كما يقول أحمد دحبور هو عن نفسه (تجربتي الضوء والظّل) ولم ينسحر بالضوء ولم يندحر بالظّل؟ خصوصاً أنه قد قدّم تجربته للقارئ بشكل مبكر، لقد أصدر مجموعته الأولى (الضواري وعيون الأطفال) العام 1964 وهو في الثامنة عشرة من عمره. بدأت تجربته بالتطوّر منذ أن صار يسأل العالم عن فلسطين بعد أن كان يسأل فلسطين عن العالم.
ويمكن الإشارة إلى أن آخر ما صدر للشاعر ديوانه الجديد (كشيء لا لزوم له)، وكنّا قد قرأنا له آخر ما نشره من شعر، في مجلة الكرمل، وهي من ضمن القصائد التي ستصدر في ديوان قادم بعنوان (موت العسل)، وهذه قصائد تؤكد أن شعر دحبور لا يزال يقدّم تجليات زاده الثقافي وألوان أسئلته التي لا تنتهي منذ أن كانت مدينة حمص السورية مكان إقامته بعد نكبة 48، المدينة التي تقاسم حيفا عشقه والتي أهدى إليها وإلى مخيم الفلسطينيين فيها ديوانه (كسور عشرية) الصادر العام 1991. في حمص التقينا وكان الحوار الآتي:
* كأن للشاعر الفلسطيني قدراً يختلف عن بقية الشعراء العرب، إلى أي مدى ترى أنه ملزم بهذا القدر ولا حق له في الخروج من أسره؟
منذ ربع قرن كتبت وأراني أعيد إنتاج تلك الكتابة التي مفادها أن الشعر الفلسطيني يحضر إلى المشهد مسبوقاً بسؤال ويتحرك متبوعاً بالأسئلة ثم لا تلبث أن تشيّعه الأسئلة. هكذا تصبح الجنسية لصيقة بأيديولوجيا قسرية. فأن تكون فلسطينياً يعني حسب الذوق السائد أن على شعرك تقديم أوراق اعتماده إلى المناسبة حتى كأنك مراسل ميداني أكثر منك شاعرا.
* فلا تزال الأسئلة تحاصر الشاعر الفلسطيني وتشيعه.. ماذا كتبت عن البندقية، وماذا كتبت عن الحجارة، ماذا كتبت عن أوسلو؟ وأخيراً وهذه ليست نكتة ماذا كتبت عن الرجّوب ودحلان؟
بطبيعة الحال هناك المتلقي المثقف الذي يضع اللحظة الفلسطينية في سياقها العربي الحضاري وضمن الأسئلة التي تؤرقنا بشراً من العالم الثالث يعيشون تحديات العولمة وموقع الأمة منها، إلاّ أن الشاعر يظلّ شيخ طريقته، ومن مزايا الشاعر أنه عدو الامتثال ولا اعتراف له بالطمأنينة. وعليه فمن الممكن وأكاد أقول من الطبيعي أن يكتب الشاعر الفلسطيني قصائد مستقاة من صميم الجرح المباشر كما أن من حقه أن يحب ويسافر ويتأمل ويجازف بأفكار تلامس المعصية. الشاعر هو الإنسان بحساسية خاصة، ويظل الاحتكام أولاً وأخيراً للنص، الذي يجب أن يكون متعدداً ومختلفاً وإلاّ لأصبحنا شعراء قصيدة واحدة.
أظن أنه منذ أن اكتشف أول مجتمع أول منبر ومشكلة العلاقة بين الشاعر والمتلقي قائمة، الشاعر مشدود إلى هواجسه ومسببات إلهامه والجمهور يطالب بحصته من الشاعر، مَن الذي يروض الآخر ويجرّه إلى مواقعه؟ ذلك هو السؤال الكبير. ويحضرني في هذا المجال مثال ذهبي، فعندما اصطدم محمود درويش بالجمهور العربي أول خروجه من الأرض المحتلة كان الجمهور يطالبه في كل العواصم بقصيدة (سجّل أنا عربي) وكان درويش يرفض بعصبية، مجاهداً لتقديم صوته الجديد حتى استقر له الأمر وأصبح ذلك الشاعر الكبير الذي يقرر ماذا يقول وكيف يقول. وقد فاجأ الجمهور ذات يوم بأن قرأ (سجّل أنا عربي) من دون أن يطلبها أحد منه. ما أريد أن أقوله هو أن الشاعر لا يمكن أن يستسلم وأن يمتثل إلاّ إذا وافق على الانسحاب من جمهورية الشعر، ولكن عندما يحدث أن ينسجم صوته مع الذوق السائد فإنه يعرف كيف يدرّب حنجرته ومزاجه وإيقاعه الداخلي بما يكفي لتأكيد الاختلاف حتى من خلال الانسجام، لذلك لا وصفة جاهزة لديه إلاّ ما يستطيع أن يطالب به نفسه من صدق وانسجام وعناد.
ارتكاب المعصية
* لم أقصد المتلقي الشفوي للشعر فقط ، إذ ثمة بين من يتعاطى الشعر قراءة أيضاً من له الموقف ذاته، وكيف تجد سبيل تعديل هذا الموقف؟
إذا كان المتلقي هو المستمع كما فهمت من جوابي فلا مانع لدي بشرط أن تضيف أن لهذا المستمع سفراء على الورق أي ان هناك أسطولاً من النقاد الذين ينافحون عن الذوق السائد ويضغطون جسم الشعر على مقاس سرير بروكست. هل نتذكر معركة الشعر الحديث عندما كان المرحوم عباس محمود العقاد يحيل شعر أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور إلى لجنة النثر للاختصاص أو هل نتذكر كائناً مثل صالح جودت لم يتردد في اتهام الشعر الحديث بالعمالة للاستعمار والشيوعية معاً بهدف محاربة لغة القرآن الكريم. لقد كانت هذه الآراء مكتوبة بل كانت تتميز بقوة ضاغطة قهرية فهي تسهم في صنع وعي المتلقي المستمع وتغذي هذا الوعي باتجاه الرّدة. فإذا عدنا إلى سؤالك الأول نرى أن هذا الجمهور أكان مستمعاً أم قارئاً معني بأخذ ما يريد من الشعر. والسؤال هو هل يقدم الشاعر قصيدته كخدمة منزلية ترضي حاجات الجمهور على مبدأ (ما يطلبه المستمعون) أم يغامر بارتكاب المعصية وتقديم المختلف والصادم وأحياناً المنسجم؟ لمَ لا، فأنا مثلاً لست معنياً بتشويه قصيدتي تحت دعوة القطيعة ولكنني أقدم صوتي من حيث أنا قادم فقد يصدم وقد ينسجم ولكنه دائماً صوتي.
* الكمّ الهائل من القصائد التي كتبت للانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، أو لنقل للمقاومة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، هي في معظمها بحسب رأي بعض النقاد أقرب ما تكون تمجيداً للموت وليس للحياة. وهي ليست إلا من ذلك السائد. في رأيك هل يكمن ضعفها في أدوات (الشعراء) الذين كتبوها أم في مفهومهم للشعر، أم في شيء آخر؟
سؤالك الجاد هذا يحيل إلى الفكرة التي حكمت سؤالك الأول والتي أظنها قائمة على افتراض هيولى موحدة لجسم الشعر الفلسطيني والأكثر عدلاً كما أظن أن نأخذ هذا الشعر بوصفه قَسمة من قَسَمات الشعر العربي بشكل عام. فهو مختلف مؤتلف في آن واحد. هناك قواسم مشتركة يضمنها ضاغط خارجي سمّه الاحتلال.. الشتات.. الغربة والاغتراب.. المقاومة.. العلاقة اليومية مع الموت. وهذه العناصر تؤثث بيتاً يتّسع للشعراء الفلسطينيين ومن هم في حكمهم، لكن ما لا يجوز أن يغيب عن وعينا هو أن هؤلاء الشعراء أفراد، والشاعر حالة فردية. صحيح أن في هذه الفردية كثيرا من همّ الجماعة ولكن ما لم يعبّر عنها كل شاعر بحساسيته الخاصة فإن محذور التماثل والنمطية واقع لا محالة. ليس معنى هذا أن هذا السؤال الجاد آتٍ من فراغ، فمن الممكن ملاحظة أن الإيقاع الشرقي لا العربي الفلسطيني وحده يجامل الموت ويسعى إلى تجميله أملاً بفردوس أو استقلال أو حرية حسب حالة صاحب الخطاب. وما لم يكن الشاعر ناقداً ذاتياً فإنه لن يستطيع تنقية صوته ورسالته ورؤياه من شوائب الموروث الشرقي. نعم هناك سيل من القصائد التي تؤنسن الحجر وتمجّد الموت وتضع الشهيد في منطقة ملتبسة بين المنتحر والنبي، ولكن طزاجة الحياة من شأنها أن تقول شيئاً آخر وعلى البشر (والشعراء بشر بطبيعة الحال) أن يجيدوا الإصغاء إلى صوت الحياة. إلاّ أنني إذا كان لي أن أضيف سبباً آخر إلى انصراف العين المثقفة عن كثير من الشعر الذي تشير إليه فإنني أرى هذا السبب في التقليدية الجديدة التي تغري الشعراء بالسهولة مع أن الشعر عدو السهولة والتساهل، فلا أسهل من أن تمجّد شهيداً ومن أن تشبّه حجارة الأطفال بحجارة من سجّيل وقد تكون النية طيبة، ولكن ماذا عن الشعر بحد ذاته؟ وكيف أكون شاعراً وكل ما أقوله هو ما يقوله كل الناس؟
هناك من يزيح الستارة
* هل تشعر بأن تجربتك الشعرية ظلمت نقدياً ولم تأخذ حقها أو مداها لدى المتلقين أيضا؟
دائماً كان الشاعر أو المبدع بشكل عام يشكو من أنه مجهول، بمعنى أن النقد لم يسبر أعماقه بما يكفي. وأذكر أن سارتر كان يقول (إذا حُكم عليّ بأن أعيش مجهولاً فإن عزائي بأنني سأموت مشهورا). وباستمرار يهجس المبدع بأن هناك من يزيح الستارة عن جوانب من مشهده الداخلي، هذا بشكل عام. أمّا على المستوى الذاتي فأنا من جيل نشر نصوصه في مجلة الآداب البيروتية التي كانت تتميز بباب فريد من نوعه، عنوانه (قرأت العدد الماضي)، حيث كان يتولى النقاد دراسة القصائد، وتتيح المجلة للشاعر أن يرد على الناقد إذا رغب. وقد أفدت من هذه التجربة بغير شك، بل ربما أرسلني النقاد في بداية تجربتي إلى اختيارات لم تكن دقيقة تماما. وفي مجموعتي حكاية الولد الفلسطيني كتب الأستاذ ناجي علوش مقدمة تبشر بما سمّاه الواقعية الثورية، والأمر الذي أثلج صدري يومها أنه اعتبرني أحد رموزها. ولكنني لم ألبث أن تمردت على هذا التيار وعلى كل تيار يضع الشعر في قفص مهما كانت أضلاع هذا القفص مذهبة ومغرية.
ولا أنكر أنه مرّ عليّ حينٌ من الدهر تدللت فيه على أيدي طراز معين من النقاد وهناك رسائل جامعية وفوق جامعية في شعري. ولكنني من جهة ثانية لا أنكر أن السنوات العشر التي عشتها في تونس (1984 1994) كنت بعيداً فيها عن المشهد النقدي بمعناه الصحافي المتداول إلى حدٍّ يشبه النسيان، وهذا أمر يتصل بسؤال الشهرة والذيوع والانسحاب أو النسيان. لقد عشت تجربتين: الضوء والظل، وأستطيع أن أسجّل لنفسي أنني أزعم على الأقل أنني لم أنسحر بالضوء ولم أندحر بالظل، بل كنت أطوّر تجربتي حسب رؤياي وإمكاناتي. ويظل الجمهور الغامض يمدّك بمفاجآت إنسانية مفرحة، هذا ما لاحظته على الأقل في وطني الثاني سوريا، وعلاقتي بالناس حتى بعد غياب ربع قرن.
* ما هي المجموعة الشعرية التي أصدرتها وتعتبرها محطة مفصلية على صعيد تجربتك الشعرية، ولماذا؟ وما الذي تنهجس به الآن في إبداع قصيدتك أكثر من غيره من بقية مكونات القصيدة؟
ربما كان من صفات الشعر غير المختلف عليها أنه متوالية أسئلة فقد كفّ الشعر منذ أن اتصل بالحضارة عن أن يكون وصفاً وتعليقاً على الأشياء. فهو استبطان وتأمل محمولان على حساسية تميّز كل شاعر عن الآخر. وفي تجربتي المتواضعة فتحت عيني على الشعر بما هو أكبر من وعيي وتنطّعت لأسئلة أكبر مني فكانت مجموعتي البكر الطريفة (الضواري وعيون الأطفال) التي صدرت وأنا في الثامنة عشرة من عمري، ولكن ما إن انتبهت إلى هواء المخيم الذي يحيط بي، وإلى المحنة الفلسطينية التي تجرح العرب عموماً فما بالك بالمكتوي بها مباشرة، حتى بدأت أحاول أن أبحث عن العدل في العالم من خلال السؤال الفلسطيني. ولكن لأن الشعر مرتبط بالقلق والتطوّر معاً وصلت إلى مرحلة صرت فيها أسأل العالم عن فلسطين بعد أن كنت أسأل فلسطين عن العالم. ففي مجموعة (واحد وعشرون بحرا) الصادرة العام 1982 لن تجد فيها كلمة فلسطين مرة واحدة، وليس معنى هذا أنني تخليت عنها لا سمح الله ولكن مفردات العالم تغيّرت حولي فألزمتني باكتشاف خطاب جديد، خطاب يتّسع للنبرة الفردية والتقاط الجزئيات الصغيرة، الانتباه إلى البيت والأصدقاء، وشوارع المدن المختلفة، ثمّ كان لا بد لي من انتقال آخر بعد عدد من الخيبات الوجودية والعامة. فبنوع من النوستالجيا أيقظت قصص طفولتي في مجموعة (كسور عشرية) العام 1991، وعندما أتيح لي أن أرى جزءاً من وطني لم يكن ذلك عزاءً بقدر ما كان مفجراً لشعور طاغٍ بالخيبة وانفتحت أسئلتي على جيل الذبيحة، جيلي الذي رأى النور بعد الحرب العالمية الثانية وشهد الهزائم العربية المتوالية فكان أمامي أن أحاكم هذه التجربة وأحتكم إليها، وهكذا أرى أن شعري مرآة لسيرتي الجوانية. سأعترف بأن المرآة كانت تغبّش أحياناً ولكنني أنهل من هذه التجربة ومن هذه السيرة وفي هذا جواب عن سؤال تقليدي يتعرض له الشعراء الفلسطينيون حول الالتزام.
وأستطيع أن أصارحك بأنني مشغول كثيراً هذه الأيام باللصيقة التي يضعها ناقد متسرع على كتابي، هل أنا ملتزم أم غير ملتزم؟ إنني أجيب بطريقة مختلفة: أنا أكتب عن نفسي ونفسي ملأى بفلسطين وبهويتي العربية وبمواطنتي في هذا العالم.
وصلتها ولم أعد إليها
* كانت حيفا حلماً وتشاهدها في خيالك كما تشاء، ما الذي حدث على صعيد الكتابة معك بعد أن شاهدتها، وهل شاهدتها كما كنت تتخيلها، وكيف كتبت عنها بعد أن تجسدّت أمامك؟
كانت حيفا ملازمة لي ولا تزال منذ أن رأت عيناي النور يوم الأحد 21 نيسان العام 1946 في أحد أعرق أحياء هذه المدينة وأقصد وادي النسناس لأنني يوم الأربعاء 21 نيسان العام 1948 لم اسعد بشمعتين تشعلهما أمّي بل أخذنا مسار النكبة إلى فصل المنفى حيث عشت في إحدى أحب المدن على قلبي عشرين عاماً في مدينة ديك الجن وعبد الباسط الصوفي وموريس قبق. ففي سنوات النكبة صنعت لي أمّي من حيفا يوتوبيا نادرة المثال، فهي المدينة ذات الجبل الذي يمشي والثلج الذي يتحوّل في ساحة (الجُرِينة) إلى آيس كريم، وإلى شارع (الهضار) المقتطع من الجنة ودائماً دائماً كنت أفتقد الأشياء البسيطة التي يحتاج إليها أي طفل فكان الجواب المعزّي هو أنك ستجد ذلك بصورة أجمل في حيفا. وحين أُتيح لي في 21 نيسان 1996 أن أقف أمام الفرن الذي كان لأهلي في وادي النسناس والذي يحرس ما بقي من البيت المهجور، نشأت بين عظامي وحجارة ذلك البيت علاقة فورية. وبنوع من الفنتازيا وجدتني أقول لنفسي إن أمّي لم تكن تتمتع بخيال شاعري بقدر ما هي واقعية اشتراكية، فحيفا هي بهذا الجمال الأسطوري فوق الواقعي الذي كانت تبسطه أمّي على مدى نظري. ولكن الفصل التراجيدي لم ينته بعد، ففي آخر النهار يجب أن تنتهي الزيارة وستبقى حيفا في الأسر وأنا سأعود إلى غزة إلى الجزء المتاح لي من الوطن الأسير. ووجدتني أنهي إحدى قصائدي بالقول:
(حسّرتها عليّ أم يا حسّرتي عليها / وصلتُها ولم أعد إليها.).
* تعمل وكيلا عاما لوزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية، ومن المعروف أن هذه الوزارة جاءت بدلاً من دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية التي كان دورها إعلاميا تبشيريا محضا. ما هي المهام التي تقوم بها الوزارة؟ هل ثمة مشروع ثقافي تعمل على تنفيذه؟ وهل ثمة تعاون فعّال بين وزارتكم ووزارات الثقافة في الأقطار العربية، رغم تكلّس أداء معظمها؟
حتى ننصف دائرة الثقافة الفلسطينية في منظمة التحرير الفلسطينية نتذكّر أنها كانت تقوم بمهام وزارة الثقافة، كان هناك المسرح الوطني الفلسطيني، فرقة العاشقين، الفرقة الفلكلورية، الطباعة، وحتى محاولات سينمائية. أمّا وزارة الثقافة التي تأسست مع قيام السلطة الفلسطينية فقد كان أمامها سؤال كبير: هل مهمتها أن تنتج الثقافة أم توفِّر الأسباب الصحيّة والصحيحة للمجتمع المدني حتى ينتج هذه الثقافة؟ ولا تظن أن هذا سؤال سهل لأن تصدي وزارة الثقافة لإنتاج الثقافة يعني أنها تنوب عن مجمل المثقفين لتلك المهمة، ولكن من جهة ثانية يظلّ الاكتفاء بدعم الثقافة شكلاً من أشكال الانسحاب والتّهرّب. فكان على الوزارة أن توائم بين الحالتين إلاّ أن هذا التنظير إن كان جميلاً أم معقولاً أم لم يكن، يظلّ محكوماً بالقوة الإجرائية القادرة على التنفيذ، ومع الأسف لا بد من الاعتراف برمزية وجود هذه الوزارة التي يخنقها ضعف الميزانية. وهذا لا يعني أننا لم نطبع كتباً ولم ندعم مسرحيات ولم نتعاون مع المجتمع المدني في الحراك الثقافي وإقامة الأسابيع السينمائية فضلاً عن إقامة معرض للكتاب، يقام سنوياً مرة في الضفة وأخرى في القطاع. ولكن ما هو مطلوب منّا أكبر بكثير جداً مما أنجزناه حتى الآن.
أمّا عن التعاون مع وزارات الثقافة العربية فعنوانه اللجنة الدائمة للثقافة العربية الثابت للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفي هذه اللجنة تحتل فلسطين موقع المقرر الدائم للمكتب وقد شُرفت بهذه المهمة التي ما كان لنا أن نأخذها بشكل دائم لولا العطف العربي الجمعي على فلسطين. ففلسطين وحدها تتمتع بموقع دائم بمكتب اللجنة الذي يتغيّر كل سنتين، ولم يحصل أن خذلتنا أية دولة عربية عندما كنا نطلب منها أي نوع من المساعدة أو المشاركة، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها.
المعادلة الخاصة بك
* أزعم أن عملك هذا أساء إلى حضورك كشاعر، لأنه بشكل أو بآخر حرمك من المشاركة في مهرجانات عربية للشعر، لأنك في الأصل لا تدعى إليها، وعسى أن يكون زعمي خطأً. فماذا تقول؟
لم توجد مثل هذه العلاقة العكسية بين الوظيفة والدعوات. تلقيت في العام الماضي دعوة للمشاركة في معرض الكتاب في القاهرة، ومثلها من الشارقة، وأخرى للمشاركة في مهرجان جرش. وفي سوريا هنا أبلغني الأستاذ علي القيم في آخر لقاء لنا أنني مرحب بي في مهرجان المحبة الذي عقد مؤخرا. ولكن إذا حدث أنه أُقيمت مهرجانات ولم تتم دعوتي إليها، وهذا صحيح بالتأكيد، فهو يحدث مع كل الشعراء، إذ ليس من المعقول أن نسكن الطائرات نتنقل من مهرجان إلى آخر. أحياناً تأتي الدعوة وأحياناً لا تأتي، وأحياناً نلبي وأحياناً لا نستطيع. ولكنك لو حوّلت السؤال إلى إبداء نوع من القلق على حيوية الإبداع الثقافي والتخوّف من ضغط العمل الوظيفي فإنني أشاركك هذا القلق، ولكنني أنطلق من مسلمة أنه لا يوجد إنسان يعمل شاعرا، فلا بد لك من وظيفة ما وعليك أن تجد المعادلة الخاصة بك التي تجمع العملية الثقافية والقيام بالواجب المطلوب منك.
* كنت من الأسماء ذات الحضور الإبداعي في حقل الشعر في سوريا، وتربطك علاقات صداقة مع معظم المبدعين فيها. كيف تتواصل إبداعياً معهم بعد أن عدت إلى غزة؟
في زمن ثورة الاتصالات لم تنقطع هذه الصلة بيني وبين أصدقاء عمري نزيه أبو عفش وممدوح عدوان وغيرهما، وحتى لا أسهو عن اسم ما أحيي جميع أصدقائي من خلال هذا الحوار، الذين كانوا ولا يزالون حاضرين معي بكل الحب، وكنّا نلتقي في المهرجانات ونتواصل. ومن الطبيعي أن أجد بيوتاً لي كثيرة في دمشق أو حمص منذ لحظة وصولي إلى سوريا. ومن الطبيعي أيضاً أنني أتابع ما يكتبون سواء من خلال المجلات أو من خلال إصداراتهم.
* بعد أكثر من محطة في عدة مدن عربية، هل تفكر بكتابة سيرة ذاتية، أم أنك لا تزال تترك ما هو هام منها أن يندغم بين خيوط قصائدك؟
لا أظن أنه يوجد شاعر في الدنيا لم يفكر يوماً في كتابة رواية تتضمن سيرته الذاتية أو جوانب منها أو يكتب سيرته الذاتية مباشرة، ولكننا دائماً نعد أنفسنا ولا ننفذّ إلاّ القليل. أتمنى فعلاً أن أكتب شيئاً من هذا القبيل علماً بأن سيرتي الذاتية كما يشير هذا الحوار متناثرة في تجربتي المتواضعة والممتدة على مدار أربعين عاما.
السفير
ديسمبر 2004
أقرأ أيضاً: