* "إذهبي إلى تارب وانزلي في فندق هنري الرابع وانتظري اتصالي"
الرحلة التي قمتُ بها لإجراء حوارٍ مع الكاتب البرازيلي باولو كويلو بدأت مرهقة جسديا ونفسيا. ستّ ساعات في القطار من باريس إلى بلدة "تارب" الواقعة في منطقة البيرينيه، أمضيتها في التفكير كم أن موعدي هذا يصلح إلى حدّ ما حبكة لقصّة بوليسية أو لفيلم هيتشكوكي. إذ لم يكن كويلو قد أعطاني عنوان منزله، ولا رقم هاتفه، ولا أي سبيل من سبل الاستدلال إلى ملاذه الريفي الفرنسي. جلّ ما كتبه لي في ايميله الأخير، الكلمات الآتية: "إذهبي إلى تارب وانزلي في فندق هنري الرابع وانتظري اتصالي". عند خروجي من المحطة صعدتُ في التاكسي وسألتُ السائق بلهفة: "هل تعرف باولو كاويلو؟". نظر إليّ في عتاب وأجاب: "سيدّتي، لا نعرف سواه هنا!"، فاطمأننت. حسناً، لن يصعب عليّ أن أجده إذا، حتى إذا كان قد نسي الموعد.
تأمّلتُ من نافذة السيارة المشهد الجبليّ الممتد من حولي، فتخيّلتُ نفسي أجتاز العقبات وأتسلّق الأسوار وأعبر السهول والأودية كي أعثر على صومعة الحاجّ، ثم انتبهتُ إلى أني ربما أبالغ في الخلط بين الكتب وكاتبها، وبين الوهم والواقع- يساعدني في ذلك، أعترف، مخيّلةٌ هي أصلا على قدر لا بأس به من الدراما، وتميل تلقائيا إلى أسوأ السيناريوهات. لكنّي نفضتُ سريعا غبار الوساوس عن ذهني: "لا، لا يُعقل أن يكون قد نسي. لا بدّ أن الموعد مدوَّن في أجندته السوداء- تخيّلتها سوداء- أو في مفكّرة سكرتيرته ماريا دي لورديس، ولربما هو يريد اختبار قدرتي على الاستسلام للأقدار". في أي حال، أجواء هذا اللقاء كانت تشبه مغامرة قدرية تليق بالصورة التي رسمتها في رأسي عن الرجل. "كل شيء سيكون على ما يرام"، قلتُ لنفسي مثل بطلة إحدى رواياته، فيرونيكا. لكني لم أقرّر مثل فيرونيكا "أن أموت"، بل وجدتُ من الأنسب، نظرا إلى الظروف، أن أقرّر بكل بساطة الكفّ عن القلق. وقد أصبتُ في حدسي، إذ ما كدت أصل إلى الفندق حتى جاءني الاتصال المنتظر. "أهلا وسهلا بكِ. نلتقي في منزلي في السادسة. لا تنسي الحفلة مساء غد أيضا". الحفلة؟ أي حفلة؟
لا يمكن أن نقول إن باولو كويلو، المولود عام 1947 وصاحب الروايات السبعة ومجموعة من المؤلفات الأخرى، يشبه رواياته، رغم أننا نصدّقه حين يعلن أنه صادق مع نفسه ومع قرّائه إلى أقصى الحدود. ولكني لم أجد في "الخيميائي"، ولا في "حاج كومبوستيلا"، ولا في "الجبل الخامس"، ولا حتى في "الشيطان والآنسة بريم"، تلك النظرة الإيبيكورية البرّاقة التي تلمع في عيني الرجل الذي التقيته. ضغطتُ على زرّ الأنترفون فخرج لملاقاتي في باحة المنزل: مشية ديناميكية، جسد رياضي في جينز وتي شيرت أسودين، ابتسامة مضيافة، مصافحة قوية، وأسلوب تخاطب بسيط وعفوي منذ اللحظة الأولى. إنه إنسان مؤثّر من دون شك، واثق من نفسه بالتأكيد، كاريزماتي جداً وعارف بذلك، وساحر بالمعنيين الحرفي والاستعاري للكلمة. رأيتُ أمامي مزيجا من النزق والحكمة، من الحسّية والفلسفة، من التوتّر والثبات، من المرح والعمق، من الطفل البريء الدائم الدهشة، والداهية الذي اختبر ما لا يمكن تصوّره وعاش حياته "طولا وعرضا".
ما أن عبرنا الباب حتى توجّه كويلو فورا نحو جهاز الكومبيوتر الموجود على مكتبه في إحدى زوايا الغرفة وقال لي: "تعالي، تعالي اقرأي ما قاله عني الممثل راسل كرو في حلقة الأمس من برنامج أوبرا الشهير" (يبدو أن "الخيميائي" هو كتاب أوبرا الأثير، لكنّي لم أتمالك إلا أن أفكر أنه ربما الكتاب الوحيد الذي قرأته فعلا مقدّمة البرامج الأميركية التي تحبّ أن تدّعي الثقافة إلى حد تأسيسها ناد للكتب)، ثم أردف الكاتب: "هل تعرفين موقعي على الشبكة؟،" وبعد ذلك دخلنا غرفة الجلوس: "بلدكِ جميل جدا. زرته مع بعض الأصدقاء عام 1996 في شكل غير رسمي، وقد سحرتني روعة صيدا وجبيل وبعلبك وجبال الأرز".
لم أكن أعلم أنّ كويلو قد جاء لبنان من قبل، بل كنتُ أنوي أن أوجّه له دعوة خاصة بإسم "مكتبة البرج" لكي ننظم له لقاء أسطوريا مع عشّاقه اللبنانيين. "تصوّري، هذه المرة الثالثة هذا الأسبوع توجَّه اليّ دعوة لزيارة لبنان. تعالي إقرأي الايميلين الآخرَين. (ننهض ونتوجّه مجددا إلى جهاز الكومبيوتر): "أنظري، الدعوة الأولى هي من ناشري في لبنان، والثانية من شخص يريد أن ينشر كتابي بالأرمنية". وعندما أخبرتُ كويلو أني أجسّد الدعوتين، بما أن في عروقي دماء ارمنية من جدّتي لوالدتي، قال: "حسنا، أفكّر في الموضوع، في أي حال أنا أؤمن بأن الأشياء تأتي دوما ثلاثا، ولربما هذه المرّة هي الحاسمة. لا أعرف بالنسبة إلى لبنان، لكنّي أرغب حتما في زيارة ارمينيا قريبا".
سألني كويلو، المترجَم إلى نحو 60 لغة والصادر في 155 بلدا، عن مستوى توزيع كتبه في البلدان العربية. سألني أيضا عن النسخ المقرصنة من رواياته رغم أنه اعترف بأن الأمر لا يزعجه البتة، لا بل يشعر بالإطراء إزاءه، وأنه يقلق فقط من نوعية ترجمة الأعمال المقرصنة التي قد لا تكون في مستوى الترجمة الرسمية. هنا تحدّثنا عن مترجمته البارعة ماري طوق، وعن اللبنانيين في البرازيل، وعن الحفلة- انكشف اللغز- التي يقيمها في الغد في داره والتي يدأب على إقامتها في التاسع عشر من آذار من كل سنة احتفالا بشفيعه القديس يوسف، وأيضا عن خصلة الشعر الطويلة في مؤخرة رأسه التي يحتفظ بها كذكرى من أيامه هيبياً، وعن المصحّ العقلي الذي احتجزه فيه والداه عند بلوغه السابعة عشرة من العمر، عندما أطلعهما على رغبته أن يكون كاتبا لا مهندسا. تحدّثنا أيضا عن الثقافة العربية وغناها وتأثيرها في لاوعيه الإنساني والصوفي والأدبي، وعن ألف ليلة وليلة ومدى افتتانه بأجوائها وشاعريتها وحكاياتها منذ صغره، وعن جبران خليل جبران ورسائله إلى ماري هاسكل، التي لم يكتف كويلو بترجمتها بل أجبر كذلك دار النشر التي يتعامل معها على نشرها في عدد كبير من البلدان.
أجل، الرحلة التي سأرويها لكم بدأت مرهقة، لكنّ "الساحر" عرف كيف يحوّل حصاة التعب وردةً بحركة سريعة من يديه الرشيقتين. عندما هممنا ببدء الحوار تربّع على الأرض أمام المائدة الواطئة التي تتوسّط الغرفة وبادرني قائلا: "هل تمانعين إن جلستُ هكذا أثناء حديثنا؟". لحظاتٌ تمالكتُ خلالها دهشتي، ثم ما كان منّي إلا أن ترّبعتُ قبالته بسرور. أدرتُ المسجّلة: "هل أنت جاهز سيّد كويلو؟". "دائما".
لا بدّ سيكون حديثا مشوّقاً.
***
* بما أنّكَ لست رجل الوجهات العادية، وغالبا ما تردّد انك تعشق السباحة ضد التيار، لنمش القهقرى ونبدأ حديثنا من الأحدث. لقد تناولتَ في "إحدى عشرة دقيقة"، وللمرة الأولى، موضوع الجنس واللذة والجسد، مما فاجأ قرّاءك الذين اعتادوا معك دخول عوالم أخرى، روحانية ورمزية للغاية. ألم تتخوّف من ردود الفعل التي سيثيرها هذا التغيير؟
لطالما كنتُ راغبا في تأليف كتاب يدور حول موضوع الجنس وموقفنا إزاءه، لكني لم أكن أجد خيط الفكرة الموجِّه قبل لقائي ماريا. فالجنس هو إحدى الطاقات الحيوية الأكثر قدرة على تغيير التاريخ، وهو في مفهومي لا يُمارَس فحسب، لذلك لا أحبذ عبارة "فعل الحبّ" مثلا. الجنس ليس فقط ما نفعله، بل ما "نكونه" أيضا وخصوصا. ربما كنتُ قلقا بعض الشيء من أن اصدم البعض، لكني أثق في قرّائي واعتقد أن على المرء أن يكون صادقا مع نفسه في الدرجة الأولى: وبما أن ذلك هو الكتاب الذي كنتُ أهجس بكتابته، وتلك هي القصّة التي كانت محفورة في روحي، لم أتردّد في تلبية النداء. أما ردود الفعل فقد جاءت ايجابية جدا، حتى أن "إحدى عشرة دقيقة" كان الكتاب الأكثر مبيعا في العالم عام 2003، يليه على اللائحة "هاري بوتر".
لكنّي شعرتُ إذ أقرأ هذا الكتاب بأن رؤيتك للحب والجنس طوباوية للغاية، لا بل ساذجة في بعض الأحيان، لكأنك تروي لنا خرافة تنتهي بأن يعيش الأمير والأميرة حياة سعيدة معا إلى أبد الآبدين...
تعتقدين؟ أجل، ربما أنتِ على حق... في أي حال، لقد فكّرتُ مليا في نهاية القصّة، لأنه كان أمامي خياران: الخيار الأوّل أن أضع له خاتمة مأسوية، والثاني أن أخلص لقصّة ماريا الحقيقية، التي تزوّجت فعلا في آخر المطاف بالرجل الذي تحبّ.
* في رأيي أن هذا المصير الذي اخترته لهما، أي الزواج، أكثر مأسوية حتى من انفصال محتمل بين الحبيبين!
(ينفجر ضاحكا) لا لا لا! في أي حال، لا يعني ذلك أني أعتبر الزواج أسطورة من السعادة والهناء. ونعرف جميعا أن قصص الحبّ التي تنتهي "على خير" نادرة. ولكن في هذه القصّة بالذات، آثرتُ أن انقل بإخلاص ما حدث مع ماريا، تلك الصبية التي التقيتها فعلا وروت لي حياتها- وإن لم يكن حبيبها رسّاما كما في الكتاب. قصّتها كانت كما قلت الخيط الموجِّه الذي لطالما بحثتُ عنه.
* لكنّك روائي ولست كاتب سيرة، أي كان في وسعك أن "تقطع وتربط" ما شئت من الخيوط وأن تعجن القصّة على هوى رؤاك...
طبعا، وهذا ما قمتُ به في أي حال، إذ أبدلتُ بعض الأحداث والشخصيات، وأضفت تأملاتي الخاصة كرجل- وتأملاتي الخاصة كامرأة تسكن في روح كل رجل- في موضوع الجنس. الخلاصة التي توصّلتُ إليها في حياتي هي أن الحبّ الجسدي هو احد تعبيرات الحبّ الروحي، وأنه من المهمّ ألا نفصل جسدنا عن عاطفتنا. هل أجمل من أن يكون الاثنان على تناغم، فيغدو ما يطلبه الأول هو ما يريده الثاني والعكس بالعكس؟ الجنس بلا عاطفة عنف نمارسه على أنفسنا. وما أذهلني هو العدد الهائل من الإيميلات التي تلقيتها حيث يقول لي القراء إن "إحدى عشرة دقيقة" أضاء لهم نواح كثيرة كانوا يجهلونها عن حياتهم وسلوكهم الجنسيين. إن الناس يحاولون منذ البدء إتباع سلوك جنسي نمطي، فيتجاهلون أهمية السعي الخاص، وينسون أن كل واحد منا فريد في روحه وجسده وجنسانيته، وأن ما ينطبق على الأول لا ينطبق على الثاني وهكذا دواليك. نتيجة ذلك، نجتاز المراحل ونعيش عددا كبيرا من التجارب، لكننا غالبا نفوّت "الاكتشاف": أي قبول واقع أننا مختلفون، ومشاركة هذه الاختلافات مع شريكنا وحبيبنا.
* أليس هذا التناغم الكامل بين الجسد والروح رؤية تبسيطية و"مثالية" عن علاقة بالغة التعقيد؟
مثالية؟ لا أعتقد. المطلوب فقط هو أن نحاول دائما إعطاء أفضل ما عندنا، أن نحارب لكي نصل إلى الحب الحقيقي، من دون أن نتوّهم طبعا أنه الفردوس. بل على العكس من ذلك، الحب يزعزع، يخلخل، ينهك، يقلب كل حياتنا رأسا على عقب. الحبّ هو تحدّ يومي، يمكنه أن يبنينا، كما يمكنه أن يدمّرنا، تماما كالكلمة. نحن الرجال مثلا نمضي حياتنا ساعين إلى إظهار "ذكورتنا" ورجولتنا، والى إثبات أننا قادرون على الانتصاب وبارعون في أداء الفعل الجنسي. إلا أن الحب ليس هذا، بل هو الحنان والملامسة والإصغاء والانسجام والتواطوء.
لكنّه الجنس أيضا...
نعم، نعم، هو الجنس أيضا بالتأكيد، لكني اشدّد على أهمية الحب في بعده الشعوري-العاطفي، حتى إذا كان معظمنا يخاف أن يحب، لأننا عانينا وتعذّبنا عندما أحببنا بلا خوف. ولكن رغم المعاناة يجب أن نحبّ.
* ألا تعتقد أن ثمة لديك نزعة إلى الوعظ والإرشاد؟
(باستنكار شديد) واعظ؟ أنا؟ أبدا، ابدا! قد يخال المرء أنك تحاولين استفزازي بشتى الطرق! إنا لا أسعى إلى إرشاد أي كان، بل أؤمن أن لكل منّا طريقه، ولست أقول إن على الناس أن يبحثوا عن قصد عن الألم والمعاناة والتجارب الصعبة. إن الرسالة التي أريد توجيهها هي ألا يهربوا من هذه حين تواجههم، فالمشكلة ليست في أن نخسر معركة مع الآخر، بل في أن نعرف أي نقطة أدركنا بالضبط في نضالنا الذاتي. وهذا ما وعته ماريا مثلا، عندما تمكّنت أخيرا من أن تفهم جنسانيتها وأن تتقبلها.
*وكم احتجتَ من الوقت لكي تفهم أنتَ شخصيا هذا الجانب من ذاتك ؟
إسمعي، إنا في السادسة والخمسين من العمر، أي أنني عشتُ الكثير: نمرّ جميعا في مراحل تعرّف وتيه وكذب وتأقلم وانقلابات، قبل أن نكتشف ماهية جنسانيتنا. هل لجأتُ يوما إلى المومسات؟ أجل، مرتان أو ثلاث، في السادسة عشرة، فذلك أمر طبيعي جدا عندنا في البرازيل، كتمهيد أو مدخل إلى عالم الذكورة. لكني لا اذكر من تلك التجربة سوى خوفي، وشعوري باني لستُ مرتاحا. بعدها جاء تيار الهيبي في الستينات، ومعه الجنس الحرّ الفالت من أي قيود، تلته مرحلة محافظة جدا في ما يتعلق بي على هذا المستوى. لكني أعتقد أني ما زلت في طور اكتشاف هذه الناحية من كياني، كما نواح أخرى طبعا. ولهذا السبب كتبتُ "إحدى عشرة دقيقة": إنه يعكس جزءا مني، على غرار كل كتبي السابقة.
*فعلا، فحتى إن لم يكن في الإمكان رصدكَ في شكل مباشر في رواياتك، إلا انك حاضر فيها وبقوة. هل عندك ظمأ ملحّ إلى الكشف عن نفسك؟
لنقل على الأصحّ أن عندي ظمأ ملحّ إلى اكتشاف نفسي ومعرفتها. أكتب عن مسائل تهمني وتشغلني، عن أمور أهجس بها، بمعزل عمّا يتوقّعه مني القراء. أعتقد انه من المرهق للغاية أن يحاول المرء الإختباء طيلة الوقت. أنا لا أريد الاختباء، لا أريد الأقنعة، بل أودّ بكل بساطة أن أتقاسم نفسي مع الآخر: نعم أنا حاجّ كومبوستيلا، انأ محارب الضوء، أنا بائع الزجاج والراعي، أنا الرسام الذي أغرمت به ماريا وأنا أيضا، في شكل ما، ماريا نفسها! كل كتبي محاولات لكي أجيب عن أسئلتي الخاصة حول الحياة. أنا كاتب صادق جدا وقرّائي يعرفون ذلك، وإلا كانوا ليتوقّفوا عن قراءتي لو شعروا بأني مزيّف.
*في الحديث عن قرّائك، وهم كثر كثر، ما سرّ نجاح وصفة "كويلو" في رأيك؟
عندما يأتي اليوم الذي أعرف فيه سبب نجاحي أكون قد انتهيت. تتحدثين بمكر عن "وصفة" (يرميني بنظرة من قبض على مذنب بالجرم المشهود)، لكني أجيبكِ بأنه لغز. كيف تريدينني أن افهم سبب وصول كلماتي إلى هذا القدر من الأرواح؟ هذا السؤال يُطرح عليّ غالبا، ولكن إذا كان القرّاء يتوهمون أني اعرف الإجابة عنه، حريّ بهم أن يكفّوا عن قراءتي في هذه اللحظة بالذات. عموما، يمكن أن أقول إن ثمة عاملين يساهمان في مساعدة شخص ما في تحقيق حلمه. الأول هو أن يكون الحالم مؤمنا بما يحلم به. فأنا مذ قررت أن اكسب عيشي من الكتابة كففت عن ممارسة أي عمل آخر. أما العامل الثاني، فهو أن يعي الحالم أنه لن يستطيع أن يحقق حلمه بمفرده. في ما يتعلق بي، كان حلفائي القراء، فهم الذين ساهموا ، بحماستهم وحبّهم، في نشر أعمال كاتب غير معروف في بداية الطريق.
*ولكنك روائي يثير جدالات حامية، فثمة الشغوفون بك إلى حدّ انه ليس من المبالغة تسميتهم "أتباعا"، وثمة كارهوك حتى التجاهل التام. وهناك من يتساءل ما إذا لم تكن هذه الملايين من الكتب المباعة قد جاءت نتيجة عملية تسويق بارعة أكثر منها نتيجة نوعية أدبية عالية. لا بل انّ البعض يذهب حد القول إنك "منتج تجاري" أو آلة تصنيع بست سيللر، وإنك تناسب القرّاء الذين لا يقرأون، وقد كتب أحد النقاد عنك: "لم اقرأ كويلو، ولم يعجبني". فما موقفك من كل هذا اللغط؟
(هنا ينهض كويلو ويتوجّه نحو مكتبه. أتراه امتعض من سؤالي؟ أتراني زدتُ "العيار" وغاليتُ في استفزازه، على غرار تلك الصحافية الألمانية التي أخبرني عنها قبل بداية حوارنا، والتي كانت عدائية إلى حدّ أنه طلب خروجها من قاعة المؤتمر الصحافي كشرط لكي يتابع الحديث مع زملائها؟ لا، لا، ها هو يعود- مبتسما- وفي يده علبة سجائر. "هل تنزعجين من الدخان؟". أتنفّس الصعداء في سرّي. "أبدا على الإطلاق". يشعل سيجارة وبعد نفس عميق يجيب)
الناس موهوبون في قول التفاهات، وذلك أمر لا يفاجئني ولا يؤثر بي، بل أجده طبيعيا للغاية. فالغيرة عنصر كلاسيكي من عناصر الطبيعة الإنسانية، وهذا النوع من الكلام يُظهر أيضا أن عملي موجود، فلو لم يكن حاضرا بقوة لما أثار هذا الكمّ من ردود الفعل. في أي حال ليس لنجاحي أي علاقة بميدان التسويق، فقد صلبني النقّاد طوال أعوام وقسوا جدا عليّ. الإعلام لم يكن حليفا، لذلك أستطيع أن أقول بفخر إن نجاحي حصل بالتواتر، بالعدوى بين القرّاء إن صحّ التعبير. ليس ثمة كاتب برازيلي، أو حتى فرنسي، مترجم إلى هذا العدد من اللغات، ومقروء في هذا العدد من البلدان. وانأ في المناسبة جاهل تماما في مجال الماركتين ومتطلباته وشروطه: أذكر أني في صباي، كنت أصغي إلى أغاني البيتلز وأهتف: يا للروعة، ما أعظمهم! وكانت أمي تقول لي: "دعك منهم، نجاحهم نتيجة عملية تسويق ولن يستمروا". لكنهم استمروا، وما زال العالم كلّه يحبّهم بعد أجيال.
*وهل تعتقد أن العالم كلّه يحبّك؟
لا، لم اقصد ذلك، ولكن يحتاج بعض الناس إلى التفسيرات للأسف، يريدون تشريح النجاح وتحليله، يبحثون عن إجابات منطقية وماتيماتيكية لكي يفهموا ويصدّقوا. إنّهم توما العصر، لكني لا أملك الإجابات. لماذا أبيع هذا القدر الهائل من الكتب؟ حريّ بمن يريد أن يعرف أن يطرح السؤال على الشارين. الحكم الحقيقي في هذه المسألة ليس الناقد، بل القارئ الذي يدفع المال لكي يقتني رواياتي، ولقد اصدر القرّاء حكمهم في ما يتعلق بي. الحقيقة هي أن عملية الخلق الأدبي سرّ غامض لا يمكن تفسيره، وذلك ما ينساه النقّاد المتحجرون في كليشيهاتهم.
بما انك ذكرت عملية الخلق الأدبي، سبق أن قلتَ في كتابكَ "اعترافات الحاجّ" إن الكاتب شبيه بالمرأة الحامل التي تلد طفلا، وأنك عاجز عن الكتابة ما لم "تمارس الحبّ مع الحياة". يهمّنا أن نعرف كيف تفعل ذلك...
كيف أمارس الحب مع الحياة؟ أعيشها، بكل بساطة، أعيشها بكل ما أوتيت من شغف وجنون ومتعة وعطاء. كلما عشنا حياتنا بقوة، ازدادت فرص أن نجد طريق لغتنا الخاصة. أحاول أن امنح كل لحظة الاحترام والسحر اللذين يستحقهما غموضها. طبعا تحوم في رأسي أفكار كثيرة على غرار كل الروائيين، ولكن هناك فكرة محددة تستيقظ وتنمو وتناديني، واشعر بالحاجة إلى تقاسمها مع الآخرين.
*ألهذا السبب تكتب؟ أهو فعل مشاركة بالنسبة إليك في الدرجة الأولى؟
أجل، فالمشاركة وجه مهم من الطبيعة الإنسانية. إنني في حاجة إلى مشاركة إنسانيتي، وحبّي، وعملي، مع الآخر. أكتب أيضا لكي أقول الأشياء لنفسي، فانا قارئي أيضا وخصوصا، و"أنتظرني" مع كل رواية جديدة. وهذا الصدق هو ربما ما يدفع الناس من كل الأعمار إلى قراءتي. في وسعكِ أن تقولي كذلك إني أكتب لكي أخاطب الطفل الذي نحمله داخلنا.
*غالبا ما تتحدث عن هذا الطفل. لقد قلتَ للتو إنك بلغت السادسة والخمسين من العمر، فهل لم يشخ باولو الطفل فيك؟
لا، وأعترف أني لا اتطلّع إلى النضوج. بل سأقول لكِ إن النضوج هو بالنسبة إلي الوقت الذي تبدأ فيه الثمرة في التعفّن. إن القادرين على فهم الحياة هم الأطفال أو اولئك الذين ينظرون إليها كالأطفال. الطفل الذي فينا هو الذي يشعرنا بأن كل شيء، كل شيء لم يزل أمامنا، وبأننا لا نريد أن نكف عن التوغّل في مغامرة الحياة اكتشافا تلو اكتشاف. الطفل حيّ وخالد، لا عمر له. ولهذا السبب أحرص على ألا يشيخ الطفل في داخلي: فالدهشة التي يمنحني إياها هذا الطفل، وانتظار الدهشة التالية التي لا مفرّ ستأتي، يجسّدان معنى أن أكون حيّا. البالغو النضج يقيسون الأشياء بالمتر ويزينونها بالكيلو، ويعيشون في الماضي أكثر من الحاضر، ولهذا السبب لا يفهمون الجديد ولا يرونه حتى حين يمرّ في محاذاتهم. يفوّتونه على أنفسهم لأنهم لا يستطيعون تمييزه. لا يعني ذلك أني أخجل من تقدّمي في السن، فأنا لا اخبّئ تجاعيدي ولا أصبغ شعري الأبيض. إلا أني ارفض النضوج في معناه الكلبيّ.
*وهل هذا الطفل الذي تخاطبه هو السبب في استخدامك لغة بسيطة ومباشرة إلى هذا الحدّ؟
(يتحمّس) إسمعي، استطيع أن أؤلّف كتابا معقّدا جديدا كل أسبوع، لكني أؤثر بدلا من ذلك أن أؤلف كتابا بسيطا ومباشرا كل عامين: كتاب بلا زخرفات أدبية ويخترق قلوب الناس. المعقّد لن يفهمه أحد، إلا أن الأغبياء سوف يتملكهم الانطباع بأنه عمل عبقري لأنهم تحديدا عاجزون عن فهمه. وراء كل تعقيد فراغ مرعب. قد يبدو أسلوبي سطحيا لأني أتقشف في لغتي إلى أقصى الحدود، لكني أفعل ذلك لكي أتيح للقارئ أن يستثمر خياله معي. أستفزّه، أحرّضه، اهزّه من جموده ومن موقعه، أي موقع المراقب الحيادي غير المتورّط. لكني أحفظ الجوهر الذي تشحنه الفكرة، والرمز الكامن وراء الكلمات. كل الناس يريدون أن يكتبوا "عوليس"، ولكن إذا قمتِ غدا باستفتاء لمعرفة عدد الذين قرأوا "عوليس" كاملا، ستجدين أنهم قلّة. لست أكتب وفق شروط "المؤسسة"، إلا أني واثق من أن هذه اللغة العصرية هي أداة أدب المستقبل.
في الحديث عن أدوات المستقبل، لمستُ أنك على علاقة وطيدة مع عالم الانترنت...
آه اجل، بل إن تحديد "علاقة وطيدة" لا يكفي، وأعلن أني مدمن على لذائد الشبكة. إنه عالم يعزز التواصل والتقارب بين الناس في رأيي، على العكس مما يزعمه البعض. أذكر أني كنتُ أقيم في ما مضى في مبنى ضخم يضم ما يزيد على أربعين عائلة، وكان تواصلي مع جيراني يكاد لا يتعدّى كلمة "صباح الخير" عندما نلتقي في المصعد. أما مع الانترنت فإنك تكتبين وتتواصلين وتتشاركين تجاربك وروحك مع اولئك الذين ينتمون إلى عالمك ويشبهونك، والذين يُـشعرونك بأنك لست وحيدة. الانترنت قاتلة الوحدة وليست مربيّتها. طبعا الشبكة الآن متاهة مرعبة، ومما لا شك فيه أنه يمكن استخدامها لنشر الشرّ، لكن المسؤولية لا تقع على عاتق التكنولوجيا، بل هو الإنسان يختار طوعا الجانب الجيّد أو السيئ من الأشياء.
*كل رواياتك تقريبا تدور عن هذا الصراع بين الخير والشر، بين الجانب الطيّب والجانب السيئ. هل يصحّ هذا الفصل؟ أليس الطيب والسيئ وجهين للعملة نفسها، وألسنا جميعا هجينا من الدكتور جيكيل والمستر هايد؟
أرى أن الإنسان مانوي في طبعه، وأعتقد أننا نملك القدرة لكي نعرف متى نخطئ ومتى نصيب، متى نجرح ومتى نساعد، حتى من دون الحاجة إلى قوانين اجتماعية. إن هذه البوصلة التي تتيح لنا التمييز بين الخير والشر موجودة في داخلنا. نحن الاثنان طبعا، بل كل شيء في الحياة ثنائي، الحب أيضا يحمل نوره وظلامه، والكتابة مثلا مزيج من النشوة والتوتر. ولكن يكفي أن نستخدم الطاقة الايجابية التي نملك، فالإنسان طيّب في جوهره، إلا أن الشيطان المقموع فيه لا بد أن يطلع إلى السطح أحيانا...
*وماذا عن شيطانك أنت؟ لكل إنسان تفاحّته فأي شكل لتفاحتّك؟
أعتقد أن الوسواس الأكثر خطورة الذي يغويني يتخذ شكل الكلمات الآتية: "لقد نجحت يا باولو، فلم لا تتوقف وترتاح؟". ذلك هو الإغراء الذي أقاومه بكل قواي، أما ما تبقّى من تفّاح، فأقطفه وأقضمه بلا تردد! (ضحك) أنا أقبل تجاربي وأقبل الوقوع فيها. من جهة أخرى، يميل الناس إلى اختراع شياطين اصطناعية تتحكّم بهم، ويكفي لكي ندمّر هذه أن نحرمها السلطة، أي ألا نؤمن بوجودها.
هل يعقل أن تكون الحياة بهذه السهولة؟ عندما تتحدث عنها تبدو معادلة لا لبس فيها: هناك واحدة للنجاح وأخرى للفشل، واحدة للسعادة، وثانية للتعاسة...
لنقل إني مقتنع بأنّ أمرين فقط يحولان دون أن يحقق المرء حلمه: الأول هو أن يظنه مستحيلا، والثاني أن يستسلم للخوف. الشجاعة هي الفضيلة الوحيدة التي لا غنى للإنسان عنها، لأن الخوف يمنعه من تغيير قدره ومن إيجاد أسطورته الخاصة.
*وممّ يخاف باولو كويلو يا ترى؟
من الحديث أمام حشد من الناس مثلا: لا أظن أني سأعتاد يوما هذا الأمر. أقوم به طبعا، فهو جزء من روتين حياتي، إذ ألقي باستمرار محاضرات وأعقد لقاءات في جميع أنحاء العالم، لكنه موقف يخيفني. أخاف أيضا من نفسي... تعرفين، الشجاعة لا تعني غياب الخوف، بل منعه من أن يشلّنا. جميعنا نخاف: إنه رد فعل غريزي، لكن الشجاعة تتيح لنا المضي قدما رغم وحش الخوف.
*وماذا عن الموت؟ ألا تخاف الموت؟
الموت؟ الموت بالنسبة إلي امرأة جميلة جالسة بقربي، تغازلني وتريد تقبيلي، لكني أقول لها: لا، ليس الآن، إصبري قليلا يا امرأة، اقبّلك في ما بعد...
*إمرأة جميلة؟ هل هو مغرٍ إلى هذا الحدّ في نظركَ؟
لا، لم اقصد أن أقول إنه يغريني، بل إنه ليس عدوّي. نحن صديقان متلازمان إلى الأبد. إنه كائن يرافقني كظلي، يفتح عينيّ، ينبّهني وينصحني: "إسمع يا صديقي، يجب ألا تنتظر حتى الغد. أُنظر، ألمس، تذوّق، عش بكل الحدّة والكثافة اللتين تستطيعهما لأن ما بين يديك اليوم قد يصبح ملكي غدا". لذلك أستطيع أن اؤكّد لكِ أني لا أخاف الموت.
*لكم توحي بالسلام الداخلي! هل أنت فعلا متصالح إلى هذه الدرجة مع نفسك؟
هل أبدو لكِ هادئا حقا؟ ربما لأني عدت للتو من ممارسة رياضتي الأثيرة، أي الرماية بالقوس والنشّاب، وهي رياضة تريح أعصابي وتتيح لي التأمل وتدفعني إلى الاسترخاء. في الواقع لستُ من طينة الهادئين، فأنا رجل قلق وشغوف جدا. ولكن ما كنتُ أعنيه هو أني لا أهاب النهاية لأني عشتُ في حرية وتطرّف كل التجارب التي مرّت في حياتي، الجيدة منها والسيئة على السواء. تزوّجتُ بالمرأة التي أحبها، وكتبتُ أعمالا أنا فخور بها لا لشيء سوى لأنها ساعدت ملايين الأشخاص في إدراك إنهم قادرون على التحكّم بقدرهم إن هم شاؤوا ذلك. ثم إني أحاول أن أكون كاثوليكيا صالحا: ولكن لا تفهميني خطأ، فأنا لستُ بكاتبٍ كاثوليكي.
*إن لم تكن كذلك كيف تفسّر ظهور مريم العذراء على ماريا في "إحدى عشرة دقيقة" إذا؟
ظهور مريم العذراء على ماريا؟ هل تصدّقيني إن قلت لكِ إني لا أذكر حتى هذا المقطع؟ ربما هو خيال ماريا الذي جعلها تتصوّر هذا الأمر. (صمت). غريب... أنت الشخص الوحيد الذي انتبه إلى هذه النقطة وقام أمامي بهذا التعليق. في أي حال، أنا إنسان مؤمن، وأرصد هذا الإيمان كاعتراف بأن الحياة هي أكثر مما نلمسه فيها ومنها بأيدينا. الإيمان يتطلب أيضا قدرة على الحلم وتخطي الذات.
لكنّ الأديان ما زالت تُستخدم ذريعة لشنّ معظم الحروب ولتفشي الضغائن بين البشر...
كل الأشياء المهمة في الحياة، كالحب والدين والحرية والحقيقة، يمكن أن تُستخدم للخير كما للشرّ. منذ اللحظة التي نبدأ فيها الانفتاح على العالم الروحاني، يولد فينا الخوف من المجهول. وهناك أشخاص على هذا الكوكب بارعون في استثمار هذا الخوف من المجهول لدى الآخرين، وفي التلاعب به. لكنّ ذلك لا يعني أن الدين هو سبب الحروب. الدين سرّ إلهي يتجاوز الطبيعة الإنسانية. سوف أعطيك مثالا بسيطا يشرح كلامي: أنا أحضر القداس مرّة كل أسبوعين على الأقل. القداس هو أن نتشارك سرّا ضمن إطار طقس محدد، وحين أنظر إلى الكاهن الذي يحتفل بهذا الطقس لا اسأل نفسي: "هل هذا الكاهن رجل مثالي؟ هل هو خال من العيوب؟ هل هو شرير أم طيّب؟". فهذه الأمور لا تهمني ولا تعنيني، لأن طقس القدّاس يتجاوز الطبيعة الإنسانية.
* وهل تعترف بخطاياك كذلك لدى الكاهن؟
نعم، أعترف.
لا بد أنها جلسات طويلة!
(يضحك) طويلة جدا، أنتِ على حق! ولكن هذا لا يعني أني أوافق الكنيسة الكاثوليكية في كل شيء، إذ ثمة لديها مواقف لا أؤيدها شخصيا، إلا أني اخترت بكل حرية أن أكون كاثوليكيا، لا لأني اعتقد أن الكاثوليكية أفضل من الإسلام أو البوذية أو سواها من الأديان، ولكن لأني أردت العودة إلى جذوري، مما يتطلّب مني احترام تقاليد هذه الجذور. يجب فصل البشري عن السر العظيم الذي يمثّله، فحتى لو كان الكاهن رجلا سيئا، إلا انه لحظة الاعتراف يتجاوز ذاته. يجب أن نتحلى بالتواضع أمام السرّ، يجب أن نطيع الطقوس ونملك الشجاعة لكي نحبّ بلا شروط. في أي حال، ليس الدين وحده ما يُستغلّ في أيامنا هذه، بل كل شيء تقريبا يتعرّض للاستغلال. لقد رأيتِ ما حصل في الولايات المتحدة مثلا: لقد استخدموا اعتداءات 11 أيلول ذريعة لشنّ الحرب على العراق. إنه لأمر فظيع. لقد تلاعبوا بالمأساة على نحو يجعلها تخدم مصالحهم الخاصة.
أثـنار حاول أيضا فعل الشيء نفسه أخيرا في أسبانيا، إثر المأساة التي ضربت مدريد.
بالضبط، لقد حاول استثمار الاعتداء بنشره الأكاذيب لكنه لم يوفّق. غالبا ما يتوهّم الناس أنهم قادرون على التلاعب بأفكار غيرهم وتسييرها على النحو الذي يلائمهم. إنه أحد تجسّدات الأنانية الإنسانية والماكيافيلية الجبانة التي يتسلّح بها اولئك الذين يمارسون الشر خوفا من ان يكونوا طيّبين، ويستسلمون للطمع خوفا من ان يكونوا قانعين، ويلهثون وراء المال خوفا من ان يكونوا فقراء.
*تصريح غريب صادرا عن "مولتي ميليونير" مثلك...
طبعا أنا مليونير، اجني أموالا طائلة مع كل كتاب وفي وسعي ان أقول إني أملك من المال ما يكفيني لثلاث حيوات مقبلة. أنا ساحر كما تعرفين! لا اعني أن المال شرّ، بل انّ طرق استخدامه تكون شريرة أحيانا.
*هذه الثروة الطائلة التي تملك بدأت مع النجاح الباهر الذي حققه كتاب "الخيميائي"، الذي ترجم إلى ما يزيد على ستين لغة وصدر في أكثر من 155 بلدا، والذي تم اقتباسه أيضا في المسرح والأوبرا والموسيقى. ويبدو انك سوف تجني قريبا المزيد من الملايين جرّاءه لأنه سيتحوّل فيلما.
لا تذكّريني، يا لها غلطة! (عند هذه النقطة ينتبه كويلو إلى ان المساء قد أسدل بعضا من عتمته على الغرفة، فيسألني إن كنتُ أحتاج إلى نور الكهرباء. "لا. لا بأس. دعنا هكذا، فالسحرة يفضّلون الظلال") آمل ألا يتحقق مشروع الفيلم. إني نادم لأني بعت حقوق الكتاب في بداية مسيرتي العالمية، وقد أدركت في ما بعد أنها حماقة لأن هذا التطوّر ليس طبيعيا. لا شك عندي في أن لورنس فيشبورن كاتب سيناريو ومخرج ممتاز للغاية، لكن شركة "وارنر" التي تملك الحقوق تعمل الآن على تغيير سيناريو فيشبورن، ما لا يروقني البتة. من بعد "الخيميائي" منعتُ بيع حقوق أي من أعمالي إلى الصناعة السينمائية. فأنا أريد ان أتيح لكل قارئ أن يكتب السيناريو ويخترع الشخصيات الخاصة به. لا أريد أن أكتب الرواية "الواحدة". فسحة الحرية والخيال تلك جزء لا يتجزأ من المبادئ التي اتبعها في كتابتي، رغم أن ليس ثمة صيغة أكررها في كل كتاب.
*بل يخيّل إليّ ان ثمة صيغة تكررها، إذ تناهت إليّ قصّة "الريشة البيضاء". فما هو هذا الطقس الغامض وكيف ولد؟
آه، أرى أنّك تحرّية بارعة! بدأت القصّة عام 1987، عندما قرّرتُ أن أكتب عن رحلة الحجّ التي قمت بها إلى كومبوستيلا. كنتُ يومها خائفا ومترددا رغم أن الكتابة هي حلمي الأول والوحيد. فرحت أتساءل: "هل أكتب؟ أم لا أكتب؟". إنه القلق الطبيعي الذي يعتريكِ عندما تعرفين انك ستقومين بخطوة من شأنها أن تغيّر حياتك في شكل جذري. أخيرا قلت لنفسي: "إذا رأيتُ ريشة بيضاء اليوم، أهمّ بالكتابة"، وهذا ما حصل. فكتبت. ثم حصد الكتاب نجاحا كبيرا، وتحقق الحلم، ومنذ ذلك الحين أنتظر هذه الإشارة قبل أن ابدأ في كتابة أي عمل جديد. لقد وجدتُ إلى اليوم ثماني ريشات أخرى. قد أنتظر أسابيع أو أشهرا، لكني لا أشرع في الكتابة إلا بعد أن أجد ريشتي البيضاء. البعض يعتبر ذلك نوعا من التطيّر، لكني أفضل أن اسمّيه طقسا.
*أكان طقسا أم تطيّرا، إنّه يفسّر سبب إقامتك في وسط الريف: فلو كنت من سكّان المدن لكانت فرص وقوعك على ريشة بيضاء أكثر ضآلة، ومن يعرف كم من أعمالك ما كانت لترى النور!
(يضحك كويلو ثم يطلب منّي إيقاف المسجّلة لبضع دقائق لكي يعرّفني إلى زوجته ورفيقة دربه منذ 25 عاما، كريستينا، التي عادت لتوّها إلى المنزل مع والدتها. تخبرني كريستينا، وهي رسّامة، إنها عرضت أخيرا بعض لوحاتها في لبنان في إطار معرض جماعي، وأنها تحلم بأن تزور بلدنا يوما، ففكّرتُ في سرّي: "حسنا، لقد عرفتُ الآن من أين تؤكل كتفك يا باولو، ووجدتُ الحليفة المناسبة لإقناعك بالمجيء إلى بيروت قريبا!". يمازح الزوج زوجته، ثم يقبّلها. يدخل إلى المطبخ، يداعب حماته ويقبّلها بدورها، وأخيرا يستفهم من كريستينا عن ثمن شمعدانات من الكريستال جلبتها معها وراحت توزّعها على الطاولات حولنا. غمزني قائلا: "أرأيتِ؟ حتى إن كنتُ مليونيرا، هذا لا يعني أني لا اكترث بثمن الأشياء". مزحة جديدة- هو لا يكفّ عن ذلك- وبضع ضحكات مدوية، ثم نتابع حديثنا من دون ان أحتاج إلى تكرار السؤال، فخيميائي الكلمات لا يدع خيط أفكاره يفلت من قبضة رأسه)
سأقول لكِ لماذا أقيم في الريف. لبضعة أعوام خلت، أدركتُ مرحلة في حياتي سألتُ فيها نفسي: "ما الذي تحتاجين إليه يا ترى؟"، وكان جوابها كالآتي: "أحتاج إلى جهاز كومبيوتر فاعل، وبضع قمصان من نوع جيد، والعدد نفسه من السراويل، وحرية ان أكون على احتكاك مع الحياة.
*وماذا عن الناس؟
أجل، الناس أيضا، احتاج طبعا إلى الناس. في الواقع حياتي اليوم منقسمة إيقاعين: الألليغرو تارة، والأداجيو طورا. الآن عدتُ لتوي من عالم الألليغرو، إذ كنتُ في بلاد الباسك في الأسبوع الماضي، والأسبوع المقبل سأغرق في الألليغرو أيضا إذ إني ذاهب إلى موناكو للمشاركة في منتدى. أما في هذه اللحظة، وهنا، فأعيش مرحلة الأداجيو، إذ إنني منسحب من الأضواء في عزلة بيتي. هل يمكنني أن احتمل استمرار احد الإيقاعين من دون ان يليه الآخر؟ لا.
*وهل لديك طقوس كتابة أخرى سوى مسألة الريشة البيضاء؟ هل تتبع نظاما معينا؟
لا، فأنا لا اكتب بالتقسيط، بل ابدأ الكتاب وأنهيه دفعة واحدة. لا أتوقف إلا عندما اكتب الخاتمة. إنجاز الكتاب الواحد يتطلّب مني ما بين أسبوعين وشهر من الكتابة المتواصلة. هذه هي طريقتي في إنجاز الأمور منذ أيام مراهقتي. لم أكن يوما من محبّي النظام والانضباط، ولطالما كنتُ شخصا متمرّدا.
*تتكلم في صيغة الماضي. أترى لم يبق شيئا من ذلك المتمرّد؟
بل بقي كل شيء! فشعلة التمرّد مهمّة للغاية. هذا لا يعني أن يناضل المرء من اجل حماقات، ولكن من المهم أن يستمر في النضال من أجل الأمور التي يؤمن بها. أنا خبير تمرّد، أو متمرّد متمرّس إذا أردت. أؤمن في الثورة، في التغيير، وأؤمن بأن العالم لا يتحوّل إلا بفضل شعلة التمرّد. لطالما كنتُ- ولم أزل- رجل التطرّف والشغف والحدود القصوى. وفي وسعي أن افهم الأشخاص الملتهبين أو الشديدي البرودة، لكني لا افهم الفاترين على الإطلاق.
*الشغف غالبا ما يوقعنا في ورطات. فإلى أي هاويات أودى بكَ تطرّفك وشغفك؟
لقد انجرحتُ كثيرا. أنا مكسوّ بالندوب، ولكن هل تعلمين شيئا؟ إنني فخور بندوبي. فهي الدليل على أني قد عشت ولم أكن جبانا. قد تكون الشجاعة ميزتي الوحيدة، أكان ذلك في الحب أم في العمل أم في السعي الروحي. ثم إنني لستُ بنادم على شيء. ربما المرحلة الوحيدة التي اندم عليها أحيانا هي عندما أدمنتُ المخدرات. فالمخدرات فخ رهيب.
*أخال انك تتحدّث عن مرحلتك الهيبي، عندما كنتُ تكتب الأغاني لمغني الروك راوول سيشاس؟
نعم، تلك هي المرحلة التي اختبرتُ فيها المخدرات بكل أنواعها، ما عدا الهيرويين. المخدرات خطيرة جدا، ليس لأنها سيئة بل لأنها تمنحنا شعورا جيدا. وأسوأ ما فيها أنها تقتل القدرة على اتخاذ القرارات. تحتجزنا في فردوس مزيف لا يسعنا فيه أن نختار ولا أن نقرر. في مرحلة ما انهرتُ تماما. لكنّي لستُ نادما حقا، إذ أؤمن ان كل شيء في الحياة يحصل لفائدة.
*إذا كنتَ فعلا تعتقد ذلك يا سيّد كويلو، إشرح لي إذا فائدة موت الأطفال جوعا؟ فائدة العنف وعمليات الاغتصاب؟ فائدة التعصّب والبؤس والاضطهاد؟
(لحظات من الوجوم فالصمت فالتأمل) حسنا، إن قلت لك إني اعرف الجواب أكون كاذبا. لا اعرف. لكني اعلم ان ثمة سببا لكل ذلك. ما الذي أفعله من جهتي إزاء هذه البشاعة؟ أحاول أن أقوم بدوري، من خلال المؤسسة الخيرية التي أنشأتها والتي تعنى بالأطفال والمسنين في البرازيل. لا ينفع البحث عن تفسيرات، بل الأجدى أن يقوم كل واحد منّا بما يستطيع وسط هذه المعمعة الفظيعة: ان يعطي، ان يحبّ، ان يتقاسم، أن يكتب...
أن يكتب؟ تصدر اليوم ملايين الكتب التي لا تدفع عجلة العالم قيد أنملة نحو الأفضل. هل تظن أن الأدب يمكن ان يكون عامل تغيير إيجابي في وسط هذه المعمعة التي ذكرت؟
عامل تغيير؟ لا. لكني أعتقد ان الأدب يمكن ان يكون محفّزا. ثمة في كل كتاب نقرأه أمور كنا نعرفها أصلا، ولكننا عندما نقرأها نتماهى مع كاتبها ومع الشخصيات التي تنقلها إلينا، وذلك يثير فينا ردود فعل، كما يمنحنا الشعور بأننا لسنا وحيدين. الأدب يشيّد الجسور: هكذا يمكن كلمات شاعر صيني أن تؤثر في روح رجل إيراني، ورواية كاتب برازيلي ان تلمس روح قارئة لبنانية... أليس كذلك؟
*طبعا، ولكن في الحديث عن البرازيل، أنت تشكّل استثناء بين كتّاب أميركا اللاتينية، الذين تحضر أجواء بلدانهم دائما في كتاباتهم، فنقرأ مثلا كولومبيا مع ماركيز، والبيرو مع يوسا، والبرازيل مع أمادو، الخ... في حين لم تجر أحداث أي من رواياتك في البرازيل. لماذا؟
أولا لأني شديد التجذر في بلادي، ولأني اعرفها. أعرفها إلى حد أن عينيّ لا تملكان البراءة الكافية لكي اتحدّث عنها وأكتبها واراها كما لو ان مخيلتي عذراء. زيدي على ذلك ان أمادو الذي ذكرتِ هو بمثابة أيقونة بالنسبة إلي، ولقد كتب برازيلنا على نحو رائع لا يمكن إزاءه سوى التزام الصمت احتراما. ولكن حتى عندما اكتب رواية تدور أحداثها في البلقان أو اسبانيا أو الشرق الأوسط، فإني اكتب كبرازيلي، وكثر يعجزون عن إدراك ذلك لأنهم يرون العالم المرئي فقط. أنت تعلمين ان في بلادي ليس ثمة فصل بين المقدّس والدنيوي، بين المعلوم والمجهول، بين السحريّ والواقعي...
*ومن هنا يأتي سؤالي الأخير: هل أنت ساحر حقا كما يصفك البعض، أم انك بارع في معرفة ما يودّ الناس سماعه فحسب؟
(بدهاء) من يدري؟ ولكن لا تقولي كلمة "الأخير" هذه. اكرهها، فهي تعني، بالنسبة إلي أنا الكاتب، إننا لن نعود لنلتقي مجددا ابدا. وذلك نذير شؤم.
* أنت على حقّ، لقد فكّرتُ في ذلك بدوري وأنا أقولها. لكأنك تفهم روحي. حسنا إذا، سأطرح عليك سؤالا إضافيا كي نعكس مفعول تلك الكلمة: ما هي العبارة التي غالبا ما تسمعها من قرّائك في جميع أنحاء العالم؟
(بلا تردّد) أنت تفهم روحي!
***
ثم نهض الساحر فجأة وقال لي: "والآن، هيا بنا إلى الخارج نطلق بعض السهام. أنت من برج القوس مثل زوجتي وحماتي، ولا بدّ أنك تحملين غريزة الصيّادة في جيناتكِ. أريد أن أختبر قدراتكِ". هكذا خرجنا إلى الحديقة، وارتأينا أن تكون الرمية الأولى لي بما أني المبتدئة، والثانية له. فاتخذتُ الوضعية التي علّمني إياها، وتحدّيتُ المرمى بنظراتي كما أوصاني، وأطلقت سراح النشّابة. ولكن لم يشفع بي برجي على ما يبدو، ولا رغبتي الجامحة في أن أصيب اللوح الأبيض المستدير، إذ إني أخطأت الهدف بكيلومترات، ولا أعتقد أن أحدا سيجد ذلك السهم يوما داخل الأراضي الفرنسية. أما وقد حان دور كويلو...
هل أحتاج حقا بعد كل هذا إلى ان أخبركم كم هو رامٍ ماهر؟
عن النهار الثقافي
3- 40 2004
إقرأ أيضاً: