمكان، ثمة ما هو غير اعتيادي وغير مألوف.
* بعد ترحال طويل عدت إلى مسقط الرأس وأرض الحلم الأول، طفولتك فجرت لديك حالة شعرية قوية، استعادة هذه الطفولة كيف تمت شعرياً؟
أنا أرى أن الكتابة عن مكان الطفولة هي كتابة عن تلك الطفولة. هذا المكان الذي احتوى طفولتي هو جزء من هذه الطفولة. ونحن كلما تقدم بنا العمر نغدو مسكونين أكثر بالعودة إلى طفولتنا وعوالمها الثرية التلقائية. هذا قدر الإنسان. ومادمنا نركض باتجاه الموت فلا بد لنا من العودة للطفولة. قدرنا ان نظل نصارع بين الموت والطفولة. وإذا كانت الطفولة تنطوي على براءة غاربة وهاربة، فالموت يمتلك براءته الغامضة الخاصة. حتى الموت فيه براءة ما. براءة تخليصنا من قذارة هذا العالم البشع. نحن بين براءتين ضاريتين وجميلتين.
* لكن الطفولة ملهمة للشعر، بم يرتبط ذلك عندك، بطفولتك كفرد، أم بطفولة العالم وبراءة الحياة الأولى؟ فقد تكون طفولتنا شقية ونحن إليها، لماذا في اعتقادك؟
أتصور أن الشعر يرتبط بلحظتي الطفولة اللتين ذكرت. ومع أن طفولتنا كانت قاسية، لكن ثمة حنين لتلك الطفولة التي تكونت في قرى نائية وفقيرة، يظل الحنين إليها لأننا عشناها ببراءتنا، وأنا أرى إليها الآن كما لو كانت الفردوس المفقود، كانت العلاقات بين الناس شديدة الحميمية، والعلاقة بيننا وبين الطبيعة كانت حميمة أيضاً. كانت هناك قيم إنسانية عظيمة. هذه العناصر التي تشدنا لطفولتنا انعدمت اليوم وانحدرت إلى نقيضها. الآن العالم كله مصنع، معلب ومعولم بالمعنى البذيء للكلمة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يبدو لي أن الحنين إلى الطفولة هو حنين إلى مرحلة بدايات البشرية، فأنا مسكون بإشراقات طفولة الكون وبدء التكوين، طفولة الحياة الأولى الفطرية، الكائن البري، الحياة المحتشدة بالإشراقات الروحانية، هذا في ظل ما يجري لعالمنا اليوم. فالحنين عندي بالبعدين الشخصي والجماعي.
* الجبل من الأمكنة التي تحضر في شعرك ضمن رؤى واقعية حيناً وحلمية حيناً آخر. ما الأبعاد التي ينطوي عليها هذا الحضور؟
أنا ولدت في قرية "سرور"، وهي قرية تقع بين الجبال مثل بقية قرى الداخل العماني، حيث واحات النخيل بين الجبال العالية جداً والجرداء غالباً، في أوقات المطر ينبت فيها العشب وشيء من الخضرة سرعان ما تضمحل. هذه الجبال الصماء الملغزة بصمت طفولتي، أتذكر هنا مقولة لأوسكار وايلد حين كتب مذكراته عن الجزائر قال ما معناه إن التأمل في الرمل والنخيل يغنيني عن قراءة كتب الفلسفة. هذا الجبل كان واحداً من الملهمين لأسئلتي الأولى.
* كيف تنظر اليوم إلى منجزك الشعري، ما تحقق منه، هل قدم لك الشعر عزاء؟
هو يقدم عزاء ما للروح، في ظل حياة كحياتنا لم يكن ثمة بديل عن الشعر، بطبيعة الحال شكلت الكتابة تجربة روحية، ومثل كل المبدعين أظل أرى ان ما كتبته ليس كافياً ولا بد دائماً من الجديد والمزيد، فثمة طموح لكتابة أشد عمقاً تعبر عن احتدام هذا الوجود. ولو كان ثمة بدائل عن الكتابة لما كانت الكتابة.
* إذا كانت الكتابة دخولاً إلى عتمات الروح والجسد والعالم، كيف يدخل سيف هذه العتمات بالشعر، كيف يفتح مغاليقها شعرياً؟
هذه العتمات تختلف عن العتمات والظلمات المتداولة. عتمات الداخل هي ما تحاول الكتابة استقصاءها والإبحار في أغوارها العميقة والبعيدة. بالنسبة لي أنا دائماً معبأ بأسئلة الطفولة والموت والحياة، والكتابة في النهاية لا يجوز أن تبقى طافية على السطح، سطح الحياة والوجود والشعارات، ولا بد لها من الغوص في الظلمة العميقة للنفس البشرية كي تطرح على الكائن الأسئلة الحارة في أقصى لحظات التوتر والاحتدام الوجودي.
* لندخل في ما يجري الآن في العالم من همجية ووحشية وقتل، كيف يرى الشاعر هذا العالم، وكيف يواجهه شعرياً؟
ما يجري يدفع إلى المزيد من التعمق في النفس البشرية، إذ كيف نفسر كل هذه الوحشية التي تسود العالم بعد كل هذا التقدم التكنولوجي والمعرفي الطويل؟ من هنا دخل الأدب والفلسفة والفكر إلى النفس البشرية وساءلت عتماتها، وما اكتفت بسطح البشر والمعطيات المباشرة، بل حاولت استقصاء ما تنطوي عليه هذه النفس من أسرار عميقة. كل هذا الفعل الوحشي والبربري الدموي الذي يسود العالم اليوم هو في عباءة الحضارة كما قال أحد الفلاسفة، فكل حضارة تنطوي في داخلها على مثل هذا الوحش. والبربرية اليوم تخجل مما تفعله الحضارة، فقد باتت حضارة عصرنا أكثر همجية من البربرية نفسها. والكتابة عموماً تحاول أن تكشف ما يجري وأن تكون شاهداً على المجزرة. لكنها لا تستطيع أن تغير شيئاً مما يجري. هي تفضح الكذب والزيف، والشهادة تبقى للتاريخ.
* أي انه لا يوجد دور مباشر للمثقف في ما يجري؟
مقولة دور المثقف مقولة نبيلة وطَموح، لكن دور الكاتب والمثقف لا يتجاوز دور الشاهد على الجلاد وعلى المجزرة. والمشكلة أن كثيراً من المبدعين والمثقفين باتوا منخرطين في اللعبة الهمجية. فما عاد هناك مثقفون من أصحاب المواقف التي تقود المواجهة والتغيير. وأنا أرى أن الثقافة طوال التاريخ البشري لم تقم بمواجهة الخراب. لم تواجه بمفردها، بل ربما تواجه ضمن نسيج قوى اجتماعية أخرى، لكن ليس بمفردها. فلو أخذنا الثورة الفرنسية، نرى دوراً مهماً للفكر والثقافة عموماً، لكن كان هذا الدور ضمن تركيبة سياسية طبقية. فمن الوهم أن نعطي للثقافة دوراً أكبر مما تستطيع. وفي العصور القديمة كانت للفيلسوف مكانة مهمة ودور فاعل، ولكن كثيراً ما كان هذا الدور وتلك المكانة ينتهيان بإشارة من الحاكم والقوى السياسية المهيمنة. كان ذلك في عصور أعتبرها صحية نسبياً، فما بالك بالعصر الراهن المحكوم بالعولمة البربرية والهمجية والوحشية. عصر الانحطاط الحديث.
* ولكن حتى الستينات والسبعينات كان هناك حضور ودور للمثقف والمبدع، أين دور الشاعر العربي اليوم؟
كل شيء يتراجع للخلف ونحو المزيد من الانحطاط. ومشروع التغيير الذي كان مطروحاً في الستينات والسبعينات ارتطم بجدار صلب وجرى تدميره. والكتابة التي ارتبطت بذلك المشروع جرى قمعها وإقصاؤها وانهارت، والكثير من الشعراء ذهبوا إلى ما هو أبعد من شعار التغيير الذي كان مطروحاً. لكن هذا الانحطاط لا يمنع الكتابة العميقة والحقيقية من إرساء لبنة في بناء سيظهر فعله عبر الزمن. كل ما أتمناه أنا الآن أن تبقي الكتابة على ضميرها النقي، وألا يتلوث الكتاب بلوثة العصر الوحشية. إلى هذا الحد تراجع حلمنا بالتغيير. إلى حد ألا ننحدر مع من ينحدرون ويسقطون. وأن نحاول أن نكون شهوداً حقيقيين وصادقين على ما يجري.
منذ الثمانينات بدأت حملة خروج الشعراء مما يدعونه بشعر الشعارات إلى ما دعوه قصيدة التفاصيل والجماليات والدخول إلى الذات. فما بين قصيدة الشعار وقصيدة الجماليات اندفع الكثيرون إلى قصيدة الخواء والهروب من القضايا.
- هذا صحيح، كان المفروض أن نخرج من قصيدة الشعار إلى ما هو أعمق. فالشعارات سطحية ولا تلائم الشعر. فالضرورة تفرض الدخول في مناطق جديدة ومعان لم يطرقها الشعر من قبل. أعتقد أن الكتابة سقطت في منطق خاطئ. سقطت في التنظير الذي لا يجوز للكاتب أن يخضع له. الكاتب يكتب بحدسه وتلقائيته واستشرافه للحدث وللحياة. لذلك فالشاعر في النهاية يجب أن يخرج من الشعار ومن السياسة المباشرة، لكن لا يجوز أن يخرج من التاريخ ومن الحياة ومن الهم الجماعي، وأتصور أن عليه أن يتورط أكثر في هذه الأمور ولكن بما يتطلبه الشعر. فالمطلوب من المبدع عموماً أن يكون في المنطقة التي تجمع الحياة والفن معاً. فلا معنى أن يهرب المبدع من الواقع سوى الهروب ومغادرة منطقة الإبداع والثقافة. هذا وعي سطحي للثقافة والإبداع. ومثلما لا أفهم التورط في السياسة المباشرة، فأنا لا أفهم الذاتية المفرطة والعزلة عن الواقع وقضايا البشر وهمومهم والانسلاخ من التاريخ. فهذه غير ممكنة حتى للإنسان العادي فما بالك بالمبدع الأشد حساسية ورهافة ووعياً.
* بين ما سمي شعارية السبعينات وما وصلنا إليه من خواء وهشاشة، كيف ترى المقارنة؟
أتفق معك على قراءة هذا المشهد الراهن. لكن الشعر موجود في مناطق أخرى. ليس في منطقة ردة الفعل على مرحلة الشعار، هذه ردة فعل سخيفة. ثمة شعر حقيقي وليس مجرد خزعبلات لغوية كما نرى في الكثير من التجارب الجديدة التي تريد الخروج من التاريخ. الشعر بمعناه التدميري والنقضي يفعل فعله من فرط انخراطه في التاريخ وفي هموم الإنسان وإشكالياته، وكردة فعل صاعقة ويقظة حقيقية ورفض لما يحدث من انحطاط.
* ماذا عن رؤيتك للشعر الجديد اليوم، كيف ترى هذا المشهد الذي تختلط في المعايير؟
الشعر الجديد هو الجيد بالنسبة لي، وليس ما يكتب اليوم. فلا صرامة في وضع زمن للشعر والأجيال الشعرية. هناك تباينات وتيارات ومواهب. ضمن الفترة الزمنية الواحدة تجد الرديء والمتحذلق والجيد. ثمة مناطق متعددة للشعر والشعراء. أحياناً النقد يتناول مرحلة معينة أو ظاهرة معينة، ليقرأها ضمن رؤية معينة، وهذا من حقه. ولكن لا يمكن وضع شعراء جيل في سلة واحدة. وفي هذه المرحلة ثمة شعراء يشكلون مشهداً شعرياً لم يتبلور بعد، ولا يزال مفتوحاً على الاحتمالات.
* والمشهد الشعري الخليجي عموماً والعماني خصوصاً؟
دعني أتحدث عن الشعر في عمان. هناك بيئة شعرية تنشأ بصورة جيدة. وليس الشعر وحده، بل المشهد الثقافي عموماً. ثمة أصوات ومجموعات شعرية تستمد خصوصيتها من المكان والبيئة المحلية، بقدر ما هي متواصلة مع بعدها العربي والعالمي ومع التجارب الشعرية والإبداعية في كل مكان. ثمة تجارب تحفر مجراها بقوة، لكنها تحتاج لوقت كي تنضج. إلا أن قوتها في قدرتها على البحث عن الجديد. لكن المشكلة في المؤسسات التي تحارب هذه التجارب الجديدة أو لا تقدم لها الدعم والاحتضان. هناك حراك ثقافي وتجارب تبحث عن ذاتها. وأتمنى على المؤسسات الثقافية الرسمية الاهتمام بهذه المواهب والتجارب واحتضانها. فالارتكان للنتاج التقليدي الذي يقدمه الكتبة تقف عائقاً أمام التطور وتقتل الحراك الثقافي. خصوصاً أن لعمان رصيدها الثقافي العريق وفيها آلاف المخطوطات والبحوث المعرفية منذ العهد الكلاسيكي. ولا بد من امتداد لتلك الحركة العريقة، بما يشكل تلاحماً مع النتاج الثقافي في دول الخليج والجزيرة والثقافة العربية عموماً.
الخليج الثقافي
2004-08-16