لم يكن حصول كتابه «طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم» على المركز الأول في فرع الدراسات الإنسانية والاجتماعية ضمن جائزة الكتاب المتميز للعام 2008 والتي أدرجها قطاع الثقافة والتراث في البحرين هو فقط ما جعلنا نجري معه هذا الحوار؛ وإنما أثار انتباهنا هذا الناقد المهووس باللغة والمجاز وتحليل الخطاب منذ كتابه الأول «مجازات بها نرى» ليذهب في كتابه الأخير «طوق الخطاب» إلى دراسة رجل شريعة، متخصص بعلم أصول الفقه، مثل ابن حزم في علاقة جرّنا إلى مساءلتها عن البداية، وعن النشأة وعن خوض صاحب أدوات تحليل الخطاب إلى نصوص رجل دين يقول بأن: «النص يعطيك ما فيه» وفق مذهبه الظاهري الذي أسسه.
علي الديري ناقد بحريني لم يكن تكوين بيئته العقائدية الخاصة مانعا عن دراسة كتب المذاهب الفقهية المختلفة، خاصة موضوع كتابه الأخير المرتكز على ظاهرية ابن حزم، الصادر في 2007، عن مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، لذا فرضت الأسئلة حضورها حول منهجيته وكتابه ومرام بحوثه ضمن هذا الحوار:
* تركز على الرمز والاستعارة والمجاز، ما وجه تركيزك هذا؟
- أنا أرى أن الخطاب هو حقل من المجازات والاستعارات والتشبيهات والحكايات، بمعنى أن مكوّن أساسي من مكونات الخطاب، هي المجازات والاستعارات، وعبر المجازات والاستعارات يبني الخطاب مقدّماته ويرى العالم ويخلق نسبه، ويُقيم استدلالاته، ويبني حججه، فأنا معنيّ بالمجاز وبالاستعارات باعتبارها تشكل هوية الخطاب، وتخصصي الأساسي هو تحليل الخطاب، وبالدرجة الأولى أنا معنيّ بتحليل الخطاب بمكوّنه المجازي والاستعاري.
الذهاب إلى ابن حزم
* من أي زاوية درست ابن حزم في كتابك طوق الخطاب؟
- درست ظاهرية ابن حزم. لقد ذهبت إلى ابن حزم على وجه التحديد، لكي أرى إسهام ابن حزم من خلال علم الأصول في تحليل الخطاب أو ما تسميه اللسانيات اليوم بعلم تحليل الخطاب. كنت أريد أن أرى ما الذي أسهم فيه هذا التخصص أو ما الذي أسهم فيه هذا العلم العربي القديم (علم أصول الفقه)، وهو يعتبر بالمناسبة من العلوم الإسلامية الأصيلة، بمعنى انه من العلوم التي لم تستوردها الحضارة الإسلامية من حضارة أخرى، وإنما أنشأتها هي إنشاء، لكي تضع مجموعة من القواعد النظرية لدراسة الخطاب الديني المقدس، وهو خطاب القرآن وخطاب الحديث، ولكن هذه القواعد ممكن أن ننظر إليها اليوم، بأنها قواعد غير محدودة فقط بخطاب القرآن والحديث النبوي، وإنما هي قواعد تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات البشرية، فهي تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.
لقد ذهبت أنا إلى ابن حزم في البداية لهذا السبب الأكاديمي، ولكني وجدت فيما بعد في طريق الذهاب إلى ابن حزم، أهدافا أخرى، ووجدت غايات أخرى ووجدت موضوعات أخرى في هذا الطريق. وربما يكون ما كتبته في هذا الكتاب، جزءا مما وجدته، ويبقى الجزء الأكبر والأهم يتعلق بما لم أكتبه، لكنه حاضر في أفقي.
دليل ابن حزم
* ولكن كيف تحددت الهوية، هوية الخطاب من خلال دراستك لأصول الفقه عند ابن حزم؟
- لن أقول هوية الخطاب، لكي لا نستعمل مصطلحات قد توقعنا في لبس، سأقول ما هو مقوّم الخطاب، مقوّم الخطاب يعني ما هو الشيء الذي يقوم عليه الخطاب ويعتبر ركنا أساسيا من أركان الخطاب؟ أنا وجدت أن المجازات هي أحد هذه المكونات، لكن دراستي لابن حزم لم تكن اشتغالا على هذا المكون، فهذا المكوّن لم يشتغل عليه ابن حزم، هذا موضوع اشتغلتُ عليه تاليا بعد انتهائي من ابن حزم.
موضوع ابن حزم في تحليل الخطاب، كان الدليل، وابن حزم يفهم الخطاب والدليل وفق إطار المنطق الأرسطي، فبالنسبة له أن علم المنطق الأرسطي هو العلم الذي يمكن من خلاله وضع قواعد نظرية لتحليل الخطاب، وهنا أريد أن ألفت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن علم أصول الفقه علم يجمع عدة علوم مع بعضها ويستثمرها لتوليد علمه، فعلم أصول الفقه هو علم مكوّن من علم المنطق والفلسفة واللغة والبلاغة وعلم الكلام وعلم النحو، بل وحتى علوم الطبيعة تدخل فيه. جميع هذه العلوم يستثمرها هذا العلم ويولّد هو من خلالها أدواته فيما بعد.
إحدى المكونات الرئيسية التي أسهم فيها ابن حزم في تشييد هذا العلم، وكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) يعتبر رابع أربعة كتب في تأسيس علم أصول الفقه في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم إسهاما كبيرا في إدخال المنطق الأرسطي ليكون مكوّنا من مكونات علم أصول الفقه.
* على الرغم من استفادة ابن حزم من منطق أرسطو إلا أنه كان معروفا بحدته وحدة كلماته، حتى كان يُضرب بها المثل بمقارنتها بسيف الحجّاج. كيف تفسر ذلك؟
ا- فعلا لغة ابن حزم لغة على مستوى الحِجاج لغة حادة وحاسمة ويقينية ولا تقبل بفكرة تعدد الحقيقة، وأنا أُرجع ذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يستند إليه ابن حزم في مفهومه للحقيقة. المنطق الأرسطي يعتمد على الحقيقة الموضوعية بمعنى الحقيقة التي هي موجودة خارج الذات، فنحنُ نصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجنا بتجردنا من كل هوى، من كلّ ميْلٍ، من كلّ خطأ، من كل ضعف نظرٍ أو ضعف ذهنٍ، فأنت إذا توفرت على هذه الخصائص المتجردة من هذا الكل، استطعت أن تصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجك أنت، وستصل بطريقة موضوعية وسليمة ويقينية.
هذا المنطق اليقيني الذي استند إليه ابن حزم في فهم الحقيقة جعل من لغته لغة حادّة لا تقبل أنصاف الحقائق ولا تقبل ما يسميه هو بالمغالطات والتشغيب والتي في حقيقتها هي آراء أو حقائق أخرى لا يقرها دليله الظاهري. هناك قواعد منطقية تحدّد الحقيقة تحديدا صارما في المنطق الأرسطي، وقد صاغ ابن حزم من خلالها مفهومه للدليل الذي يحدد وفقه معنى الخطاب، وقد بلغت حدّة ابن حزم درجة أنه كان يقول: إن الذي لا يعرف أو لا يتقن المنطق الأرسطي لا يمكننا الثقة في علمه أو في فقهه، حتى لو كان فقيها. لكن علينا أن نقرأ هذه الحدة بإيجابية أيضا، فهي تستند إلى انفتاح ابن حزم على علوم الغير، وأقصد هنا المنطق الأرسطي الذي هو منطقٌ نشأ في حضارة غير الحضارة الإسلامية بل وفي بيئة غير دينية إذ هي بيئة وثنية لا علاقة لها بالدين السماويّ.
كشف التلاعبات
كأن ابن حزم يريد أن يقول إنه لا يمكننا أن نفهم النصوص الدينية إلا باعتماد هذا المنطق، لذلك فأنا أفسّر حدّته بهذا الجانب العلمي. أيضا هناك مكون آخر بطبيعة الحال يتعلق بالجانب الاجتماعي، وهو الجانب المتعلق بالمعارضات التي كان يواجهها ابن حزم من المذاهب الأخرى، وهذه المعارضات كانت ناشئة من كون أن الظاهرية التي يمثلها ابن حزم هي منهج جديد بالنسبة إلى بلاد المغرب والأندلس التي اعتادت الفقه المالكي، فحين يأتي فقيه بمدرسة جديدة هي المدرسة الظاهرية وهي مدرسة من المعروف أن أصلها مشرقي وكان ابن داوود الظاهري هو المؤسس لهذه المدرسة في القرن الثالث قبل أن يتسلمها ابن حزم ويتسلم معها كتاب ابن داوود (الزهرة) وهو كتاب في الحب. لقد تسلم ابن حزم ظاهرية الخطاب وظاهرية الحب وذهب بها بعيدا في القرن الخامس الهجري.
تنشأ معارضات عند دخول نظرية جديدة أو مذهب جديد على حقل قد رتّب أوضاعه وأعرافه مصالحه ورتّب قواه وعلاقاته، وهذا ما توضحه نظرية «بروديو» في الحقل الاجتماعي وهي نظرية تفسّر الصراعات الاجتماعية في الأوساط العلمية والثقافية، سواء كان الأمر في حقل الأدب أو الفقه أو السياسية أو الوجاهة.
يمكننا أن نفسر حدّة ابن حزم بأنها نوع من ردّة الفعل على خصومه الذين كان يشنّعون عليه ويواجهونه ويحاولون أن يؤلبوا عليه الناس ويؤلبوا عليه ملوك الطوائف في تلك الفترة، وبالتالي نشأت لديه حدّة في مواجهتهم والرد عليهم من أجل الدفاع عن مذهبه ومنطقه، أي من أجل أن يموضع نفسه في الحقل العلمي الذي كان يكتب فيه.
أيضا هناك سبب ثالث يمكننا أن نفسّر من خلاله هذه الحدّة، وهو السبب المتعلق بأن ابن حزم كان شاهدا على حكم الطوائف وكان أبوه شاهدا على حكم استقرار الخلافة الأموية في الأندلس وقوتها، حين اهتز هذا الحكم وهذا الاستقرار، وجاءت ملوك الطوائف، وأخذ كل ملك ينشئ مملكته في طائفة أقل، حدث نوع من التشرذم في القوى التي كانت تحكم الأندلس، وهذه التشرذمات التي حدثت دفعت ابن حزم ليعبّر عن سخطه على التشرذم الموجود، أو لنقل هو يريد أن يدين أحد أسبابه، هذا السبب هو أنّ هذا التشرذم الموجود على المستوى السياسي والذي تبدى على مستوى ضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، يأتي من أنّ كل أمير أو كلّ ملكٍ استقلّ بطائفة كان يستند في حكمه السياسي إلى حكم فقهي، والحكم الفقهي يضعه فقيه، لذلك لابدّ أن يكون هناك فقيه يتكيف أو يكيّف الناس لكي يُعطي مشروعية لهذا الحاكم، فوجد ابن حزم أن جزء من التلاعب في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، يأتي ليحقق هذه المشروعية. هذا التلاعب هو المسؤول عن التشرذم السياسي الموجود، فهو كأنه أراد أن يجعل من منهج الظاهرية منهجا يفضح ويكشف هذه التلاعبات في قراءة النصوص.
دنيوية الظاهرية
ينبِّه إدوارد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) إلى ما لدى المدرسة الظاهريّة من أفكار في تفسير النصوص لا تعزل النص عن تفاعلاته الواقعيّة والبشريّة والثقافيّة، فالنص ظاهرة تعبيريّة ظرفيّة، يقترن معناها باستعمال وظرف محدّدين أي بوضع تاريخي وديني.
وتحقق ظاهرية ابن حزم ذلك بأن تجعل للنصوص والأشياء في العالم كيفيات بدل أن تكون لها جواهر باطنة وأسرار خاصة. وكيفيّات النصوص هي ملفوظاتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وظروفها السياقيّة، وطرق إنتاجها، ومدلولاتها. تمثل هذه الكيفيّات ظواهر النصوص التي على العقل الاشتغال عليها، من أجل فهمها. وظاهريّة ابن حزم في قراءة الخطاب تمثل اجتهاده الخاص في قراءة هذه الكيفيّات في الدنيا. لذلك فالظاهرية قراءة دنيوية للنصوص، وهي حمّالة ظواهر، لأن في الدنيا لا يوجد غير الاختلاف.
جماليات ابن حزم
لذلك ابن حزم لم يكن متصالحا مع السلطات السياسية في عصره وتعرّض أيضا إلى محاكمات قادته إلى سجن، وكان يقول دائما إنه ما كتب كتابا أو ما كتب ورقة إلا وهو على قلق بسبب أنه إما أن يكون في سجنٍ أو يكون على هجرة أو يكون على هربٍ أو يكون على قلاقل سياسية.
هذه التركيبة أسهمت في تكوين مزاجه الحاد في الكتابة وفي الدفاع عن وجود حقيقة للنص واحدة ومعنى للنص واحد ظاهر لا يقبل التأويل، أي لا يقبل اللعب، ولا قبل التوظيف السياسي، ولا يقبل ميوعة في المعنى. ولعل جملة ابن حزم المكثقة «النص لا يعطيك إلا ما فيك» تخلص ظاهريته وموقفه من المرجعيات غير النصية التي تعطي معناها الخاص.
أنا أفسّر حدية مزاج ابن حزم بذلك، ومع ذلك أقول أنا قد استمرأتُ هذه الحدية ووجدت فيها جمالية أخرى، هي جمالية القلق المعرفي. وهذا جعلني متفهما لمزاج ابن حزم وعصره ولقلقه المعرفي الذي كان يشغله. المفكر أو الفيلسوف أو العالم، هو ليس فقط حصيلة علمه، وإنما هو أيضا خلاصة عصره وخلاصة القلاقل السياسية والاجتماعية التي يخوضها، والمفكرون العظماء أو العلماء العظماء تفكيرهم دائما يكون تفكيرا خارج الأطر الضيقة للعلم، فبالتالي هو يفكّر من خلال سياق العصر الذي يعيش فيه.
* كيف راقتك هذه الحدية وأعجبتك؟ هل هي ما جعلك تستند وتخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟
- دعيني أوضّح أولا بأني لم أجد أن حدّة ابن حزم تتناسب معي، فأنا لستُ حادّا في نقدي، ولستُ حادّا في نظرتي للمسائل، ولست ممن يقولون بوجود حقيقة واحدة للنص، فالنص في مفهومي لا يعطيك ما فيه كما يقول ابن حزم، بل يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية، النص يعطي ما في أنفاس الخلائق. فأنا مختلف تماما في هذا المزاج، ولكن استطعت أن أتفهم هذه الحدّة، وأن أتذوق جمالياتها التي تحمل في داخلها قلقا معرفيّا وقلقا وجوديا وقلقا سياسيا للوضع الكائن في العالم، وجوانب من هذا القلق يمكن أن تفسر حدّة ابن حزم ضد التلاعب بالنصوص وبالحقيقة وبتوظيفها. استطعت أن أستوعب ذلك في هذا السياق، واستطعت أن أقرأ جماليات فيها أيضا وأن أتفهمها وأن أتذوقها بهذا المعنى. ولعل من المفيد أن أذكر هنا بعبارة شبنهاور «إن لم أجد شيئا يقلقني، فهذا في حد ذاته يقلقني» التي يرددها دوما الصديق الأديب كريم هزاع، في سياق تبيانه لسيكيولوجيا المثقف.
هوية المثقف
* أنت نشأت في بيئة دينية شيعية، وأَلِفْتَ مدوناتها التأسيسية، فما الذي جعلك تخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟
- لماذا لم أذهب إلى المدونات والنصوص الشيعية بحكم قربي من هذه المدونات؟ أريد أن أوضح هذه المسألة الهامّة جدّا بالنسبة لي، أولا أنا لم أدرس في الحوزات الدينية، كانت هذه أمنية من أمنياتي التي رافقت تكويني المعرفي والفكري فترة من الفترات. كانت لدي رغبة مقدسة للذهاب للدراسة في الحوزة، وهذه الرغبة أستطيع أن أقول إنها قد انتهت بعد السنة الأولى من تخرجي من مرحلة البكالوريوس في العام 1993، فقد دخلت مرحلة معرفية جديدة خرجت فيها من أطري الأيديولوجية والدينية والطائفية وبدأت أنفتح على العلوم الإنسانية بما هي أدوات لفهم الدين والتاريخ والمعرفة والحقيقة خارج المذهبيات والتحزبات والطوائف.
بهذا الخروج انتهى مشروع ذهابي إلى الحوزة، ولكن بحكم تكويني السابق على هذا الانفتاح، اقتربت من أجواء الحوزة واقتربت من كتبها، ودرست بعض مقدّماتها.
خروجي من هذه الأطر، جعلني أنظر إلى تراثي الإسلامي العربي الحضاري نظرة شمولية، لا يمكن أن أنظر إليه بعد هذا الخروج نظرة ضيقة، بأن أذهب إلى الكتب الشيعية وأبحث فيها، وكأنها تؤسس لحقيقة خاصة ومستقلة عن البقية، أو كأن لديها المنهجية الحقّة، وكذلك أصبحت لا أحمل دافعا لخدمة مذهبي بأن أشتغل على تراثه بشكل خاص، لقد انتفى لديّ هذا الدافع الرسولي الذي كان حاضرا بقوة كما كان خالقا فيّ الرغبة المقدسة في الذهاب إلى الحوزة.
أوان- الثلاثاء, 26 أغسطس 2008
أقرأ أيضاً: